مجلة الرسالة/العدد 38/بعد حوادث النمسا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 38/بعد حوادث النمسا

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1934



النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما

3 - الحرب الأهلية وما بعدها

للأستاذ محمد عبد الله عنان

أخذت الحياة البرلمانية في النمسا تنحدر منذ أوائل العام الماضي إلى معترك من الصعاب والعواصف، وألفت حكومة الدكتور دولفوس نفسها في مأزق صعب. ولم يك ثمة بد من أن تنتصر المعارضة - أعني الديموقراطية الاشتراكية - إذا تركت الأغلبية البرلمانية في سبيلها وخصومتها، أو تتوسل الحكومة لبقائها بوسائل أخرى. ولكن وقعت في يوم 4 مارس أزمة برلمانية الفت الحكومة فيها فرصتها ووسيلتها، وذلك أن مناقشة عاصفة حدثت في البرلمان في ذلك اليوم حول تصرف نائب اشتراكي اتهم بأنه وضع ورقتين في صندوق التصويت، واشتد القذف والاتهام والهرج من الجانبين، فاستقال الدكتور رنر رئيس المجلس واستقال الوكيلان، ومن ثم غدا انعقاد المجلس مستحيلاً، إذ لا يستدعيه للانعقاد طبقا لنص الدستور سوى الرئيس أو أحد وكيليه؛ وقدمت الوزارة استقالتها للرئيس ميكلاس فأبى قبولها، وفوض لرئيسها ان يعمل بقوانين الطوارئ، وبذا اتخذت الوزارة صبغة دكتاتورية، واستطاعت أن تصدر بعض القوانين الاستثنائية التي رأت ان الحاجة تدعو إليها مثل رقابة الصحافة، ومنع الاجتماعات والمظاهرات السياسية الخطرة على النظام؛ بيد ان الوزارة ما لبثت أن اضطرت أن توجه كل جهودها لمقاومة خطر آخر. أخذ يشتد شيئاً فشيئاً وينذر مصاير النمسا بشر العواقب؛ ذلك أن الوطنية الاشتراكية الألمانية أخذت منذ استيلائها على مقاليد الحكم في 30 يناير (سنة 1933) تتدخل في شئون النمسا بطرق ووسائل عديدة، وبث الدعاة الهتلريون في جميع أنحاء النمسا دعوة شديدة لتحقيق مشروع الاتحاد النمسوي الألماني (الانشلوس). وضم النمسا لألمانيا كما نعلم غاية جوهرية من غايات الوطنية الاشتراكية الألمانية سجلت في برنامج الهر هتلر منذ إنشاء الحزب الوطني الاشتراكي، وعبر عنها (بتحقيق وحدة الشعوب الجرمانية)، وقد شرحنا فيما تقدم كيف نشأت فكرة اتحاد النمسا مع ألمانيا وتطورت. وكانت الفكرة ما تزال قوية في لدى الكتلة المحافظة حينما ظفرت الوطنية الاشتراكية بتولي الحكم في المإنيا، ولم يكن يعارضها سوى الاشتراكيين الديموقراطيين؛ ولكن السياسة العنيفة الهوجاء التي اتبعتها حكومة برلين إزاء النمسا، كانت كما قدمنا سبباً في انهيار مشروع الوحدة، وكشف عدوان الوطنية الاشتراكية وصلفها وتجنيها في الحال للشعب النمسوي عن فداحة الخطر الذي يهدد استقلاله وكيانه، وأيقن ان هذه الوحدة لا تعني في نظر برلين سوى خضوعه وعبوديته، وثارت حكومة فينا ومن ورائها الشعب كله ضد هذا التجني، وأبدى الدكتور دولفوس حزما وصرامة في قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية التي تنظمها حكومة برلين وتمدها بالمال والنصح، وأجاب الهتلريون بتدبير سلسلة من الاعتداءات والحوادث الجنائية، ولا سيما في فينا وسالزبرج (شهر يونيه). وأجابت حكومة برلين على ذلك بمنع السياح الألمان من زيادة النمسا، وفرضت غرامة فادحة للتصريح بهذه الزيارة، وساءت العلائق بين فينا وبرلين إلى أعظم حد، وشغلت وزارة دولفوس بذلك الخطر الجديد الذي يهدد أمن النمسا وسلامتها، ولم تدخر وسعاً في مقاومته، وأيدها في ذلك خصومها الديموقراطيون الاشتراكيون لأنهم أدركوا الخطر الذي يهدد الديموقراطية إذا ظفرت الوطنية الاشتراكية في النمسا؛ وعمد الدكتور دولفوس إلى العمل السياسي، فزار رومة ولندن وباريس ليثير قضية النمسا باعتبارها مسألة أوربا الوسطى، وليبين أن استقلاها مسالة دولية تهم قضية السلام الأوربي كله؛ فنجحت مساعيه في هذا الشأن؛ واستطاع أن يغنم مؤازرة دول الحلفاء ضد السياسة الألمانية، وأن يحصل على تعديلات هامة في النصوص العسكرية لمعاهدة سان جرمان، إذ سمح للنمسا أن تزيد جيشها ووسائلها الدفاعية؛ وتولى الجنرال فاجوان وزير الحربية وزعيم الحزب المسيحي الاشتراكي (بعد وفاة المونسنيور سيبل) تنظيم القوات الجديدة، ونظم قوات الهايمفر أيضاً لتعاون في تأييد النظام، واستطاع الدكتور دولفوس بكثير من الحزم والشجاعة والجلد أن يحبط تحريضات الدعوة الألمانية ودسائسها، وكاد يفقد حياته في ذلك السبيل، إذ أطلق عليه الرصاص من أحد الدعاة الهتلرين وأصيب إصابة خطيرة (في 3 أكتوبر) ولكنه نجا، ولم يزده الاعتداء سوى شجاعة وإقدام في مقاومة الخطط والدعوات الهتلرية ومطاردة أنصارها في جميع أنحاء النمسا.

في أثناء هذا الصراع كانت الديموقراطية الاشتراكية ترقب مجرى الحوادث. وكانت الخصومة الخالدة بين الديموقراطية والكتلة المحافظة (الاشتراكيين المسيحيين والهايمفر) ما تزال قائمة، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كانوا يؤيدون الحكومة في قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية، ويشتركون معها في خصومة الجبهة النازية (الوطنية الاشتراكية) لأنها خطر فادح على مثلهم وكيانهم، بيد أنهم لم يهادنوا الحكومة في غير ذلك، ولم يتركوا فرصة لمعارضتها والعمل على إسقاطها؛ وكانت الحكومة من جانبها تخشى خطط الديموقراطية ومفاجآتها، خصوصاً مذ تذرعت بالسلطة الدكتاتورية، ورفضت إجراء الانتخابات وإعادة الحياة النيابية، كانت المعركة دائمة مستمرة بين الجبهتين اللتين تشغل خصومتهما حياة الجمهورية منذ قيامها، ولكنها كانت في الأشهر الأخيرة معركة تربص وأهبة، وكان من الممكن بل من الطبيعي أن يقع الصدام بينهما من آن لآخر، كما وقع دائماً خلال الأعوام الأخيرة، بيد أنه لم يكن يتوقع أحد أن تضطرم بينهما معركة الحياة والموت في مثل هذه الظروف العصيبة، ولم يكن يتوقع أحد بالأخص أن تلقى الديموقراطية النمسوية حتفها في تلك المعركة وأنت تختفي من ميدان الحوادث بمثل هذه السرعة.

ولقد شهدنا منذ أسابيع قلائل فقط تلك المعركة الهائلة وتتبعنا حوادثها السريعة بمنتهى الروع والدهشة؛ كانت مفاجأة لم تتضح حتى اليوم ظروفها وبواعثها الحقيقية. ونكتفي بان نقدم هنا خلاصة وجيزة عن تلك الحوادث التي لا تزال ماثلة في الأذهان: ففي ظهر يوم الاثنين الثاني عشر من شهر فبراير، ذهبت سرية من رجال البوليس لتفتش دار العمل (مركز الديموقراطيين الاشتراكيين) في مدينة لنتز عاصمة النمسا العليا، فأطلق الجند الديموقراطيون (الشوتسبند) النار على البوليس القوا عليه القنابل فقتل عدة من رجاله؛

فأرسلت الحكومة في الحال عدداً كبيراً من الجند، ونشبت المعركة الأولى في لنتز بين الديموقراطيين وجند الحكومة، والظاهر أن هذا الحادث الأول كان إيذاناً بنشوب المعركة العامة. ففي نفس الوقت قطع العمال في فينا التيار الكهربائي فعطلت المواصلات، وأعلن الاعتصاب العام؛ وكان ذلك بدء الحرب الأهلية فأعلنت الحكومة القانون العسكري وحشدت القوات بسرعة البرق في كل ناحية، ولم يأتي المساء حتى كانت مدينة فينا تضطرم بلظى معارك هائلة؛ وتحصن رجال الشوتسبند في مساكن العمال الكبرى، ولا سيما في كارل ماركس هوف، وأوتاكرنج وسيمرنج وفلوريتسدورف، وغيرها من ضواحي المدينة الآهلة بالعمال، وأصلوا جند الحكومة وابلا من الرصاص والقنابل، وأطلقت قوات الحكومة المدافع الكبيرة على معاقل الاشتراكيين؛ واستمرت المعارك في اضطرامها وشدتها حتى يوم الأربعاء. ووقعت مثل هذه المعارك في عدة مدن في الاقاليم، ولا سيما بروك وشتير وجراتز واشترك جنود الهايمفر مع قوات الحكومة؛ وأبدى الاشتراكيون شجاعة وبسالة نادرتين في الدفاع عن معاقلهم وأنفسهم؛ واستعملت الحكومة منتهى الشدة والعنف؛ وقبضت على الموظفين الاشتراكيين وعلى أعضاء المجلس البلدي؛ وقررت حل الحزب الاشتراكي الديموقراطي ومصادرة مراكزه وأوراقه وأمواله وصحفه وكل مؤسساته، وصدرت أحكام الإعدام ونفذت على كثير من الاشتراكيين، ولم يأت مساء الخميس 15 فبراير أي لرابع يوم فقط من بدء القتال حتى كانت قوى الاشتراكية الديموقراطية قد حطمت في كل ناحية، وغدت فلولا ممزقة؛ وقبض على عدة من زعمائها مثل رنروسايتز وسفر، وفر الزعيمان باوروديتش إلى تشكوسلوفاكيا؛ وانتهت تلك المأساة الدموية بمقتل ألفين وجرح آلاف من الجانبين؛ واختفت الديموقراطية الاشتراكية من الميدان، واختتمت حياتها القوية الحافلة بسرعة، وقضت الكتلة المحافظة (الاشتراكيون المسيحيون والهايمفر) على خصومها الخالدين لتنفرد بالأشراف على مصاير النمسا

ولقد كان سحق الديموقراطية عملا في منتهى الجرأة والخطورة من جانب الدكتور دولفوس وزملائه وخصوصاً لما اقترن به من العنف والضحايا الفادحة. ومن الصعب أن نقول اليوم كلمة حاسمة سواء في المسئولية أو النتائج؛ فأما من حيث المسئولية فان حكومة فينا ترجعها جميعاً إلى الاشتراكيين، وتقول انه يبدو من اضطرام الثورة في معظم أنحاء النمسا في وقت واحد، ومن شدة المقاومة التي بذلها الاشتراكيون، ووفرة الأسلحة والذخائر التي وجدت لديهم، ومناعة الأبنية التي اعتصموا بها، أن الثورة كانت مدبرة، وأن الديموقراطية الاشتراكية كانت تتأهب للقيام بضربة عنيفة للاستيلاء على مقاليد الحكم؛ بيد أنه يقال في ذلك أيضاً إن الحكومة دلت على مثل هذه الأهبة، وأن ما أبدت من الشدة والعنف في قمع الحركة، ومن قسوة وإفراط في إراقة الدم، ومن تصميم على سحق الديموقراطية الاشتراكية لا إخضاعها فقط، يدل على أنها عملت بتدبير وقصد وتتهمها بعض الدوائر الخارجية فوق ذلك بأنها كانت تعلم في ذلك بوحي من السياسة الإيطالية. وأما من جهة النتائج فان الديمقراطية الاشتراكية كانت سنداً قوياً للحكومة في كفاحها ضد الدعوة الهتلرية، وكانت بطبيعتها هي الصخرة التي تتحطم عليها محاولات الوطنية الاشتراكية الألمانية، فالآن وقد سحقت، فانه يخشى أن لا تستطيع الكتلة المحافظة ان ترد بمفردها عدوان السياسة الألمانية، ومحاولات دعاتها في الداخل؛ واختفاء الديمقراطية الاشتراكية من الميدان يشجع الحركة الفاشستية على الظهور، وقد اشتد ساعدها الآن بالفعل وأضحى لأنصارها (الهايمفر) كبير نفوذ وسلطان في الحكم وفي تسيير الشئون العامة، والهايمفر يملون اليوم إرادتهم على حكومة فينا، وليس بعيداً أن يتحركوا غداً لانتزاع الحكم. بيد أن (الهايمفر) ما زالوا يؤكدون خضوعهم للدستور وولاءهم للحكومة؛ وقد نفوا غير مرة بلسان زعيمهم البرنس شتارهمبرج ما ينسب إليهم من التأثر نوحي السياسية الايطالية؛ وصرح البرنس شتارهمبرج غداة سحق الاشتراكية، بان الفاشستية النمسوية تقتبس حقيقة من مبادئ الفاشستية الإيطالية ولكنها ليست مقلدة عمياء، بل هي تفكر وتعمل طبقاً لظروف النمسا وحاجاتها؛ ولخص برنامج حزبه فقال: أن الهايمفر ابعد ما يكون عن فكرة إرهاق الطبقات العاملة، ولكنهم يعملون لجمع كلمتها حول مثل اجتماعية مشتركة؛ والهايمفر مخلصون لمبدأ الجامعة الجرمانية، ولكنهم أيضاً مخلصون لمبدأ الاستقلال النمسوي، ولا يقبلون بأي حال أن تبسط ألمانيا سيادتها على النمسا، ولا أن تبذل النمسا ذرة من استقلالها في سبيل إرضاء ألمانيا. وهم ينكرون مبادئ السياسة الهتلرية كلها لأنها تنافي مثلهم النصرانية هذا وليس هنالك في الآونة الحاضرة ما يدل على أن الهايمفر يفكرون في القيام بأية حركة لمقاومة الحكومة، وكل ما هنالك بالعكس يدل على أن التفاهم تام بين الفريقين.

وقد اتخذت مسألة استقلال النمسا عقب الحوادث الأخيرة أهمية خاصة، ولا سيما لما تبين من أن النازي النمسويين (الوطنيين الاشتراكيين)، سواء داخل النمسا أو في ألمانيا حيث يحتشد منهم عدة آلاف يتربصون الفرص لتنفيذ خطط حكومة برلين، ويدبرون الوسائل لإحداث انقلاب يمكنهم من انتزاع الحكم. وحكومة برلين هي التي تقوم في الواقع بتنظيم هذه الحركة كلها، وقد انتدبت لذلك عدة من الدعاة والمحرضين على رأسهم الدكتور هابخت، وحشدت من اللاجئين النمسويين قوة عسكرية كبيرة تهدد من آن لآخر باقتحام الحدود والزحف على فينا. وقد غدت مسالة استقلال النمسا مسألة دولية، وانتهت المساعي التي بذلتها حكومة فينا في ذلك السبيل بأن أعلنت إيطاليا وفرنسا وبريطانيا العظمى في تصريح رسمي بأنها ترى وجوب المحافظة على استقلال النمسا كشرط لاستتباب السلم في أوربا، وأبدت إيطاليا اهتماما خاصاً بمقاومة مشاريع السياسة الألمانية لأنها تهدد سلامة حدودها الشمالية ومصالحها في أوربا الوسطى، وتوترت العلائق من أجل ذلك بين ألمانيا وإيطاليا. وانتهت الجهود التي بذلها السنيور موسوليني في ذلك السبيل بأن عقد أخيراً في رومة ميثاق سياسي اقتصادي بين إيطاليا والنمسا والمجر يرمي إلى توحيد الجهود السياسية والاقتصادية بين الدول الثلاث في سبيل رد أي اعتداء يوجه إلى حقوقها أو مصالحها.

وكان من أثر ذلك أيضاً أن قويت الدعوة إلى إعادة الملوكية في النمسا كوسيلة لتقوية استقلالها والقضاء على أسباب الخلاف الداخلي فيها، وليس في معاهدة الصلح (سان جرمان) ما يمنع عودة آل هبسبورج إلى النمسا وعودة العرش النمسوي، ولكن الحلفاء كانوا يعارضون دائماً في هذا العود، بيد أن الفكرة تلقى اليوم قبولا في كثير من الدوائر التي كانت تنكرها من قبل، وقد نشطت هذه الدعوة أخيراً في النمسا، وأقيمت عدة اجتماعات من أنصار الملوكية تحت رعاية الحكومة، وقيل إن الرئيس ميكلاس ينوي الاستقالة من منصبه قريباً ليمهد إلى هذا العود، ولا يوجد في النمسا من يعارض الفكرة الآن بعد ذهاب الديموقراطية الاشتراكية؛ وهي بالعكس تلقى تأيداً من الحزب المسيحي الاشتراكي (حزب الحكومة) ومن حلفائه الهايمفر. ويرى أنصار الفكرة أن عود الملوكية خير وسيلة للقضاء على مشاريع السياسة الألمانية في ضم النمسا (الانشلوس) وأما في الدوائر الخارجية فان إيطاليا وفرنسا اللتين كانتا تعارضان من قبل في هذا العود أشد المعارضة، لا تريان اليوم بأسا منه، وفي وسع فرنسا أن تذلل معارضة حليفتها تشيكوسلوفاكيا وفي وسع إيطاليا أن تذلل معارضة صديقتها المجر، وعندئذ تغدو مسألة عود آل هبسبورج إلى عرش النمسا مسألة تخص النمسا وحدها، وتتوقف على إرادة الشعب النمسوي وحده

(تم البحث) محمد عبد الله عنان