مجلة الرسالة/العدد 379/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 379/البريد الأدبي
الكرم الجارمي
للأستاذ علي الجارم بك شُهرة عريضة بالكرم والجود، وهذه الشهرة
هي التي قضتْ بأن تَكِل إليه وزارة المعارف تحقيق كتاب (البخلاء)
فما كان يمكن الوصول إلى أسرار ذلك الكتاب إلا إذا اضطلع بتحقيقه
رجلٌ خبير بمعاني العرب في العطاء والمنع، والسخاء والشُّح،
وبضدها تتميز الأشياء.
والكرم المأثور عن الجارم هو السبب فيما يقع من تغاضيَّ عن السؤال عنه حين يصطاف بالإسكندرية، فقد كنت أكتفي في تحيته بالسلام على الجدران فراراً من التعرض لكرمه العجاج، وهو كرمٌ قد يطغى فيتلف أمعاء المواهب، وأنا أزهد الناس في هذا الصنف من الجود!
واخطأ من قال إني كنت أتقرب إلى الجارم بترك السلام عليه، وهو قول يُقبل لمعنىً واحد هو توشيته بالبراعة والذكاء ماذا أريد أن أقول؟
أنا أمشي على الشوك في سبيل الوصول إلى عرض القصة الآتية:
منذ آماد طوال دخل الأستاذ سامي عاشور مكتب تفتيش اللغة العربية بوجه مشرق بسام وهو يقول: مبارك يا جارم بك! مبارك يا جارم بك!
فتهلّل وجه الجارم وقال:
- خير، خير!!
- خير جزيل، ولكن هات (الحلاوة)
- يا حلاوة عليك يا سامي بك يا حبيبي يا نور عيني، هات ما عندك هات!
- سيصدر قرار وزير المعارف بعد ثلاثة أيام بترقيتك إلى الدرجة الثانية.
- الدرجة الثانية؟ الله يبشرك بالخير، ما يجيء من الجميل إلا الجميل.
وبعد تروّ لم يطل أكثر من عشر دقائق توكل الجارم على الله وأعلن أن الحلاوة هي وليمة فيها (صيّادية) مطبوخة على أسلوب أهل رشيد! ثم توكل على الله مرة ثانية وقال: وسيكون معنا الدكتور مبارك ليعرف البيت وليحدِّث (أميرة) عن سميّتها في بغداد.
فالتفت إليّ الأستاذ سامي عاشور وقال: ما رأيك؟
فقلت: أفلح إن صدق!
فقال الجارم: سأصدُق لأكفّ شرَّك عني!
ومرّ يوم وأيام وأسبوع وأسابيع وشهر وشهور، ولم يف الجارم بما وعد، وطال التسويف حتى نسيتُ، وهل كنت أصدِّق أن الجارم يسره أن يعرف أحد أين يقيم؟
ولكن الأيام تصنع الأعاجيب، فقد لقيت الأستاذ سامي عاشور ونحن نراقب الامتحانات في إحدى المدارس، وبلغ مني العجب كل مبلغ حين رأيته لا يزال يذكر (حكاية الوليمة الجارمية)!
- ماذا نصنع في قهر الجارم على الوفاء بالوعد؟
- لا أعرف ماذا نصنع!
- نخوّفه بالشعر
- ولكني لا أجيد الهجاء
- وكيف تكون شاعراً إذا كان (الكرم الجارمي) لا يوحي إليك معاني الهجاء؟
وخِفتُ أن يقال: إني لا أجيد الشعر إلا في باب واحد هو النسيب، فصخختُ الجارم بهذه الأبيات:
وما بالجارم الصنَّاج بُخلٌ ... بزادٍ من طعامٍ أو شرابِ
ولكنْ المكارم أتعبتْهُ ... قفرَّ من السخاء إلى الدَّعاب
فإن يُطعمِك في (نيسان) يوماً ... بوعدٍ مثل رَقراق السَّرابِ
فصدِّقه ولكنْ لا تؤمِّل ... نداه ولو صبرتَ لشهر (آب)
فليس بمُنجزٍ في الجود وعداً ... ولو طاردته يومَ الحساب
ثم مضيتُ فأمليتُ هذه الأبيات على جماعة من الموظفين والمدرسين، وترفَّق الأستاذ سامي عاشور فأنفذها إلى الجارم بك على يد رسول بارع في إصلاح ذات البَيْن!
ثم ماذا؟ ثم هرب الجارم إلى رشيد، وهو يزعم أن الإقامة في القاهرة أصبحت لا تطاق بسبب (الغارات الشِّعرية)!
ولكن الجارم سيرجع، وقد رجع بالفعل، فما عسى أن نصنع لنروضه على الوفاء بالوعد.
يرى الأستاذ محمود العزَب أن نشر هذه الأبيات في الأهرام بعد نشرها في الرسالة قد ينفع بعض النفع في إثارة النخوة الجارمية وإلا فسيدعو الأدباء إلى اكتتابُ يعين الجارم على إعداد الصيادية الرشيدية.
أما أنا فأعرف أن الجارم سينكر القصة بحذافيرها، وسيقول: إنها (سمكة رمضان)، لا (سمكة نيسان)؛ وهل تجتمع أهوال الحرب وأهوال الوليمة على رجل في مثل رقة الجارم الصّنّاج؟
زكي مبارك
حول كلمة (تبان)
جاء في عدد (الثقافة) رقم 880 في مقال للدكتور بشر فارس عنوانه (الزاد المهمل) ما نصه: (أخذت معي لباس استحمام أحمر وقميصاً أصفر وتُبّاناً أزرق ثم سلكت في مطاويها ثلاثة كتب). ثم علق على كلمة تبان في الحاشية بقوله: (أعرض لفظة التبان للتعبير بها عن كلمة ويفهم من كلام الدكتور بشر هذا أنه أول من اختار هذه الكلمة للتعبير بها عن كلمة (شورت) غير أننا قد قرأنا في كتاب (وحي القلم) للمرحوم الرافعي ج أول ص200 ما نصه: (وهانحن أولاء قد انتهينا إلى زمن العرى وأصبحنا نجد لفيفاً من الأوربيين المتعلمين رجالهم ونسائهم إذا رأوا في جزيرتهم أو محلتهم أو ناديهم رجلاً يلبس في حقويه تُبّاناً قصيراً كأنه ورق الشجر على موضعه ذاك من آدم وحواء - إذا رأوا هذا المتعفف بخرقه أنكروا عليه وتساءلوا: من. . . من هذا الراهب).
وواضح من هذا أن الدكتور بشر فارس ليس أول من تقدم بهذه الكلمة معبراً بها عن كلمة (شورت) وإنما للرافعي فضل الأسبقية.
(الأبيض - سودان)
ع. ا. سعد
إعادة الحياة إلى خلايا الجسم البشري أذيع في نيويورك أن عالماً ألمانياً كان يقوم باختباراته في مستوصف في قرطبة، استطاع - وهو يحاول درس أنسجة خلايا جسم الإنسان ليعرف هل تموت فعلاً أو لا تموت - أن يرد الحياة إلى أنسجة خلايا جثث المصريين المحنطة منذ 5300 سنة
وقد بدأ هذا العالم - واسمه الدكتور بوزي جراوتز - تجاريبه من عدة سنوات، فتبين له أن الأنسجة البشرية بعد أن حفظت في الكحول منذ 38 سنة أخذت تنمو نمواً كاملاً عندما وضعت في مادة مقوية خاصة.
كذلك يقال إنه أخذت من المتحف الوطني في (لابلاتا) عينات من أنسجة 12 مومياء متوسط عمرها 5300 سنة، وأن هذه الأنسجة وضعت في مواد مقوية فأخذت الحياة تدب في ذلك اللحم البشري.
ويقال أخيراً إن آلة تكبير الصور قد سجلت حركة دبيب الحياة في الخلايا، وأن هذا العالم يقول: إنه حينما يموت الإنسان لا يحدث له سوى انحطاط في الخلايا يبلغ حالة السبات، ولكن هذه الخلايا تكون مستعدة للعودة إلى الحياة في حالات ملائمة.
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت كلمتك النبيلة التي وجهتها إلي في مقالكم السابق بالرسالة الغراء: قرأتها بعني، وأدركتها بقلبي، فكأنما كانت لمشاعري نشوة ذكرى، ولخواطري انتباهاً ويقظة. . . وفهمت منها معنيين! فقد أدركت بل أدرك قلبي أن وراء هذه الألفاظ ألفاظاً أخرى من الشعور لا تقرأ بالعين ولكن يدركها القلب، رأيت فيها تحية نبيلة من أخ عزيز نبيل، وأحسها قلبي عتاباً نبيلاً!
فيا أخي العزيز الكريم. . . لئن تك قد تلفت فرأيت صديقك العزيز محمود البشبيشي، وقد أسعده الحظ بلحظات كلحظات الحلم مرت بخيال مشرّد معذّب. . . فإن قلبي هو الذي تلفت وسمع ورأى! سمع أخاً وفياً، ورأى شقيقاً كريماً.
يا دكتور إن القلوب لتسمع وترى وتتلفت!
علم الله أن الذي منعني من العودة إليك تلك الليلة السعيدة هو مرض ابنتي. . . علم الله أيضاً. . . وتعلم شجرة الكافورة السعيدة (بما كساها الأستاذ الكبير الزيات من النباهة والخلود). . . أنني عدت ثم عدت فلم أجدك.
أخي الفاضل. . . لعل من غريب المصادفات أن أحس قبل مقابلتي لك بأيام رغبة غريبة وإحساساً قوياً وميلاً جامحاً للتمتع بهديتكم الكريمة (النثر الفني). . . ترى هل كانت رغبة في الاطلاع والمعرفة بعد غفوة طالت!!؟ أم هو الشوق إليك جعلتني أتصوَّرك في أسلوبك!! وكم يتجسم الفنان البارع في أسلوبه!!. . . إنها القلوب. . . قلوب الإخوان تتلفت وتشعر وترى. . . وإنه الشعور الحي لغة القلوب!!
والسلام عليك من أخ طالت غربته عن رياض القلم. ولكن لم تزل أوتار نفسه تهتز لكل رائع من الأساليب وفاتن من القول. إنها لا تزال تهتز لأنها تعودت ذلك عن طبع وخلق.
أخوك المخلص
(المنصورة)
محمود البشبيشي
أجوبة عن أسئلة:
وجه إلينا الدكتور زكي مبارك عدة أسئلة، يطلب منا الإجابة عليها، وكان ذلك رده على كلمتنا التي نبهنا فيها على الغلطة التي وقع فيها الدكتور الفاضل؛ والذين يعرفون قوانين البحث والمناظرة يدركون خروج الدكتور عليها، في رده علينا؛ والدكتور معذور، لأنه لم يجد ما يقوله، فكان من الطبيعي أن ينتقل إلى ميدان آخر يصول فيه صولة (البازل القنعاس) وقد كنا نريد ألا نعرض لهذه الأسئلة لأنها ليست مما نحن بسبيله ولكننا خشينا أن يؤول سكوتنا تأويلاً سيئاً، فنجيب بعون الله:
أولاً: قائل هذا البيت هو الشاعر الذي يقول:
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزحام
والذي يقول أيضاً:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طوبت، أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
ثانياً: نظر هذا الشاعر إلى قول علقمة الفحل: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيبُ
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
والمتنبي نظر إلى أبي تمام حين قال:
إذا غدرت حسناء أوفتْ بعهدها ... ومن عهدها ألا يدوم لها عهد
وكان أبو الطيب يتوكأ على حبيب، كما كان امرؤ القيس، يتوكأ على أوس.
ثالثاً: لم يلتفت إلى ذلك ابن رشيق في باب السرقات من العمدة، ولا العسكري في الصناعتين، ولا الآمدي في الموازنة على تحامله المكشوف على أبي تمام.
رابعاً: إذا كان هذا الكتاب جديراً بالالتفات، فلم لم يترجم له الدكتور في (النثر الفني) بين من ترجم لهم من كتاب الأندلس؟ ولم لم يثبت هذه الرسالة بين النصوص الكثيرة التي أثبتها في مؤلفه، على أننا راجعنا مجلدين من نفح الطيب فلم نجد أثراً لهذه الرسالة، فلعلها أن تكون في صبح الأعشى للقلقشندي.
خامساً: الدقيقة التي في هذا البيت هي ورود (وحدها) حالاً من الضمير في لها مع تعرفها، ولكنها تؤول بنكرة فتصير (منفردة) ومثل ذلك قول الشاعر:
فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نَفَص الدِّخال
أي أرسلها معتركة، والدقيقة البلاغية هي: فصل الشاعر بين جملة (كل غانية هند) وبين الجملة السابقة، والفصل هنا واجب لأن بين الجملتين شبه كمال الانقطاع، إذ لو وصل بينهما لتُوهِّم أن الجملة الأخيرة داخلة في ضمن الجملة التي قبلها، فتكون داخلة في ضمن المفعول الثاني لتحسبوا، وهذا غير مراد للشاعر.
سادساً: اختلفت الروايات في (تحسبوا) فرُوي أيضاً هكذا: (فلا تحسبا هنداً لها الغدر وحدها)
سابعاً: متى كان ذلك يا سيدي؟ لعله كان إذ كنت صبياً مرضعاً!
ثامناً: لعل الحلاج التفت إلى هذا البيت حين قال:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
تاسعاً: وجهه: أن تعرب (لها) خبراً مقدماً و (الغدر) مبتدأ مؤخر، وتكون (سجيةَ) حالاً من المبتدأ، ويشكل على ذلك أن الحال لا تأتي من المبتدأ إلا على رأي سيبويه، ويشهد له قول طرفة:
لمية موحشاً طللُ ... يلوحُ كأنه خللُ
وهذا البيت يشهد أيضاً لصحة مجيء صاحب الحال نكرة إذا تأخر.
عاشراً: أجل يا سيدي الفاضل أعرف قائل هذا البيت فهو الذي قال:
إني أنصببت من السماء عليكمو ... حتى اختطفتك يا فرزدق من علِ
أما بعد: فلا نحب أن تشير إلى اسمنا بعبارة كريمة يا سيدي الدكتور (مع الشكر على هذه السنية الكريمة!) ولا يضيرنا أن تتجاهلنا هذا التجاهل، لأنك لست مهما عظمت إلا واحداً من الأدباء. وإليك التحية من أحد أبناء الجيل الجديد.
إبراهيم محمد نجا