مجلة الرسالة/العدد 377/بين مصر والهند

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 377/بين مصر والهند

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1940



للأستاذ أبي الحسنات محمد محيي الدين

كلما درسنا تاريخ قدماء المصريين وتاريخ الهنود القدماء،

لاحظنا وجود التشابه بينهما ظاهرة وواضحة. لذلك نورد هذا

البحث عساه يكون موضع إمعان واهتمام لدى علماء مصر

والهند

الديانة المصرية القديمة

تعتمد العقيدة الرسمية عند قدماء المصريين على أسطورة قديمة ترجع إلى ما قبل التاريخ في نسبتها، وهي عقيدة الثالوث المقدس: (1) أوزيريس إله الإنبات والخصوبة أو إله النيل. (2) إيزيس إلهة الحكمة والتشريع. (3) توت إله العلم والتدبير.

ثم عرتها قوانين التحول والتدرج وانتقلت إلى عقيدة التاسوع المقدس بدل الثالوث المقدس وهي ترجع إلى القوى الطبيعية المؤثرة في الكون وهي: (1) الماء. (2) رع (الشمس) (3) سرا (الهواء). (4) تيفينة (القراغ). (5) جيب (الأرض). (6) توت (السماء). (7) أوزيريس (النيل). (8) إيزيس (الأرض الخصبة). (9) سيت (الأرض القاحلة) أو الصحراء (نيفتيس)

وقد أعطى المصريون لهذه الأشياء صفة الألوهية واعتقدوا أيضاً أن هناك ربّاً هو رب الأرباب وأطلقوا عليه اسم (توم)، واستمرت الحال على ذلك حتى جاء عهد (مينا) الأول فأعلن أن الإلهين (حوريس) خليفة (أوزيريس) في الألوهية و (سيت) عمه وخصمه في دعوى الألوهية قد حلاّ في جسده وابتدأ تأليه الملوك (الفراعنة). ولم يستمر الفراعنة موضع القداسة لحلول الإلهين فقط، بل ارتقى فرعون وصار يحل فيه (رع) كبير الآلهة.

ثم تحولت عقيدة الحلول من الملك إلى الأجسام التي تتصل بالخصب والإنتاج والبذر والأثمار والأحياء التي تمتاز بميزة يعرفها الفلاسفة والكهان، فأحلوا آلهتهم أحياناً في ثور (عجل أبيس) وأحياناً في قط وأحياناً في ثعبان وأحياناً في تمساح.

ولقد وصف بعض الكتاب هذه العبادة قال: (على هياكل المعابد سجف منسوجة بالحرير؛ فإذا تقدمت إلى نهاية المعابد لترى التمثال تقدم إليك كاهن في سكينة ووقار وهو يرتل مزاميره فيزيح قليلاً من الستار ليريك الإله، فلا ترى إلا قطاً أو تمساحاً أو ثعباناً أو حيواناً مؤذياً، فكان إله المصريين دابة ملونة على بساط أرجواني)

هذه هي الديانة المصرية القديمة في أدوارها المختلفة وتلك هي أهم عناصر تكوينها. وبجانب هذا نعرض على القارئين الكرام أهم نواحي الديانة الهندية القديمة لنقارن بين الديانتين فنقول:

الديانة الهندية القديمة

تدل الأسفار القديمة والآثار العتيقة التي ترجع نسبتها إلى ما قبل التاريخ على أن قوام الديانة الهندية القديمة هي القوى المؤثرة في الكون وهي الأقانيم الثلاثة المكونة من (1) براهما (الشمس) الإله الخالق للكائنات وهو إله العلم والتدبير، والحكمة والتشريع (2) سيفا (النار) إله القضاء والسحر والفناء (3) فشنو (الأرض) إله الرحمة والخصوبة والسقاية (الكنج وجمنا وبراهما بوترا وغيره من الأنهار المقدسة)، ثم لم يلبثوا أن جسدوها واعتقدوا حلولها في بعض الأجسام فأقاموا التماثيل وعبدوا الأصنام لحلولها فيها فتعددت آلهتهم حتى بلغت ستة وثلاثين من الماء (الأنهار) والهواء والسماء والشمس والأرض الخصبة والقاحلة والأشجار والأثمار وغيرها من الأجرام الأرضية والسماوية فأحلوا آلهتهم في الأحياء التي تتصل بالخصب والإنتاج والبذور والأثمار والأجسام التي لاحظوا فيها ميزة فعبدوا الحيوانات المخيفة المؤذية كتنين مفزع وتمساح هائل مخيف وعبدوا البقر والفيل وهلم جرا.

كل هذه الأشياء قد بلغت إلى درجة الألوهية في نظرهم، لهذا أقاموا لعبادتها معابد وصوامع وزينوها على النمط المبين في وصف الكاتب المؤرخ للمعابد المصرية وهياكلها. واستمرت الحال على ذلك حتى اعتقدوا أن بعض آلهتهم حلت في جسم الإنسان وهو الملك، ومن ثم ابتدأت عقيدة تقديس الملوك أو حلول اللاهوت في الناسوت، ولا تزال هذه العقيدة باقية في كثير من نواحي الهند كبلاد الأراكن وجزيرة برما وتيبارا في شرق البنغال وآسام وغيرها من المناطق التي يدين سكانها بتأليه الملوك. واعتقدوا أيضاً أن هناك إله الآلهة وسموه (آتما)، أي الإله الأكبر

هذه إلمامة موجزة لما في الديانتين القديمتين من التشابه، وهو من الوجهة الدينية، وكذلك الحال من الوجهة الاجتماعية العامة من الأخلاق والآداب والعادات والتقاليد، كما لا يخفى على الباحث المدقق والدارس المحقق

يتساءل الباحث ما هو وجه التشابه بين الديانتين القديمتين؟ وهل كانت هناك بين الأمتين علاقة دينية أو ثقافية أو اجتماعية؟ وهل كانت أسباب المواصلات بينهما متوافرة؟ أم كانت هناك جماعة رحالة طاب لها المقام فاستقرت أم ضاق بها المعاش فانتشرت؟ أم طردها العدو فالتجأت؟ وحملت معها الديانة والمدنية والحضارة والثقافة والتقاليد والعادات وغيرها من المقومات الضرورية للحياة، فعلى هذا أين كان موطنها الأصلي؟ مصر، أم الهند؟ وما الذي دفعها للنزوح إلى ما وراء البحار؟

كل هذه الأسئلة تمر بخاطر الدارس من غير شك، ومفتاحها تصفح التواريخ السيكولوجية للأمتين للبحث عن نفسيتهما وعقليتهما وميزاتهما التي تمثل أصل حضارتهما، وتتبع النقوش في المعابد التي لم يؤثر فيها كر الغداة ومر العشى، وكل ذلك يشير إلى أن في طيات ذلك الدفين لم ينشر بعد من قبره حضارة زاهية اشتركت في تكوينها جميع أفراد هاتين الأمتين بيد أن أكثر تلك الآثار لا تزال مبهمة ولم يبين كنهها، ولا يزال البحث جارياً لكشف ذلك، وقد أخذت الأسباب تتوافر ومادة الاستقراء تتكون بفضل الأجهزة العلمية الحديثة. وهانحن أولاء ندعو علماء مصر والهند للتعاون على هذا الموضوع التاريخي. فهل من مجيب؟

أبو الحسنات محمد محيي الدين

(طاغور) الهندي