مجلة الرسالة/العدد 376/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 376/رسالة الفن
بالفن إلى الله:
(هاللويا) كما قال داود!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
روح قوية جارفة، وجسم قوي حديد، الروح نزاعة إلى لذتها وسعادتها في أعلى عليين، والجسم نزاع إلى راحته ومتعته في أسفل سافلين، وصاحبهما بهما مسكين، يرتفع وينخفض، و (ينشال) وينحط، ولا يملك أن يستقر، لا في الأرض ولا في السماء، فهو في تخبط دائم ما بين مسمى روحه وما بين مهبط بدنه كأنه مجنون، أو هو مجنون، والفنون جنون. . .
مني على الدنيا السلام
آخر ما غنى في حياته دور (أنا هويت)، وآخر بيت في هذا الدور هو:
ما دمت أنا بهجره ارتضيت ... مني على الدنيا السلام
وراج دور الوداع هذا في الناس، وسمعه أولئك الذين كان يحبهم سيد درويش، ومن بينهم تلك التي ظل يغني لها طول حياته على البعد منها وعلى القرب، فلم يشعر الناس ولم تشعر هي بشيء وراء هذا الكلام، لأنه لم يكن أحد يتوقع الموت السريع لهذا المغني الشاب المملوء صحة والمملوء حياة. . .
إلا هو. . . فقد كان يتوقع الموت وينتظره ويهيئ له نفسه. . . دعا صديقه الأستاذ بديع خيري إلى بيته بعد هذا الدور وقبل وفاته بأيام، وجلس معه في حجرة علقت على أحد جدرانها صورة من صوره، وفيما هما يتحادثان سقطت الصورة المعلقة، فالتفت إليها سيد، ثم التفت إلى صديقه بديع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له صديقه بديع: إن هذا حق، ولكن ما الذي أجرى بهذا الحق لسانك، فقال له سيد: ليس لسقوط هذه الصورة معنى إلا أني سأموت. فقال له بديع: إنك مجنون، وكان بديع يقصد بقوله هذا أن ما جال في ذهن سيد ليس إلا وهماً خيله له الجنون، بينما الحق أن الذي جال في ذهن سيد ليس إلا علماً يكشفه الجنون.
آمن سيد بأنه ذاهب، إيمان الجنون، فخف من القاهرة إلى الإسكندرية ليودع ليلاه، وإن كان قد أعلن لنفسه وللناس عزمه على السفر إلى إيطاليا، فهو لم يكن يعرف عن نفسه أنه يعلم الغيب وما كان أحد يعلم الغيب، وإنما هو اضطراب يتلاطم فيه إحساسه بتفكيره، فهو يقول القول أو يعمل العمل منطلقاً وراء شعور كامن في نفسه قد يميزه وقد لا يميزه، فإذا ميزه اطمأن عقله إلى تبريره، وإلا اضطر عقله إلى السعي وراء تبرير ما يطمئن إن حقاً وإن زوراً. . .
بينه وبينها
سيموت وسيسافر إلى إيطاليا. . .
زارها، أو استدعاها، أو التقى بها
- بأي شيء جئت لنا من القاهرة؟ مانجة؟
- لا. . . بل (بأنا هويت)
- سمعته
- وما رأيك؟
- (أنا عشقت) أحسن
- أحسن أو غير أحسن. . . إني انتهيت
- وكيف؟
- سأموت. . . قريباً جداً. وبعدها ستدركين أنك قد خسرت شيئاً كان يجب عليك أن تكرميه عندما كان بين يديك. . . أعوذ بالله منك. . . كل الناس يهتزون ويرتجون لهذه الأغاني التي أذيعها فيهم إلا إياك. . . جامدة كأنك الحجرة، ومع أني أعلم أنك حجرة فإني لا أغني إلا لك أنت وحدك. حقاً هو قضاء الله وقدره، وليس لقضاء الله وقدره رد ولا دافع.
- الكوكايين أفقدك عقلك. . .
- الكوكايين هجرته. . .
- ولكن بعد أن قضى عليك. . .
لم يقض عليّ أحد غيرك. . . إن مت فدمي في يديك، وإنه يتساقط من بين شفتيك. . . لقد شربت منه حتى ارتويت وحتى جفت الحياة فيّ. . .
- مجنون
- ولم أجن إلا بك. . . لو أنك أعطيتني من روحك مثل الذي أخذت من روحي لكنت عشت غير ما عشت، ولكنت غنيت غير ما غنيت. . . ولكن الحمد لله. . . فما في روحك خير، وما كانت مثلك لتلهمني شيئاً. . .
- ولكني ألهمتك
- كلا. . . وإنما ألهمني البعد عنك، والحرمان منك. . . قد كنت أستطيع أن أستبدل بك صنماً، قد كنت أستطيع أن أعشق عوضاً عنك سلحفاة أو ثعباناً. . .
- هل تقول (ثعباناً) يا سيد. . . إنني لم أضرك مع أني كنت أستطيع أن أضرك، وأنت تعرف أني أستطيع أن أضرك يا سيد. . . فهل هذا جزاء الرحمة مني
- إنك لم تكوني تستطيعين لي ضراً، كما أنك لم تكوني تستطيعين لي نفعاً، وربما كنت تستطيعين لي ضراً لو أنك كنت رأيت غيري أحبك. . . ولكن أحداً غيري لم يحبك. . . وإن كان أحد غيري قد أحبك فكما تعرفين الحب عند الناس. . . كلام يقولونه هو التغرير والغش. . . هو الخداع يرمون من ورائه إلى اللهو بك والعبث بجسدك. . . أنت تعرفين هذا، وأنت تعرفين أني وحدي الذي تحدى شرك بخيره، وكذبك بصدقه، وخيانتك بوفائه، ودعارتك بطهره: إن حبي لك كان تكفيراً عما أسأت إلى أهلي ونفسي. سأقف به أمام الله وأقول له يا رب يا من أودعت هذه الأفعى من فنك سحراً غلفته بالموت والسم. . . أنا وحدي من خلقك الذي رأى هذا الحسن وتغنى به. . . فاغفر لي يا رب كل ما ارتكبت من سوء وشر فما هما إلا آثار السم في نفسي.
- يا سيد. . . يا سيد. . . ليست هذه المسرحيات بجائزة عليَّ أنا جازت على الناس طراً. . .
لست (أتمسرح) عليك، وإنما هذه هي روحي. . . هذه هي نفسي. . . ولو لم أكن هكذا طلقاً حياً فيضاً لما استطعت أن أجرف من جرفت من أهل الفن العتاة على رسوخ أقدامهم في الميدان الذي جندلتهم فيه، وعلى ثبوت أشباحهم في الحلبة التي صرعتهم فيها. . . خبريني. . . من منهم استطاع أن يتماسك أمامي. . . من منهم قاومني ولم يفر من طريقي. . . من منهم ارتفع له صوت منذ ارتفع بالغناء صوتي. . . كلهم ذابوا. . . لأنهم هم الذين كانوا يمثلون ويتكلفون ويتصنعون، أما أنا فإن غنيت فإنما أغني من قلبي، وإن تحدثت فإنما أتحدث بروحي. . . أنا الأصل الذي يمثله أولئك وغيرهم. . . وأنت تقولين عني إني أمثل. . . أنا يا هذه سابق جيلي. . . أنا يا هذه ستقدرينني بعد موتي. . . وإني لأشعر بأن الغيب يضمر كاتباً صغيراً سيطرق هذا الدرب الذي طرقته، وسيذوق هذا المر الذي ذقته، وأنه سينصفني منك. . . أنصفه الله من ثعبانه هو أيضاً. . .
- هو؟ من هو؟
- لا أدري!
- مجنون!. . . هل لك في كأس؟!
- هات كأساً وكأساً وهات العود. . . وهات شمة إذا كان عندك. . .
- أما قلت إنك هجرته. . .
- والآن بفضل عطفك وحنانك رددته. . .
. . . وجاءت له بالعود، وبالخمر، وبالكوكايين. . . ودعت له أتباعه وأصدقاءه. . . وجلست إليه وراح هو يغني. . .
وظل يغني. . . ويغني. . . وليلتها مات!
هاللويا
فأي شيء غنى ليلتئذ. . .
غنى (أنا هويت). . .
ولكن كيف غناها؟. . .
غناها كما كان داود يرتل مزاميره. . . كانت روحه تتقلص من بدنه في كل شهقة وفي كل زفرة. . . كان ينتفض فزعاً من دنياه إلى بارئه شكاية، وتسبيحاً. . .
كانت نفسه تصغي إلى النداء الآتي من الغيب في خفوت لا تسمعه الأذن وإن استجابت له الروح. . .
كان يقول لربه: لبيك لبيك يا رب. . . قالها معنى وإحساساً ونغماً وإن لم يفصلها لسانه لفظاً وحرفاً. . .
لقد بكته
وبعد أن رحل سيد أدركت الظالمة أنها كانت ظالمة، وأخذت تراجع نفسها وتسائلها: لماذا ظلمته؟ ولماذا حرمته مما كان يطلبه منها على أنها كانت تعطي غيره ممن هم دونه حلاوة وبهاء وروعة ما كان يسعده بعضه لو أنها أعطته بعضه. . .
وأخيراً أدركت السر.
عرفت أنها كانت تغار منه.
قد كانت هي غانية، وقد احترفت العبث بالنفوس وأتقنت هذا العبث، وقد استهوته أول ما استهوته بدمعة ذرفتها من عينها عمداً، وشكوى مدبرة باحت له بها قصداً، لما رأته يتردد على مجلسها مغنياً تتعالى روحه عليها، فما ينظر إليها نظرة الإعجاب المغرضة المتعجلة التي كان يوجهها إليها الناس جميعاً، وإنما كان يراها كما يرى الإنسان الإنسان، ويفتح لها نفسه كما يفتح الصديق نفسه لصديقه. . . وقد رأت في نفسه صورة قديمة لغرام قديم علمت أنه الذي يشغله عنها. . . ورأت هذه الصورة القديمة أحاطها بإطار من الإخلاص والإجلال اشتهت لنفسها مثلهما. . .
فزحفت إليه. . . ولكنها فشلت معه في كل محاولة حاولتها. . . وأخيراً صرعت هذا الجبار بالدمع. . . والدمع آخر سلاح تلجأ إليه المرأة، وهي إن لجأت إليه لم تنس فيه مرارة الذل الذي دفعها إلى حمله. . . فإن أفلحت به في اقتناص فريستها، فالويل بعدئذ لهذه الفريسة فلن ترضى المرأة منها إلا بدمع ودمع ودمع ودمع. . . ولن تعطي هي بهذا الدمع شيئاً لأنها تذكر دائماً أنها سبقت وسفكت قبله دمعاً. . .
هو ثأر!
والجبار يحتمله لأنه يذكر دائماً أن الذي صاده ذل، وكل جبار شديد العطف على كل ملوع بائس. . .
استدرجته إذن بهذا. . . ثم راحت تجمع الناس عليه، فإذا بالناس ينفضون عنها إليه، مع ما كانت تتفنن في لفت الأنظار أو الأسماع إليها في حضور سيد، فإن الأنظار والأسماع والأفئدة كانت تنفر منها إليه فقد وجدت فيه غذاء للأرواح ومتعة. . .
وهكذا أصبح الثأر ثأرين. . .
وبعد موته. . . نسبت هي هذين الثأرين، وحز الأسى في نفسها حزاً إذ فقدت الذي آمنت أخيراً بأنه كان خيراً منها ألف مرة وأنه مع هذا كان يحبها كما قال قضاء وقدراً. . .
لـ الفاتحة
(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. إهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم. ولا الضالين. آمين. . .)
. . . آية من فن الله الأسمى. هي خير ما يهدي إلى روح الملهم الذي غنى، فأطرب وأشجى، وأضحك وأبكى، وسبح بالهدى فناً، نغماً ولحناً، ما أجهده الفن وما أضنى، وإنما كان وحياً يوحى. تبارك الذي أوحى.
عزيز أحمد فهمي