مجلة الرسالة/العدد 374/على هامش الحرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 374/على هامش الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1940



الطابور الخامس في القرآن

المنافقون

للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة

(لم ظهر النفاق في المدينة؟ - رأس المنافقين - أعمالهم

وصفاتهم زمن السلم - إظهار الإسلام وإخفاء الكفر الطعن في

النبي وآله - السعي في التفريق بين المسلمين)

قدمنا في المقال الثاني والثالث أن الجماعة الأولى من الطابور الخامس في القرآن هم اليهود، وذكرنا بتفصيل مقدار خطرهم وضررهم على النبي ودينه وأصحابه، والنوع الثاني أو الجماعة الثانية هم المنافقون:

كان بجانب اليهود جماعة من أهل المدينة وممن حولها من الأعراب تعمل جهدها سراً وجهراً على إضعاف الإسلام وتود أن يفنى المسلمون وتذهب ريحهم. أولئك هم المنافقون الذين لم يكن لهم وجود وعمل إلا بعد الهجرة، ويقول اللغويون أن النفاق كلمة لم توجد في الجاهلية، وإن القرآن قد جاء بها وصفاً لطائفة تبطن الكفر وتظهر الإيمان رغبة في الاستفادة من مغانم المسلمين، وفراراً من أثر الهزيمة إذا دارت على المؤمنين دائرة الحرب، وأملاً في استئصال النبي ودينه بطريقة مستورة

أما سبب ظهورهم بالمدينة دون مكة، فهو أن النبي قام يدعو إلى دين الله بمكة وهو وحيد، فعارضه أكثر أهلها وبخاصة الأشراف منهم حتى أشراف عشيرته الاقربين، فلم تكن بالذين تخلفوا عنه - وهم أهل الشرف والعزة بمكة - حاجه أن ينافقوا؛ وباعد بينهم وبين الدخول في الإسلام سراعاً خوفهم من ضياع مركزهم الأدبي وسلطانهم القبلي وتمسكهم بما كان عليه آباؤهم من دين وعادات

وكان الأمر على العكس من ذلك بالمدينة، فقد أسلم الكثيرون من سادتها وكبرائها وتبعهم أكثر أهلها، وزاد الإسلام فيها قوة بمن هاجر إليها من السابقين الأولين من المهاجرين، ورَبَا عدد المسلمين فيها من عَدَاهم، فشعر المتخلفون عن الدين الجديد بضعفهم وعدم استطاعتهم المجاهرة بما في قلوبهم، ورأوا أن النفاق أسلم عاقبة وأشد خطراً وأعظم أثراً، ورأوا من الحكمة أن يقولوا: (آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)، وأن ينتظروا الفرص السانحة لطعن المسلمين كما كان ذلك ممكناً

وكان رأس المنافقين بالمدينة عبد الله بن أُبي بن سلول، وكان شريفاً من أشراف يثرب، يطمع في أن تكون له السيادة والحكم فيها؛ فلما جاء النبي إليها وخضع أهلها لسلطانه ودانوا بمبادئه وعقيدته، ضاعت الفرصة من أبن أُبي، وأحزنه أن يكون ضياع سلطانه المنتظر، وخيبة أمله في السيادة، آتياً من رجل غريب عن يثرب، أخرجه قومه، وشردوا أصحابه في الآفاق. ورأى من الحكمة أن يُدارى، وان يدخل فيما دخل فيه الأكثرون ظاهراً، وإن لم يستطيع أن ينزع من قلبه المرض الخفي الذي ملأه نفاقاً، وسَالَمَ الرسول، وآمن بلسانه وفي نفسه ما فيها، حتى إذا حدث ما يدعو إلى إظهار الكفر سارع فيه ونال من المسلمين بلسانه ومكايده، وخذلهم في الحرب ووقت الشدائد.

وقد بين القرآن صفات المنافقين عامة، وهي صفات تدل عل أنهم كانوا من أشد أنواع الطابور الخامس أذى، وكان منهجهم في السلم أن يظهروا الإيمان، وأن يطعنوا في النبي وآله ويفروا من حكومته، ويرفضونها، وأن يفرقوا بين المؤمنين

أما الأمر الأول، وهو حقيقة نفاقهم فمذكور بتفصيل في الآيات الكريمة: (ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الأخر، وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا. وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً. ولهم عذاب أليم بما كانوا يكسبون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء؛ ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوْا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون). وكانوا إذا جاءوا رسول الله أقسموا أنهم يشهدون أنه مرسل من ربه ليستروا نفاقهم بهذا القسم. وكان أبن أُبيٍّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وكان قوم من المنافقين في مثل صفته، يحضرون مجلس رسول الله ، فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم، فنزل قوله تعالى في السورة المسماة باسمهم: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم أنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جُنّة فصدُّوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون. ذلك بأنهم أمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون. وإذا رأيتهم تعجبُك أجسامهم، وإن يقولوا تسمعْ لقولهم كأنهم خشب مسنَّدة، يحسبون كلَّ صيحة عليهم، هم العدوُّ فأحذرْهم قاتلَهم اللهُ أنى يؤفكون)

وأما طعنهم في النبي فكان كثيراً، وكان من الطعن الذي لو ثبت لكان هادئاً للرسالة، وقاضياً على صاحبه، فكانوا يتهمونه بأنه يأخذ بعض المغانم ويستأثر به على غير علم من أصحابه. روى أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أُصيبَ من المشركين، فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله أخذها، فنزل قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)

ولم يسلم آل البيت من مطاعنهم، فقد اشتركوا في حديث الإفك، وادعوا على عائشة أنها خانت النبي، وكان الذي تولى كبر هذا الإفك من المنافقين، وهو أبن أُبي

أما حديث الإفك فهو أن الرسول الكريم كان يأخذ معه بعض نسائه في الغزوات، وكانت عائشة معه في غزوة بني المصطلق، وكانت صغيرة السن، خفيفة الجسم، فنزل الجيش ذات ليلة، ثم ارتحل، وحمل هودج عائشة على جملها، ولم يدر حاملوه إن كانت فيه أم لا.

كان يجيء وراء جيش المؤمنين صفوان بن المعطل يحمل ما يكون قد تخلف من الجيش، فلما رآها غض بصره، وأركبها ناقته، وعاد بها إلى المدينة. فلما مر بابن أُبي قال: من هذه؟ قالوا عائشة. فقال والله ما نجت منه ولا نجا منها، ثم قال: امرأة النبي باتت مع رجل ثم جاء يقودها! وانتشرت مقالته، وسمع النبي الخبر، فأحزنه ذلك أشد الحزن، لأنها كانت أحب نساءه إليه، فهي بنت الصديق صاحبه في الغار، ورفيقه في الهجرة، وهي التي أختارها الله لنبيه، وزوجها له بوحيه. فما هذا؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم!

استشار النبي أصحابه في الأمر، فأشار بعضهم بطلاقها، وظن بعضهم خيراً، ولم يشك في طهارة بيت النبوة، ومرضت عائشة زمناً وهي لا تدري من أمر هذا الإفك شيئاً. وحزن أبو بكر أشد الحزن، وحزن المسلمون حزناً عظيماً، وتطرق الشك إلى نفوس بعض الناس. فكيف يكون الموقف إذا تطرق الشك إلى بيت النبوة؟ وما يكون مركز المسلمين، وهم عرب، للعرض عندهم شأن أي شأن؟ وهل يبقى ضعاف الإيمان أتباعاً لمحمد إذا ثبت على زوجته ما رُميت به من زور وبهتان؟ لابد من وحي يبرئها، ويثبت طهارتها، ويلعن من افترى عليها، وبخاصة رئيس العصبة التي جاءت بالإفك، وهو رأس المنافقين، ونزل قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفكِ عُصبةٌ منكم، لا تحسبُوهُ شراً لكم، بل هو خير لكم، لكل امرئٍ منهم ما أكتسب من الإثم، والذي توّلى كبْرَهُ منهم له عذابٌ عظيم) فثبتت عفة عائشة وطهرها، وحد الرسول من جاءوا بالإفك حد القذف، ولعنهم الله في الدنيا والآخرة، إلا الذين تابوا. ورد الله كيد أبن أُبي في نحره، ونجا الإسلام من الفتنة التي أرادها بالطعن في الصديقة بنت الصديق.

وكانوا يأبون الاحتكام إلى النبي وإلى كتابه إلا إذا كان على وفق هواهم. وفي ذلك يقول الله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالَوْا إلى ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسول، رأيتَ المنافقينَ يصدُّونَ عنك صدوداً). وأبى الله أن يقبل منهم إيماناً إلا إذا قبلوا حكومة الرسول عن طيب خاطر. فقال: (فلا َوَرِّبك لا يؤمنون حتى يُحَكِّموك فيما شَجَرَ بينهم، ثم لا يَجِدُوا في أنفسِهم حَرَجاً مما قَضَيْتَ، ويُسَلِّموا تسليماً)

وكانوا يستمعون من المؤمنين ويعرفون أسرارهم وخططهم الحربية، وما في نفوسهم من ثقة بالفوز أو خوف واستشعار، ويذيعون ذلك ويتحدثون به، فيبلغ الأعداء، فيكون في ذلك مفسدة؛ قال الله سبحانه: (وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذَاعوا بهِ، ولو رَدُّوه إلى الرسول وإلى أُوِلي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الذين يَسْتنبِطونه منهم)

وكان من أسباب نفاقهم أنهم كانوا يودون الربح من وراء هذا النفاق؛ فإن انتصر المؤمنون قاسموهم في الغنائم، وإن انتصر المشركون انحازوا إليهم، وبينوا أن ذلك كان من فضل نفاقهم، وأولئك هم الذين وصفهم الله للنبي الكريم في سورة النساء فقال: (الذين يتربصون بكم، فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم؟ وإن كان للكافرين نصيبٌ قالوا ألم نسْتَحْوِذْ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟)

وكانوا (يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة؟ فإن العزة لله جميعا) ويعدون الذين كفروا من أهل الكتاب أن يكونوا معهم على النبي وأن يخرجوا معهم من المدينة إذا أخرجهم المؤمنون منها، كما بين سبحانه ذلك في سورة الحشر، قال سبحانه: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب) وهم بنو النضير (لئن أُخرجتم لنَخْرُجَنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم. والله يشهد إنهم لكاذبون) فقد أُخرج بنو النضير من المدينة ولم ينصرهم المنافقون ولم يخرجوا معهم بل بقوا في المدينة يخذلون المؤمنين في الحرب كما خذلوا بني النضير، ويلتمسون المعاذير لقعودهم في الجهاد في سبيل الله كما سيأتي بيانه

وكانوا (لا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالَى، ولا يُنْفقون إلا وهم كارهون)

ولم يسلم النبي من سخطهم عليه في توزيع الصدقات. فكانوا يتهمونه بعدم العدالة في تفريقها إذا لم ينلهم منها شيء (ومنهم من يَلْمِزُكَ في الصدقات. فإن أُعْطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطون)

وكانوا يتهمون النبي بالغفلة، وأنه يصدف كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، وهم الذين قال الله فيهم: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أُذنٌ، قل أُذنُ خَيْرٍ لكم، يؤمنُ بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)

وكانوا يستمعون آيات الله ويهزءون بها، كما كان يفعل أهل مكة من المشركين. وكانوا يفعلون ذلك عل مسمع من المؤمنين وفي مجالسهم، فنهى الله المؤمنين عن مجالستهم ماداموا على هذا الاستهزاء، وأوعد الكافرين والمنافقين أن يجمعهم في جهنم، وقال للمؤمنين: (وقد نزَّلَ عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأُ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا مثلهم - في الإثم لا في الكفر - إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً)

وكان منهم قوم ماهرون في إخفاء النفاق وستر الكفر إلى درجة عظيمة، فخفي أمرهم حتى على النبي، وهو اللبق الفطن، الذي لا يعدله أحد ذكاء وقوة وفراسة، وشدة فطنة، وخاطبه الله فيهم قائلاً: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم)

وفي غزوة بني المصطلق أرادوا أن يفرقوا بين المهاجرين والأنصار، وأوعد عبد الله أبن أبي المهاجرين أن يخرجهم من المدينة. وتفصيل ذلك أنه بعد انهزام بني المصطلق بقيادة رئيسهم الحارث بن ضرار عند ماء يقال له (المرْيسيع) في السنة السادسة من الهجرة، تزاحم مهاجرٌ وأنصاري على ماء، فلطم المهاجرُ الأنصاري، وكان هذا حليفاً لأبن أُبي، فلما سمع ابن أُبي الخبر أخذته حمية الجاهلية، وأراد أن يغري الأنصار بالمهاجرين، وقال: والله ما صحبنا محمداً إلا لنلطم! والله ما مثلُنا ومثلُهم إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. وأما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ. وعنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله. ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، وأما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. فسمع بذلك زيد أبن أرقم وهو حَدَث، فقال له: أنت والله الذليل القليل في قومك، ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين. فخاف أبن أُبي العاقبة. وأخبر زيدُ رسول الله الخبر، فأراد عمر أن يضرب عنق أبن أبي، فقال رسول الله: إذن ترعد أنف كثيرة بالمدينة. أليست هذه النتيجة التي تحاشاها الرسول هي ما يسعى إليه المنافقون؟ فأقترح عمر أن يقتله رجل من الأنصار. فقال النبي الكريم: فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ ثم قال النبي الكريم لعبد الله: أأنت صاحب هذا الكلام؟ فحلف بالله ما قال، وإن زيداً لكاذب. ولكن الله كذبه وصدق زيداً بقوله: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى يَنْفُّضوا ولله خزائن السماوات والأرض، ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذَلَّ. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)

هذه أعمال المنافقين ومكايدهم، وغايتهم منها استئصال الإسلام وطرد النبي من المدينة، وتنفير الناس من دينه بإشاعة السوء عنه وعن أهله، وإنشاء ذلك المسجد آخر الأمر ليدبروا فيه دسائسهم، ولكن الله كان لهم بالمرصاد، وانكشفت حقائقهم ونجا المسلمون من شرهم؛ ثم نُهُوا عن مصافاتهم والانخداع بأقوالهم. أما أعمالهم التي رغبوا أن تجر الويلات على المسلمين في الحرب فموعدنا بها العدد القادم.

عبد الرزاق إبراهيم حميدة