مجلة الرسالة/العدد 374/بمناسبة الأربعين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 374/بمناسبة الأربعين

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1940



الفكر الهامد

مرثية المرحوم الدكتور أدهم

عَجَّلْتَ رَحْيَلكَ دُونَ أَنْ تَلْقاني ... يا أَطْيَبَ الإخوانِ والخُلاّنِ

ما كنتُ أَحْسَبُ أَنَّ وَعْدَكَ باللقَى ... وَعْدُ الرُّؤَى خُدِعَتْ به العَيْنانِ

نَبَأٌ فُجِعْتُ بهِ، وَأَيَّ فجيعةٍ! ... أَلْقَى عَلَيَّ كَلاَ كِلَ الأحْزانِ

مَا زِلْتُ أَقْرَأُهُ وَأَخْدَعُ ناظِري ... حَتَّى تحطَّمَ في الشجونِ كِيَاني

أنا مَنْ فَقدْتُ بكَ الوفاَء مُجسماً ... وفَقدْتُ بَعدكَ رَاحةَ السُّلوَان

عُمر كَلمَّاعِ الشَّهابِ طَوى الدُّنى ... حتى تعثَّرَ في دُجى الأشجان

لو مُدَّ فيهِ أتى بأروعِ آيةِ ... لكنهُ قدرٌ من الرحمن. . .

لي فيكَ أخلاقٌ كَسيماءِ الضُّحَى ... وشَمائلٌ وردِيةُ الأرْدَانِ

وإباءُ نَفسٍ لم يُطأطأ هَامَةُ ... عَنتُ السَّقامِ وَغَارَةُ الحَدَثان

وذَكاءُ ذِهنٍ كالأشعَّةِ نافِذٌ ... فيما وراَء دَقَائق العِرفانِ

وطُموحُ نفسٍ في تَوَقُّدِ خَاطِر ... وصَفَاءُ فِكرٍ في اتِّقادِ جَنَان

وصَراحَةٌ كالشمسِ تلقي رَأيَها ... حُرّاً بغيرِ تَمَلُّقٍ ودِهان

ما قُلتَ في السِّرِّ الحَصينِ مَقالةً ... غير الذي تُبدِيهِ في الإعلانِ

مَجدٌ بَنيتَ وما انتظَرْتَ تَمامَهُ ... هذا البناءُ. . فأين أين الباني؟

لي فيكَ هاتيكَ الموَاهِبُ كلُّها ... أما العقائدُ فَهي للدَّيَّانِ. . .

في ذِمَّةِ القَدرِ المعَجلِ هِمَّهٌ ... جَبَّارَةٌ في هَيكل مُتَفاني

السُّقمُ ناوَأهُ فما اسْتحذَي لهُ ... والسُّقمُ جَبَّارٌ على الأبدانِ

ضاقتْ بهِ الدُّنيا وضاقَ خِضَمهُّا ... عن ضَمِّ بَحر دائم الفَيَضانِ

لمَّا اقْتَحَمتَ على العقائد بابَها ... وبَسَطْتَ رَأْىَ الباحثِ الحَيْرَانِ

قامتْ عليكَ قيامةُ الدنيا لهُ ... والدِّينُ أثَمنُ ثَروةِ الإنسان

رَأْىٌ رَأيْتَ وللوَرَى هَفَوَاتُهُمْ ... والمرءُ مهما اشتدَّ في النَّزَوان

فهو الضعيفُ أمامُ قُدْرَةِ خالقٍ ... وسِعَتْ جَلالتهُ مَدَى الأكو وهو الفقيرُ إلى مَرَاحِمِ رَبِّهِ ... ما أحْوَجَ الإنسانَ للغُفرَان!

لوْ ناقَشُوكَ وجَادَلوك بحِكمةٍ ... وهَوَادَةٍ، وتَرَفُّقٍ، وَلَيان

لرَجعتَ عن رَأىٍ تَبيَّنَ خِطؤُهُ ... ونَزلتَ عن دَعْواك بالإذعان

لكنَّهمْ شَنُّوا عليك حروبُهم ... ولقوكَ بالإيذاءِ والعُدوان

ما الشَّكُّ شَكُّكَ إنما هي نَزْعَةٌ ... من عالَمٍ باغٍ على الأديان

وجَدَتْ إلى النَّفْسِ الطَّرِيئةِ مَنْفذاً ... فَتَسَلَّلَتْ منه إلى الوِجدان

والشكُّ سُلطانٌ إذا ماشَيْتَهُ ... سُدَّتْ عليكَ منافذُ الإيمان

والنفسُ في فَجْرِ الشبابِ صَنيعَةٌ ... لجديدِ رأى أو لِسِحْرِ بيان

سَابَقْتَ حَيْنَكَ يَا ضَحِيَّةَ فِرْيَةٍ ... وَأَدَتْ شَبَابَك وهو في الرَّيْعَانِ

هاجت شُعُورَك وَاسْتَثَارَتْ حُرَّةً ... ثارت على القُضْبَان والسَّجَّان

ما ضاق صَدْرُكَ والسَّقامُ تهدُّهُ ... إلاّ بِقَوْلِ منافق أو شَاني

قَوْمٌ أَثَارُوها عَليك نِكايةً ... لِشِفاَءِ ما في النفسِ من أضْغَان

زَعَمُوك داعِيَةً. . وَأَنتَ مُبَرَّأٌ ... عن كلِّ ما زَعَموا من البُهتْان

الْحِقْدُ دَاءُ الشرقِ أعْيَا بُرْؤُهُ ... طِبَّ الأُسَاةِ وَحِكْمَةَ الكُهَّانِ

العبقريةُ من أَذَاهُ جريحةٌ ... في كلِّ مَرْحَلَةٍ، وكلِّ زَمان

مَنْسِيَّةُ الآثارِ، ضائعَةُ الصَّدَى ... مَخذولةَ الأَنصارِ وَالأعوان. . .

جَحَدوُا نُبوغَكَ وَأدَّعَوْهُ خُدْعَةً ... وَالسِّنُّ بُعض وَسَائِلِ النُّكران

ما السِّنُّ مِيزانُ النُّبُوغِ وَإِنما ... هو نِعْمَةٌ تَسْمُو على الأَوْزَانِ

كم في الشيوخ المعْرِقينَ سَذَاجَةٌ ... وَرَجَاحَةٌ في الفِتْيَةِ الشُّبَّان!

خَذَلوك والدنيا إذا لم تُسْقِها ... كأسَ الرِّياءِ جَزَتْكَ بالْخِذلان

من لي بِلَيلاتِ الَمصِيفِ وأُنْسِها ... وظِلاَلِ أيَّامٍ خَلَوِنَ حِسَان

ومَجالِسِ اللهْوِ البريءِ يَزِينُها ... عَقْلُ الحكيمِ وَرَوْعَةُ الفَّنان

وَمَطارِحِ الحُلُم البعيدِ تَرُودُها ... مِنَّا رَغائِبُ في غَدٍ وأماني!

كأسان مِن صَفْوِ المُنَى سُقِيَاهُا ... قَلْبَانِ في الإحساسِ مُؤْتَلِفَانِ

مَرَّتْ ليالي الصيفِ وهي سريعةٌ ... ومضى ربيعُ العُمْرِ دون تَوَان وَتَفرَّقَ الأحبابُ عن أحبابهم ... فإذا الذي كانوا رُؤَى وَسْنَان

طُوِىَ البسَاطُ وغُيِّبَتْ أَحْلاَمُهُ ... فاليَوْمَ لا كأسي ولا نَدْمانى!

حسن كامل الصيرفي