مجلة الرسالة/العدد 373/أوراق مبعثرة
مجلة الرسالة/العدد 373/أوراق مبعثرة
من ظلال الهوى
(مهداة إلى الدكتور زكي مبارك)
للأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . قلت لها ونحن نمشي على رَوْدٍ بين الكروم: (ماذا تريدين يا نشْوى. . . وماذا تودين؟ أتريدين ثوباً مذهباً يلمع، أم طيباً ناعشاً يسطع، أم تودين سماع الأقاصيص الناعمة التي ترقص لها البطولة، ويغني في ثناياها الحب. . . أم يهفو قلبك إلى أحاديث الغزل، وتتلمظ شفتاك لخمر القبل. . .؟)
قالت: (لا. . . ولكني أريد فتى يكون لي وحدي؛ يموج قلبه بحبي، وتصفقُ روحه لجمالي. . . ولا يرى في الوجود سواي
ما نفعُ الثوبِ اللامع إذا كان الحبيب الذي يراه لا يسكر لمرآه. . .
وما غناءُ الأقاصيص والأحاديث إذا كان القلب الذي ينظمها لا يتدفق بالحنين ولا يغني للحياة. . .
نعم متى جاء الحبيبُ. . . جاء كل شيء. . .!
ثم انعطفت تقطف أوراق كرمة نعسى. . . فقلت لها:
ألستُ فتاك الذي تودين. . .؟
قالت: لا. . .
قلت: بلى. . . أنت تحبينني يا نشوى. . . اذكري الدمعَ الذي ذرفته من أجلي، إذ مستني الحمى فأصبحت ساهماً واجماً. . . واذكري الفرحَ الذي يطل من نظراتك، ويلهبُ أعطافكِ وقسماتك إذا ما لقيتني. لا تنكري يا نشوى. . . أرأيت تهيامي بكِ وتحناني إليك فجئت تدلين وتعبثين. . .؟ أرودي في مشيتك. . . وتعالي إلى أحضان هذه الأعشاب، أسمعك النشيد الذي نظمته أصيل الأمس.
فقفزت فوق كرمة متراخية، وارتمت بين أوراقها، وجلست أنا أمامها، وأنشدتها قصيدتي التي أولها: يا سادراً هيمان ... يبكي ولا يصحو
وكان الدمُّ الدفّاق في خديها، والفرحُ الراقص على وجْنتْيها، يكسبانها وضاءة ونضارة، فاقتربتْ مني، واستراح رأسُها على صدري، وسرحت بصرها في جنبات السهل الساجي تحت أقدامنا فحنوت عليها، وضممتها إلى صدري، كما تضم الأم وليدها، وراحت شفتاي تسكبان على سحرها حنيناً لازعاً وحباً ناعماً، وشعوراً مُترعاً بالحماسة واللذة والفرح
ما أروعَ لياليك أيها الحب!
لقد كانت ليلة نديانة بالقُبل نشوانة بالغزل، وكان يخيل إلينا أن الحبَّ الذي جمعَ قلبيْنا بالمودّة، ورُوحينا بالوئام، يجوبُ السفوح، ويرف في أشعة القمر الصبوح، ويخلع على الدنيا السناء والبهاء. وكان القمرُ كالأمير الغُرانق الجميل، حفُّت به الغيومُ البيضُ لترقصَ أمامه عرايا بدلال وفتور. . . وكان بريق أشعته على قمم الجبل فتنير تلك السنديانات الهاربة نحو السماء، ثم تزحف نحونا بهدوء لتسمعَ أناشيدَ الهوى وترى جنون الصبا؛ حتى غمرتنا، وطفَتْ على المحاني والرُّبى فحسبنا أننا في بحيرة من الأنوار السُّمر والفاترة، وأن الكرمات زوارق سكرى، وأننا غريقان في الّلجج، تائهان فوقَ الثبج، نتلمسُ الشاطئ فلا نجده، ونتقرّبُ من الضفَّة فلا نلقاها. . .!
وسمعنا الشلاَّلَ يغني لنا، وانتشر العبيرُ حولنا، وضحك السهلُ والجبلُ لمرآنا، ورفعتْ الصخورُ رؤوسَها لترانا. . . وسكرنا سكرَيْن: سكرَ هوى وسكرَ جمال. . .
بوركتَ أيُّها الجبلُ القائمُ كالفارسِ الأسمرِ الجميل. . .!
لقد قال لي بالأمس وأنا أرتو إليه في شحوب الأصيل: (لقد حفظت ذكرى الحبيبة بين صخوري، وجاء البشر يرتع فوق جذوري، وتمايلت الأعاشيب على صدري، وتزاحمت الأزاهير لتطرز سفوحي، وغنت الرعاة باسم فتاتك في متوع الأصابيح وسجوّ الأماسيّ
لقد حفظت ذكراها. . . لأن تلك الدموع التي ذرفتها أصبحت منبت الأزاهير، ولأن تلك القبلات التي غنت برنينها النسيمات أضحت ينبوعاً للأغاريد، ولأن حنين الشفاه ونجوى القلوب عادت أناشيد الرعاة!)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد