مجلة الرسالة/العدد 372/نحن وفرنسا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 372/نحن وفرنسا

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1940



باكون وشامتون

للأستاذ نجيب محمد البهبيتي

قرأت مقال صديقي الأستاذ (عبد المنعم خلاف) الأخير في مجلة (الرسالة). ولقد حمدت له انفعاله لما قاساه إخوان لنا في الدين وأقرباء منا في الدم؛ ولكني أخذت عليه أن هذا الانفعال قد ساقه إلى نوع من الشماتة المؤذية، وإلى نظرة ظالمة في الحكم على أمة لم تبد عيوبها ولم تتضح زلاتها إلا بعد أن حطمتها القوة.

لا مكابرة يا عبد المنعم في أن الحكم الفرنسي في المستعمرات كان صارماً، ولا ريب في أن أسلوب حكام المستعمرات في القضاء على كل ما يمكن أن يصبح بذرة مبشرة بالنمو المؤدي للانفصال عن جسم الإمبراطورية - كان هداماً، وأن محاولات إدماج الممتلكات قد تغلغلت إلى الروح بعد وضع اليد على الجسد، ولكنك نسيت أشياء أخرى، نسيت أن الساسة ليسوا هم الأمة، وإن كانوا يعملون دائماً باسمها، وأن مجموع المحكومين لا يصل إليهم كثير من تفاصيل وسائل الحكام، وما يصلهم منها يصلهم ممزوجاً بالدعاية، مقروناً بأسباب فيها كثير من إسدال ستار صفيق على الحقائق التي يعرفها الساسة ولا يعرفها غيرها.

فهذه الأساليب في الحكم لا تمثل الأمة الفرنسية، ولو خوطبت فيها لأبدى كثير من الناس سخطهم ونفورهم منها؛ ولقد عاشرت الفرنسيين عن كثب وعرفت فيهم المغالاة في تقدير حرية الرأي، ورأيتهم يسمعون بآذانهم ما يقال في ذمهم في كثير من التسامح وسعة الصدر. ولو علمت أن أبناء أحط المستعمرات الفرنسية يعاملون في فرنسا نفسها معاملة الفرنسيين أنفسهم، يستوون معهم أمام القانون، كما يساوونهم في المعاملة وفي القدر الذي يلفونه من احترام الناس أو احتقارهم في غير تفريق بين الألوان والأجناس؛ لو علمت هذا لعجبت ولأدركت شيئاً من الأشياء التي تجعل كل أجنبي ينزل فرنسا يشعر بأن هذا البلد وطن ثان له. ولو عرفت بعد هذا أن فرنسا كانت مأوى جميع اللاجئين السياسيين من كل صنف ومن كل لون، وأن باريس وحدها كانت تؤوي نحو مليون من غير الفرنسيين لزاد عجبك، ولأدركت بعض الأسباب التي تدفع بمن ينتصرون اليوم لفرنسا إلى الانتصار لها على الرغم مما يعلمون عن مساوئ حكمها في مستعمراتها، لأنهم يعرفون أن هذا النوع من الحكم إنما يسأل عنه فريق من أبنائها لم يستطيعوا أن يطبقوا هذه المناهج من الحكم على الأجانب في أرضهم لما يعرفونه من نفور أبنائها بطبعهم من الاستبداد.

والحكم في كل أمة من الأمم يكاد يتعاقب عليه أبناء طبقة من الطبقات في الجيل الواحد حتى ليصبح أشبه شيء بالحرفة تصطنعها هذه الفئة وتعرف بها فلا تكاد تخرج عنها، وتجدها تتوارث تقاليدها حتى ليصبح تطبيق هذه المناهج والقواعد أشبه بدورة ميكانيكية تؤخذ بها الأجيال المتعاقبة في كثير من أدوار التاريخ. وليس لك أن تطالب الشعوب في مجموعها بالنظر في أعمال الحكام، ذلك النظر الفاحص القائم على الدرس، لأن دون هذه الدراسة العامة ما يشبه الاستحالة العملية؛ وتيار الحياة البشرية، والقدر المتاح لكل فرد من القدرة على تحصيل عيشه وعلمه الأشياء يخضع دائماً لحاجاته ومواهبه؛ فليس لإنسان أن يسأل أمة من الأمم مهما بلغت ثقافة أبنائها: لماذا لم تعرفوا عن حكم حكامكم لكم ولغيركم ما يجعلكم في حل من إقصائهم عن الحكم إذا ما أساءوا السيرة لأنهم إنما يعلمون الأشياء في نطاق وسائل تحصيل الأخبار المتاح لهم؟

ومع هذا كله فإني لست لأبرئ الفرنسيين من أخطاء الحكم التي اقترفها حكامهم في الأراضي التي نزلوها، ولست أعصم هذه الأمة من الزلل، ولكني أتحدث الآن وفي نفسي ذكرى ماثلة لذلك التسامح الذي كنت أشهده بينهم في كل نواحي الحياة، وذلك النفور الثائر الذي كنت أراه منهم حين يحس أحدهم ظلماً يقع عليه أو على غيره. ولا زلت أشعر بتلك الطيبة الفياضة فيهم. لا زلت أذكر هذا وأنظر على ضوئه إلى الأشياء، ثم أحكم وإن كنت لا أزال أدع في جانب من نفسي مجالاً للضعف البشري، ولتلك الحاسة الحيوانية التي تأخذ بخناق الإنسان مهما ارتقى ومهما سما حين تهيج بنفسه غريزة الإحراز أو غريزة التملك.

فهؤلاء القوم في استعمارهم، وفي محاولاتهم الإدماج المادي والروحي للأمم التي كانوا يحكمونها، إنما كانوا مقلدين لغيرهم، وإن كانوا أفرطوا في التقليد. كانوا يقلدون في هذا أمة عزيزة علينا. ولا أظنك تجهل من أقصد؛ فإن العرب قد طووا تحت جناح الدين كل الأمم التي حكموها، وكان الدين يأمرهم بهذا ويأمرهم بالتسوية بين أبنائه. ولكن عوامل الضعف البشري والدين إنما نزل لتهذيبها أخذت تقوى على الأيام فاستيقظت العصبية، وانبعثت الفوارق الجنسية، رغم ما سعى إليه الدين من إزالتها. وعاد البشر بشراً يمزقون عنهم ذلك الثوب الملائكي الذي رسمه لهم المثل الأعلى للدين الكريم. وانقلبت تلك الحياة الرتيبة التي كان يحياها المسلمون إلى حياة مضطربة صاخبة تطاحن فيها الأجناس تطاحناً أدى إلى انحطام الأمويين أولاً ثم البرامكة وغيرهم بعد ذلك. لا أريد أن أطيل في هذا فقد تعلم منه ما أعلم، وإنما ذكرت لك ما ذكرت عن طريق المثل. فالبشر هم البشر؛ وما الأديان وما تلك المدنيات إلا خطوات في طريق تقدم الإنسان الخلقي والمثالي يحقق كل منها على الأيام قدراً يتفاوت قوة وضعفاً، ولكنه من غير شك خطوة في طريق الكمال المجهول الذي تشرئب إليه الإنسانية وتطمح إلى بلوغه يوماً.

ولو كنا نحن الحاكمين لما حكمه الفرنسيون لما كنا خيراً منهم، فإن مبدأ حكم الأمم في ذاته مأزق يجر إلى مآزق.

لذلك قد يكون من الخير أن نترك هذه الناحية من نواحي أخلاق الأمم، وهذا الوجه من وجوه مدنياتها، لأنهم يتساوون فيه جميعاً، إلى غيره من صور المدنية لتعلم كم تركت هذه الأمة في تراث البشرية، وكم رسمت لها عن طريقي النظر والعمل من سبل لبلوغ غاياتها من الكمال والمثُل.

ويظهر أنني لست في هذا مبتدعاً ولا مبتكراً، ولكنه الطريق الفطري الذي يندفع إليه كل الناس بغرائزهم في الحكم على الأمم التي تركت أثراً في التاريخ. وليس أدل عليه من ذلك الشعور العميق من الحزن القائم الذي أحس به الناس حين كانوا يقرءون كل يوم خبراً عما كان ينزل بفرنسا. ولم يقم بهذه الحركة الشامتة وهي الحملة على فرنسا إلا قوم يخيل إليّ يا عبد المنعم أنهم لم يتبينوا حق التبين ما يجري في نفوسهم، ويخيل إليّ أن بعضهم لم يكتب ما كتب مخلصاً لفكرة أو مؤمناً بحقيقة.

إن الفرنسيون قد قادوا الأمم قيادة عملية إلى تحقيق قسط ضخم من الرخاء النفسي الذي تستمتع به الإنسانية اليوم. ولم تكن الثورة الفرنسية التي سالت فيها دماء فرنسا بغزارة إلا إحدى المحاولات الجبارة لدفع طبقة من الطبقات إلى الاعتراف بحقوق الإنسان، بعد أن عاش غالب البشر عبيداً يلهو أقلهم بآلام أكثرهم، ويسخر مجهوداتهم لترفه. وقد تكون هذه النعمة التي تستمتع بها أنت وأستمتع بها أنا من الحياة والتفكير الحر اليوم أثراً من آثار جهادهم ونضالهم. فهلا رأيت في هذا شيئاً يسيل من عينيك دمعة حرى على نكبتهم؟

هل ترى لأمة أخرى في التاريخ الحديث مثل هذا الفضل؟ إن الإنجليز كانوا يستمتعون قبل الفرنسيون بنوع من الحكم الدستوري الحر لم تستمتع به أمة أخرى، وقد ثاروا على ملوكهم قبل الثورة الفرنسية مرات حتى استخلصوا من بين أنيابهم حقوقهم، فهل سمعت عنهم قبل الثورة الفرنسية أنهم طالبوا الأمم غير أمتهم بهذه الحقوق المقدسة؟ لم تسمع لهم في هذا صوتاً، ولكن الفرنسيين يوم حصلوا على هذه الحقوق قاموا يدعون بها ويبشرون ويضجون، وكأني بسيل دمائهم يفيض على الدنيا فيوقظ النفوس الراقدة، وينبه الأمم إلى حقوقها.

هذا شيء من تراث النفس الفرنسية؛ أما ثمرات عبقريتها في حضارتنا المادية فقد تعلمها خيراً مني. فتقدم الإنسان الآلي قام بقسط من خَلقه العقل الفرنسي؛ ورقي الطب كان أكثره على أيدي الفرنسيين، وتلك الثروة الهائلة من الإنتاج الأدبي الرقيق هي من ثمار العقل الفرنسي.

كم وددت لو أتيح لكل من هؤلاء الشامتين بفرنسا أن يحيا فيها زمناً لينظر كيف يعمل الناس في صمت، وكيف يعملون كالنحل دائبين، كأنما العمل الدائم الدائب فيهم موهبة مخلوقة وغريزة متوارثة. لو رأيت هذا مثلي لأدركت حقاً أن بعض الأمم تعيش كما تعيش الطفيليات عبئاً على غيرها.

لو شهدت متاحفهم، وتلك اللوحات التي تصور بألوانها وظلالها جمال النفس وحلاوة الروح، لأدركت أنك أمام أمة ممتازة لا تملك إلا أن تحبها، لأن الإنسان بفطرته يحب ما يمتاز وما يعطيه فكرة عن أسمى ما في كيانه.

ولو شهدت معي في فرساي (قاعة الوقائع) ورأيت سلسلة الانتصارات التي أحرزها هؤلاء الناس في ماضيهم، وأحسست بما تتركه هذه الصورة في نفسك من تاريخ هذه الأمة وفي نفس الطفل وفي تربيته، لوقفت على شيء من عظمة هذه النفس وعبقريتها.

وبعد فإن سقوط الأمم لهواً من اللهو، ولا تسلية يزجي بها الوقت، ولكنه حادث جليل تخضع النفوس له إجلالاً وتخشع القلوب منه رهبة؛ فإذا كانت الأمة المحطمة قد تركت في حياة الناس أثراً، وفاضت عليهم من نور روحها شعاعاً، فهي أولى يومئذ بأن تسكب في سبيلها الدموع ولو كانت عدواً؛ فما أنبل أن تخشع في حضرة عدوك يوم يسقط صريعاً عند قدميك!

نجيب محمد البهبيتي