مجلة الرسالة/العدد 372/خواطر مهاجر. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 372/خواطر مهاجر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1940


تفيَّأ كعادته كل يوم ظلال الكافورة الغيناء من قهوته المختارة على شاطئ النيل الجميل في (المنصورة) بلد الشعر والسحر والجمال والفتنة. وكان مجلسه تحت هذه الدوحة الفينانة أشبه بالعش الناعم قد احتضنه النهر وحنَت عليه الغصون وتنفَّس فوقه الماء بالنسيم الرطب فأصبح للحس الشاعر قطعة من رياض عدْن، أو بقعة من بقاع عبقر! فإذا أضفت إلى جمال المكان وبهجة المنظر، أنس الصديق المخلص، ورقة الجليس المهذَّب، وبشاشة الوجوه النامة عن الود، وعطف القلوب المتآخية في الأدب - جمعتَ في ذهنك صورة مقاربة للحياة الروحية الوادعة التي يحياها هذا المهاجر في زمن روعت الحرب فيه معالم الأرض ومجاهلها حتى ما كان ممتنعاً منها على شرور الإنسان منذ الأبد كأجواء السماء وأثباج البحر وقفار البيد!

مال ميزان النهار وأوشكت جمهرة النادين من الأهلين والمهاجرين أن تنصرف عن مناضد القهوة الحافلة، فلم يبق إلا جماعة هنا وجماعة هناك من الذاهبين إلى (رأس البر) أو الآيبين منها، جلسوا يستروحون من عناء السفر ليستأنفوه بعد الظهيرة؛ وسكت النداء عن النُّدُل فجلسوا يرفهون عن أقدامهم على أبواب القهوة؛ وانقطع الرجاء بمساحي الأحذية وبائعي اليانصيب ومحترفي السؤال فناموا متربصين على إفريز الطريق؛ وهمدت الأصوات والحركات حول المهاجر فاتجه بعينه وقلبه إلى النهر الخالد وقد ظمئ شاطئاه ونشَّ مجراه حتى سحب الملاحون قواربهم على قاعه. هنالك رأى زمر القرويين الوافدين على السوق يملئون الزوارق في المعبَر الذي لم يتغيَّر منذ رآه وهو طفل، فأتبعهم نظرَه الحالم حتى صعدوا درَج الموردة وانسابوا بعصيهم وإخراجهم في شارع فاروق. فلما مروا به على قرب رأى لهم صوراً غير التي عهدها لآبائهم وهو يافع: كان الغالب إلى آبائهم الجسامة والوسامة والسذاجة والصحة؛ وكان بين أبدانهم الوثيقة ولحاهم المرسلة وثيابهم الفضفاضة وعمائمهم الضخمة تناسق عجيب يملأ النفوس مهابة وروعة؛ فإذا حادثتم في شيء من الأشياء، أو عاملتهم في أمر من الأمور، وجدت صفاء القلب مشرقاً في الحديث، وأثر الدين ظاهراً في المعاملة. وكنت تخالط سوادهم أو آحادهم فلا ترى إلا عفة في القول، وصراحة في الفعل، وقناعة بقسمة القدر، ومواساة في محن الدهر، ونية صادقة في أن تكون القرية للكل، والكل للقرية ذلك لأن الزورق كان أكثر من الناس، والرضا كان أوسع من الهمِّ، والأمل كان أطول من الحياة!

زِدْ على ذلك أن أولئك الآباء السُّعداء ما كانوا يعرفون عداوة الانتخاب ولا دعاية الأحزاب ولا مكاره السياسة ولا تهاويل الحرب؛ إلا ما كان يقع في أسماعهم الحين بعد الحين من أخبار الحروب بين العثمانلي والمسكوف!

أما فلاحو اليوم فهم كما يراهم ضئال الأجسام قصار القدود مبذوءو الهيئة، يتبيّن الناظر في وجوههم لوائح المرض، وعلى مظاهرهم دلائل الفقر؛ ثم يتمثلهم وهم في طواقيهم الحقيرة وجلابيبهم القصيرة، مسوخاً من تشويه الطبيعة ينسجم فيها خبث الطوية مع قبح الصورة!

لم يرث قروي اليوم عن قروي الأمس إلا الجهل. أما سلامة الصدر وسماحة النفس وعفة الطُّعمة، فيقولون إنها ارتفعت مع البركة من أرض القرية. فالفلاح يكدح ولا ينجح، ويسعى ولا يبلغ. لأن عدد الناس زاد إلى الضعف، وموارده هو ظلت على الضيق؛ وتشوَّفت نفسه إلى متاع الدنيا ويده من محصول عمله أو ملكه صِفْر لشره المرابي وطمع المالك، فاضطر إلى أن يساعد الجهل بالحيلة، ويرفد الحلال بالحرام، ويمزج الطيب بالخبيث؛ وذلك يأخذ من راحته وصحته وخلقه ودينه ما لا يعوضه طب الطبيب ولا وعظ الواعظ.

والفلاح لإخفاقه الغالب وحرمانه المتصل ينفِس على الناجح ويحقد على الغني. ولعله يعاني من حُمَّى الحسد أضعاف ما يعاني من تبريح العلة!

ولقد ركبه الغرور باستفحال الجهل فيه، وألهبه الطمع بإلحاح الحرمان عليه. والجهل إذا طغى خيَّل لصاحبه أنه العلم؛ والحرمان إذا استمر زيَّف في ذهن المحروم معنى الحياة، والشر إذا دأب على معاندة الطبع أفسد في نفس الشرير صلاح الفطرة. فالفلاح الزور ويعتقده الحق، ويفعل المنكر ويظنه المعروف، ويعمل مع الطبيعة في استثمار الأرض ولا يتفق معها، ويعتمد على الله في اكتساب الرزق ولا يتصل به!

والفلاح التام الجهل كالحضري الناقص العلم، كلاهما ضحية من ضحايا الانتقال الاجتماعي في هذا العصر؛ لأن القروي المغرور يحاول أن يكون مدنيِّا، والمدني المفتون يريد أن يكون أرستقراطيِّا، فيقعد بهذا وذاك فشل القدرة دون الغاية، فيعيشان عيش المسيخ المشيَّأ لا يصلح أن يكون في نسيج الكون لحُمةً ولا سَداة.

هذا الفلاح المزيف لا يصلحه تنظيم قريته ولا تجميل داره؛ إنما يصلحه تربية ذوقه وإرهاف حسه. فإن صاحب الذوق يبني الدار الجميلة ويخط الحديقة البهيجة؛ أما فاقده فخليق به أن يجعل القصر زريبة والبستان مزبلة. ووسيلة إصلاح الفلاح التعليم ولا شك. ولكن التعليم وسيلة بطيئة وإن كانت مضمونة. فإذا أردتم سرعة الإصلاح فلم لا تجربون مع التعليم أن تجعلوا مكان العُمَد (كنستبلات) تكون لهم عجرفة الترك وعقلية الإنجليز؟ إن هؤلاء خلقاء أن يُعلموا الفلاح الجاهل بالفعل كيف يعيش؟

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات