مجلة الرسالة/العدد 371/تعليق على:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 371/تعليق على:

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1940



(فائدة الأربعاء!)

للأستاذ علي الطنطاوي

هذه كلمة صغيرة من باب ما نشره الأستاذ في (فائدة الأربعاء)، وما أفتى فيها ذلك (العالم الكبير) الذي أولع - غفر الله له - بتبرير كل ما تفعل العامة، والاستدلال عليه، والدفاع عنه، ولو كان خطأ محضاً، ولو كان ظاهراً فيه الخروج على مبدأ التوحيد الذي جاء به الإسلام نقياً واضحاً، دأبه في ذلك دأب زميله الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله رحمة واسعة، فإنه كان على علمه وأدبه يذب عن عقائد العامة، ويسخر للدفاع عنها قلمه البليغ، ويناضل عنها ويهجو العلماء المصلحين بالقصائد الطوال، حتى أنه تطاول على علامة العصر السيد رشيد رضا، وعلى شيخه مربي الجيل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنهما.

وسبب ذلك كله ابتغاء الخطوة عند العامة، والرغبة في نيل احترامها وتقديرها، وإلا فكيف يخفى على مثل الشيخ يوسف النبهاني والشيخ يوسف الدجوي، وهما هما في سعة العلم، وبلاغة القلم، وحدة الخاطر، أن الذي يدعو إليه السلفيون من لدن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا والشيخ جمال القاسمي - أن الذي يدعون إليه إنما هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع والخرافات، وطرح الأحكام والاجتهادية التي لم يرد فيها نص ولم يبق إليها من حاجة، وليس على شيء من ذلك رد، ولا للجدال فيه مجال؟

وكيف يخفى على عالم أن النبي لم يمنعه ما كان يقاسي من آلام المرض الذي قبض فيه من أن يبين أن الله لعن قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وأن المسلمين أمسوا اليوم، وما مسجد من مساجدهم إلا وفيه قبر أو أقيم على قبر، وأكثر هذه القبور لم تصح نسبته إلى صاحبه. هذا مسجد دمشق الكبير، من يستطيع أن يثبت أن القبر الذي فيه هو قبر سيدنا يحيى عليه السلام، وقبر سيدنا الحسين في القاهرة من يثبت أنه فيه مع أن رأسه في المشهد المعروف باسمه في مسجد دمشق وجسده في كربلاء؟ وكيف يكون في بيروت مقام سيدنا يحيى وليس في هذا المقام قبر ولا شبهه؟ ولكنهم كرهوا أن يكونوا بمنجاة من مخالفة الحديث، فأقاموا هذا المقام على غير شيء. . . وما الفرق بين وجود القبر وعدمه ونحن تعتقد أنه لا يضر ولا ينفع؟ وكيف يخفى على عالم أن في الحديث الصحيح الذي رواه علي رضي الله عنه أن النبي أمره ألا يدع صنماً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه بالأرض؟ فما بالهم أحرص الناس على تشييد القبور وتعظيمها والوقوف بأعتابها؟ وهل يفعلون ذلك إلا استرضاء للعامة وابتغاء الخطوة عندها؟ فأين إذن أمانة العلم وكرامة العالم، وأين إرث الرسول؟

وأغرب من ذلك وأبعده عن الحق أن من العلماء من يستدل على الخرافة بأحاديث لا أصل لها إرضاءً للعامة. حدث من أسابيع أن قدم دمشق عالم تركي من علماء إسكندرون، فدخل المسجد فرأى حلقة نبيلة فجلس فيها، وكان المدرس من علماء دمشق المعدودين الذين يقرؤون بين العشاءين، فسمعه يقول: إن النبي يخرج كل ليلة من قبره بلحمه ودمه فيدور دورة في الأرض يرى فيها كل شيء ثم يعود إلى قبره. فقال له الشيخ التركي: من أين جئت بهذا؟ فأظهر المدرس الغضب وصرخ: ألمثلي يقال من أين؟ إذا شئت أن تتعلم فتعال إلي في داري أعلمك. فجاءه في داره، فبحث ونقب ثم أتاه بحديث ليس له سند معروف. فقال له: هذا حديث موضوع، فقال المدرس: لا بل هو صحيح، وصرفه من داره. فلما كان الغد دخل الشيخ التركي المسجد ومعه طائفة من الكتب المعتبرة التي تنص على أنه حديث موضوع، فكان جواب الشيخ أن صرخ: نحن ما عندنا وهابية. . نحن ما عندنا وهابية. . نحن من أحباء الرسول. وكرر ذلك حتى جمع عليه العامة فكادوا يبطشون به.

وأشد غرابة من هذه القصة ما أسمعه كل جمعة على كثير من منابر دمشق، من التصريح بأن النبي حي في قبره. وما أدري كيف يكون حياً في قبره الحي عندنا هو الذي يأكل ويشرب ويتنفس؟ فهل هو حي في قبره بهذا المعنى؟ وإذا كان حياً فكيف نعتقد أنه مات سنة كذا، وكيف قام من بعده أبو بكر وعمر ومئات الخلفاء؟ وإذا ثبت أنه قد عاش كما يعيش الناس ومات كما يموتون فكيف يكون حياً في قبره إلا أن تكون حياة روحية برزخية لا نفهم ما هي؟ ولا ندرك صلتها بحياتنا الأرضية؟ أما إنه لا بد من تصحيح عقيدة المسلمين بالنبي . والصحيح أنه ليس بشراً كسائر البشر أو فيلسوفاً أو مصلحاً فحسب، كما يريد أن يصوره بعض المستشرقين وأذيالهم من الملاحدة الذين تخرجوا على أيديهم فجاءوا منكرين للوحي، لا يرون فرقاً بين النبي وبين العلماء المصلحين، ويزعمون أن الإسلام إنما خرج من رأس محمد وقلبه.

وليس فوق البشر، كما يتصوره بعض المسلمين القائلين بخرافة حياته في قبره، وعلمه بكل شيء، وقدرته بعد موته على النفع والضرر.

ولكنه بشر مثلنا بنص القرآن، وإنما يمتاز بالعصمة وبالوحي، وبقيامه بالتبليغ عن الله، وقد انقطع الوحي والتبليغ بموته، فمن ادعى أنه رآه صلى الله عليه وآله وسلم في نومه فأمره بكذا أو نهاه عن كذا، يكون إما مجنوناً أو معتقداً نقص الشريعة، أو متلاعباً بالدين. . ومن حسب أنه يمدحه بمثل قوله:

يا أكرم الرسل مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحوادث العمم

فهو على ضلال، لأنه يمدحه بما يهدم التوحيد من أساسه. وإذا كان كفار قريش الذين سماهم الله مشركين وأوجب قتالهم، يدعون الله مخلصين إذا ركبوا في الفلك، ورأوا الشدة، فماذا يكون هذا الرجل الذي يحيق به الحادث العمم فلا يجد من يلوذ به إلا الرسول؟ وينسى الله؟ ونحن نعلم أن النفي والاستثناء من طرق القصر ولذلك كانت كلمة التوحيد لا إله إلا الله؟

وماذا نقول للعلماء الذين يفهمون هذا الأمر الواضح، ثم يقرؤون هذا البيت عند سماعه لأن العامة تعتقد به وتقدسه؟

وماذا نقول للعلماء الذين يحضرون الموالد وأشباهها فيسمعون المغني يتغزل بالرسول، ويذكر الوصال، أي والله، والعين والفم وهاتيك الوقاحات، ويسكتون خوفاً من العامة؟

والذين يجلسون في حفلات الرقص التي تسمى ذكراً، ولا ينكرونها وهم يعرفون بطلانها خوفاً من العامة؟

يا سادتنا العلماء الأعلام، إننا لا نحتاج إلى علم، فإن عندكم منه ما يزيد على الحاجة، ولكنا نحتاج (ولا مؤاخذة) إلى إخلاص وإلى جرأة، وإلى تحرر من التعبد لجماهير الناس، وتخلص من الخضوع للعامة، فإذا وصلتم إلى ذلك لم نختلف ولم نتجادل، لأن المسألة ترد إلى الدليل وأنتم أعرف به منا.

إننا نشكو أموراً كثيرة، وأنتم تعرفون دواءها ولكنكم تخافون العامة. . .

منها العقيدة بالقبور، وسؤال أهلها، والتوجه إليها، وهي عقيدة لا يعرفها الإسلام، بل يعرفها اليونان الأقدمون ويسمونها عبادة الأبطال. ومن شاء فليرجع إلى كتاب تاريخ الحضارة لشارل سينوبوس الذي عربه أستاذنا كرد علي بك وليقابل بين العقيدتين وليقل لي: أماهما من جنس واحد؟

ومنها مسألة السفور، هذه المسألة الاجتماعية الخطرة، التي تعد من الأدواء المعضلة، والعلماء واقفون منها شر موقف، وبيان ذلك أن النساء يمشين نحو السفور بل الحسور والتهتك والعلماء ساكتون لا يعالجون المسألة ولا يحسنون علاجها، فإن تصدي لها مصلح فأحب أن يجد لها دواء، كالسفور الشرعي المحتشم مثلاً - أثاروا عليه العامة، وخطبوا به على المنابر، واتهموه بأنه سفوري مفسد، فإذا كف عن بحثه الإصلاحي عادوا إلى نومهم وتركوا حبل التهتك على غاربه. . . فلا هم يصلحون ولا هم يتركون الناس يصلحون، وأظنهم لا يفكرون في الإصلاح تفكيراً جدياً، وإنما يبتغون الخطوة عند العامة.

ومنها مسألة الطرق الصوفية وما فيها من منكرات.

ومنها خرافات المتصوفة وضلالاتهم كالقول بوحدة الوجود، والقطبانية، وأهل الديوان.

ومنها مسألة المذاهب الفقهية والاجتهاد، والكلام فيها يحتاج إلى فصل بل إلى فصول طوال.

ومنها الرد على الشبه التي يوردها المستشرقون وأمثالهم.

فمن لهذا المسائل إلا أنتم يا سادتنا العلماء؟ من يعالجها؟ من يدرسها؟ كيف تدرسونها وأنتم تحرصون على رضا العامة أكثر من الحقيقة؟

هذه هي المسألة يأيها الأستاذ المدني، ليست محصورة في فائدة الأربعاء ولا فائدة الخميس! فسل إخوانك علماء الأزهر ما هو جوابهم عليها وقل لي، ولك الشكر وعليك السلام.

علي الطنطاوي