مجلة الرسالة/العدد 368/الحديث ذو شجون
مجلة الرسالة/العدد 368/الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الكتيبة الأدبية - دمياط والمنصورة - اكحلوا عين الزمان بمرود الحياة - يا ليل يا عين، ثم يا ليل يا عين، وللأستاذ فكري أباظة أن يقول ما يشاء!
الكتيبة الأدبية
في اليوم الثالث من شهر يونية قدَّمتُ إلى وزير المعارف السابق معالي النقراشي باشا اقتراحاً أدعو فيه إلى تأليف (كَتيبة أدبية) من رجال المعارف يتطوع فيها المدرسون والمفتشون، وتكون مهمتهم تقوية الروح القومي وحراسة العزيمة الوطنية من عدوان الأراجيف، بما ينشرون على صفحات الجرائد والمجلات، وبما يذيعون من خطب ومحاضرات. ثم قلت:
(ولي مَطلبٌ أوجهه إليك: وهو أن تدعو رجال الأقلام من وقت إلى وقت، لتشير عليهم بما تراه في تسديد العزائم الوطنية، ولتشعرهم بأن الدولة ترى أن القلم من أدوات الجهاد)
وقد أشَّر النقراشي باشا على هذا الاقتراح بعبارة كريمة من عبارات التأييد والتشجيع
ومضيت أفكر في تكوين تلك الكتيبة على مَهَل، ولكني سارعتُ فنشرت في المقطم والأهرام مقالات حماسية في نطاق الغرض الذي دعوت إليه، راجياً أن يكون في ذلك تمهيد لتكوين (الكتيبة الأديب) وتذكيرٌ لأهل الأدب بواجبهم في هذا الميدان
في الأسبوع الماضي وجه الأستاذ أحمد أمين دعوة إلى الكتَّاب على صفحات (الأهرام) يقول فيها إنه يرجو من أرباب الأقلام أن يتناولوا بعض المشكلات الحاضرة بالدرس فيتحدثوا عن الهجرة إلى الريف، وتنظيم الشؤون الاقتصادية بما يضمن السلامة من القلقة التي تحدثها الحرب، إلى آخر ما نص عليه من المسائل التي تستوجب الدرس، فردَّ عليه الدكتور طه حسين في اليوم التالي بمقال صرح فيه بأن الجرائد تحت رقابة الأحكام العرفية، وأن الكاتب لا يملك من الحرية ما يساعد على درس تلك المشكلات بصراحة، وعدّ السكوت تضحية! فعجب الأستاذ توفيق الحكيم من ذلك وكتب يقول: إنه لم يكن يعرف قبل اليوم أن السكوت من التضحيات. فوخزه الدكتور طه وخزة أليمة جاء فيها أنه يدعو إلى الأدب الرخيص في حين أن الأستاذ أحمد أمين كان يدعو إلى الأدب الثمين! وانزع الأستاذ توفيق الحكيم فكتب يرجو الدكتور طه أن يعد الكتابة في تقوية الروح الوطني من الأدب الرفيع، لأنها على كل حال مما يدعو إليه الواجب في هذه الظروف!
أولئك كتّابنا الأماجد، وهم قومٌ يمزحون في غير أوقات المزاح!
فالأستاذ أحمد أمين في يده مجلة أسبوعية وكان يقدر على معالجة تلك الشؤون منذ اليوم الذي نعب فيه نفير الحرب، وقد كان مفهوماً أن الحرب لن تترك مصر بلا إيذاء، فما الذي قهره على السكوت إلى اليوم، إلا أن يكون تذكر فجأة أن الدنيا فيها أشياء غير الحديث عن أدب المعدة وأدب الروح
وأحمد أمين الغيور على الريف هو نفسه أحمد أمين الذي صرح في إحدى مقالاته بأن الموت بالقنابل في القاهرة أفضل من الموت بالميكروبات في الريف، وذلك إيحاءٌ أثيمٌ سيَلقى عليه (أطيب الجزاء) بعد حين
أفي الحق أن الريف ليس فيه غير الميكروبات، وكيف أمكن إذاً أن تعيش كل تلك الخلائق في الريف؟ وكيف عاش آباؤنا وأجدادنا جميع تلك العصور الطوال؟
تلك وسوسة سخيفة لا تبلبل غير المتحذلقين. ولو أنصف أحمد أمين نفسه وقلمه لقال إننا فرطنا كثيراً في حق الريف، ومن الواجب أن ننتهز هذه الفرصة لنرجع إليه بالتحسين والتجميل، عساه ينسينا ما تعودناه من القرار الراكد في الحواضر أيام الصيف
والدكتور طه حسين أمره عَجَب: فهو يدَّعي أن الرقابة لا تسمح له بشيء، ويدافع عن كسله بأن البرلمان يلجأ في بعض الأحايين إلى عقد جلسات سرية، فمن حقه أن ينتظر إلى أن تنتهي الحرب ويستطيع الكتاب أن يقولوا ما يشاءون!
ومن الذي يضطر الدكتور طه إلى الوقوف عند درس المسائل التي لا يعرض لمثلها البرلمان إلا في جلسات سرية؟
أتكون كل مشكلاتنا القومية من اقتصادية واجتماعية وسياسية مشكلات لا يتحدث عنها الناس إلا في الخفاء؟
أيؤمن الدكتور طه بأن من المحرَّم عليه أن يتحدَّث في الشؤون التي تصور مستقبلنا بين أمم الشرق وأمم الغرب؟
أيعتقد أن الحديث عما نفترض لمصر من المصاير الاجتماعية والاقتصادية بعد الحرب أمر قد يستوجب الوقوف أمام المحكمة العسكرية؟
وما هذه الذي يدَّعيه الدكتور طه حين يقول بأن الكتابة في تقوية الروح الوطني من الأدب الرخيص؟ ومن الذي أوحى إليه هذه الحكمة (الغالية)؟ وعمن أخذ القول بأن الحديث في تقوية الروح الوطني هو المقصود بالحديث المعاد الذي نهى عنه الحكماء؟
لقد دافَعَ توفيق الحكيم عن هذه القضية، ولكن توفيق الحكيم رجلٌ قصيرٌ ونحيل ولا يَقدر أبداً على صدْ غارات طه حسين
للدكتور طه أن ينسحب من الميدان بحجة أنه مشغول بشواغل أدبية تصرفه عن الحرب وأخبار الحرب وما يجب على مصر أيام الحرب. ولو قال ذلك لكان له عذرٌ مقبول، فالدولة تُطالب كل رجل بالتفرغ لما يصلُح له من الأعمال، والأديب الذي يُشغل بالأدب الصَّرف أيام الحرب هو أيضاً من المجاهدين، لأن الجهاد في سبيل الوطن له ميادين مختلفات، منها ميدان الأدب الصرف الذي يُنسى صاحبه أنه يعيش في غَمَرات الحرب. وقد اتفق للدكتور طه في أحيان كثيرة أن يتناسى المكاره القومية ليتفرغ لعلمه الأدبي بالجامعة المصرية، فما لامَهُ على ذلك لائم، ولا اتّهمه أحد بالجبن عن الاستجابة لنداء الواجب الوطني، لأن الوطن يعرف أن المتفرِّغ للأدب الصِّرف هو أيضاً جنديٌ في الميدان، وإن لم يحمل السلاح ويتقدم للقتال
ولكن الدكتور طه يأبى إلا أن يقع في خطيئتين: خطيئة الدعوة إلى السكوت عن درس المشكلات القومية إلى أن تنتهي الحرب، وخطيئة السخرية من الكتابة في تقوية الروح الوطني بحجة أنها من الأدب الرخيص!
ألاَ يَفتح الله عليك مرةً واحدة يا دكتور طه فتكتب مقالاً واحداً يَسلَم من إثم المغالطة والتلبيس؟
بقيت حكاية توفيق الحكيم، الكاتب الذي يجمع بين الظَّرف والضَّعف، وأنا أقترح أن يُمحَى اسم هذا الكاتب من سِجِلْ الوطنية المصرية
هذا كاتبٌ خفيف الروح في بعض نواحيه، ولكن روحه يَثقُل جدَّا حين يتحامل على القومية المصرية، وحين يتوهم أنه من المصلحين، ومن خلفاء قاسم أمين!
وما ظنّكم بكاتب يزعم أن الفكر لا يساوره في مصر، وإنما يساوره حين ينتقل إلى الهضاب السويسرية أو الفرنسية؟
العفو، يا سيد المِلاح!
فمصر يا أخي فيها منادح للفكر والبيان، وهي بشهادتك قد عزَّت على عُدوان الغرب وطغيان الشرق، وقد عجزت المصائب والويلات عن قتل مواهبها الذاتية، فكيف يجوز لك أن تسخر منها أقبح السخرية في بعض مؤلفاتك وأنت تعجز عن الرد على كاتب مثل طه حسين؟
أما بعد فأنا ما زلت أدعو إلى تأليف كَتِيبة أدبية تجرِّد ألسنتها وأقلامها لتقوية الروح الوطني لتحوِّل الوطنية إلى عقيدة راسخة لا تزعزعها النوازل والخطوب
وفي الأدب الصِّرف نفسه يتسع المجال لتأييد العقيدة الوطنية، فالشاعر الذي يتغنَّى بجمال الليل حين يتموَّج نور القمر فوق صفحات النيل هو شاعر وطنيّ؛ والكاتب الذي يتأنق في وصف ملاعب القاهرة والإسكندرية ودمياط هو كاتب وطنيّ. والباحث الذي لا يَعنيه غير درس مشكلات التعليم هو باحثٌ وطنيّ. واللاعب الذي يقضي أوقاته في التأهب للاشتراك في مباراة رياضية هو لاعبٌ وطنيّ. والتاجر الذي يُغلق أذنيه عن الحوادث اليومية ليتفرغ لمصاعبه التجارية هو تاجر وطنيّ. وطه حسين وأحمد أمين وتوفيق الحكيم يستطيعون أن يكونوا من الوطنيين إذا قَصَروا جهودهم على ما يحسنون من الأعمال
المهمُّ يا بني آدم أن تعاونوا على إيقاظ الروح الوطني في أية ناحية من نواحيه، وأن يكون لكم شأن في تحرير البلاد من قيود الركود والخمود
دمياط والمنصورة
وهَتف سائل يقول: ما الذي أوجبَ أن نرى في مؤلفاتك ومقالاتك إشارات رقيقة إلى دمياط؟
وأجيب بأني لم أزُر دمياط إلى اليوم، ولكني مُوَكل بالحديث عن البقاع الكريمة من وطني، فدمياط من ثغورنا البواسم وكان لها مقامٌ محمود في صدَّ الغارات الصليبية. وما تزال دمياط مرجع طوائف كثيرة من كرائم الأفئدة والقلوب، ولن أنسى أبداً طغيان البحر والنيل حول دمياط حيثُ غرِق الروح الشفَّاف الذي أوحى إلى خاطري بعض القصائد الجياد
وأخونا الزيات يقيم اليوم بالمنصورة ليتقي الغارات الجوية، وأنا والله في خوف عليه، وما أخاف الميكروبات التي يخافها أحمد أمين، وإنما أخاف على الزيات غارات العيون، العيون الفواتك التي تصاول الآمنين والغافلين، فتحوِّل أرواحهم إلى أقباس أقسى وأعنف من طغيان السعير
وكيف يذوق العذاب من ترحمه المقادير فلا تدلّه على الطريق إلى المنصورة أو دمياط؟
ارجع إلينا، يا أحمد، قبل أن تعضك سمكة من سمكات النهر الذي أعرف وتعرف، وإلا فانتظر قدومي إليك لأشاطرك النشوة بغناء الملاحين في غفوات الليل
ولكن هل عندكم ملاح تذكر أغاريده بأغاريد الملاح الذي سمعته مرة وهو يَصدَح فوق متْن النيل في الأقصر بهذا النشيد:
فايتْ على جِسر النيل
قابَلوني اثنين حلوين
آخذ مِين وأسيِّب مين، يا بُويْ!
وحدثتنا الجرائد بأن النيل يهدر بعنف في أعالي السودان، فانتظرني عندك لأرى معك بعد شهر واحد كيف يَسهُل صيد السمك فوق ذلك الشط بأيسر عناء
أتخاف الحرب؟ لا تخف، فأعمار الأشقياء باقية!
وإن عشنا فسنقضي بقية العمر في التغريد فوق أفتان الجمال
ارجع إلينا، يا أحمد، قبل أن تعضك السمكات بشط المنصورة فقد عرفتُ بالتجربة أنها افتك من سمكات شط العرب. حرسَك الله وَحَماك!
أمَن الإثم هُتافي بالجَمالْ ... في بلاد كلُّ ما فيها جميلْ
لو بعيني نظر الملاحي وجالْ ... لرأى الفتنة في كل سبيل
اكحلوا عين الزمان بمرود الحياة
أنتم تسمعون أن الدنيا كلها في حرب، أليس كذلك!
بَلَى! ولكن الحياة لها مطالب روحية وعقلية تنسي الناس أحياناً مخاطر الحرب، والرجل الضعيف هو الذي تقهره الظروف على أن يكون ريشة في مهبْ الخطوب. أما الرجل القوي فتصطدم به المصاعب كما تصطدم الموجة العالية بالصخرة العاتية
لقد قَذيتْ عين الزمان فاكحلوها بمرود الحياة. . . كونوا أحياء في كل وقت، واحذروا أقوال المرجفين الذين يزعمون أن الدنيا لم يبق فيها مجال لطرب الأفئدة وجُموح القلوب
لا تصدقوا الأستاذ فكري أباظة حين يحدثكم في المذياع عن عجبه من أن تعجز أعوام الحرب عن قتل تغريده (يا ليل يا عين) فهذا الأستاذ نفسه لم ينقطع عن الغناء وإن كان صوته (أرخم) الأصوات!
هذه الحرب التي تعانون بلاءها من قرب أو من بعد هي أيضاً شهوة إنسانية أو حيوانية كسائر الشهوات، والمحرومون من حب الدنيا ومن الهيام بما فيها من نعيم لا يصلحون أبداً للتمرس بالمخاطر في ميادين القتال
يجب أن تبقى حواسكم كلها سليمة، حتى حاسة الذوق وحاسة الجمال، لأن هذه الحواس هي (الجوارح) التي تصولون بها في ميدان الوجود. وهل يصلُح إنسان للتفكير في المنافع القومية حين يُشَل تفكيره في المنافع الذاتية؟
الجنديّ لا يصلح أبداً للاستماتة في الدفاع عن الوطن إلا إذا كانت له فيه مآرب وأهواء، أما الجندي الفارغ الرأس والقلب من المطالب الذاتية فهو أداةٌ عاطلة لا نفع فيها ولا غناء
زادكم الأول هو مطامعكم، وزادكم الثاني هو مطامعكم، وزادكم الثالث هو مطامعكم، وأزوادكم الأصلية والفرعية هي مطامعكم، فلا تعيشوا في دنياكم بلا أطماع لئلا تنعدم قدرتكم على الجهاد
لا تصدِّقوا الذين ينهونكم عن الابتسام للدنيا والوجود
لا تصدَّقوا من يزعمون أن مَرَح النفوس في أيام الحرب من نُذَر الفناء
الدنيا لكم ولسائر المزوّدين بالحيوية والأريحية والجذل والابتهاج
فما سكوتُ الشعراء وما سكوتُ المغنّين عن التغريد فوق أفنان الجَمال؟ وما الموجب للدعوة الأثيمة التي تريد أن تحوّل دنيانا إلى ملاطم ومتاحات؟
عزائمكم وأرواحكم وقلوبكم هي الذخائر الباقية، وهي أسلحتُكم في مقارعة الخطوب، فلا تُضعفوها باستماع الأراجيف، ولا توهنوها بالخضوع لخداع الأباطيل
ودَّ أعداؤكم لو تنقلبون إلى أشباح بلا عواطف ولا أحاسيس
فاحذروا الفتنة، فتنة الدعوة إلى تسريح الأماني والآمال
واعلموا أن الرجل الحق هو الذي يعيش في كل وقت بعواطف الأقطاب من الأحياء.
زكي مبارك