مجلة الرسالة/العدد 365/إرادة الطفل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 365/إرادة الطفل

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1940



لجان جاك روسو

ترجمة الأستاذ عبد الكريم الناصري

تكفلت في إحدى السنين بتربية طفل (شقي) تعود تنفيذ كل ما يضطرب في عقله الصغير من رغبات، وما يجول في قلبه البريء من أماني، كما تعود أن يحمل غيره على تنفيذها إن لم يستطع هو. وقد عرفت فيه تلك العادة منذ اليوم الأول لتكفلي تربيته، إذ أراد أن يجرب خلقي وذوقي ومجاملتي، فرأى أن ذلك لا يتم له إلا بمضايقتي وتكدير خاطري. وبينما أنا غارق في نومي في منتصف الليلة الأولى، إذا به يستيقظ من نومه ويجلس تحت سريره، ثم يلبس (الروب دي شامبر) ويدعوني، فنهضت وأشعلت الشمعة، وسألته عن أمره وماذا يريد، فلم يطلب شيئاً، ولم يبد سبباً لنهوضه؛ بل عاد إلى سريره واحتواه النوم بعد ربع ساعة، راضياً عن تجربته، مقتنعاً بحسن مجاملتي، مبتهجاً لقوته وسلطانه! وبعد يومين أعاد تلك التجربة بنفس النجاح، أما أنا فلم أبد أية إشارة إلى الضجر، أو علامة على نفاد الصبر، ولكني قلت له حين عانقني عند عودته إلى النوم: (اسمع يا صديقي الصغير. إن هذا حسن جداً منك، ولكن لا تكرره ثانية)

وقد أثارت هذه الكلمة فضوله وهيجت منه حب الاستطلاع وأراد أن يرى كيف أجرؤ على عصيان أوامره السامية. لذلك لم يفته في الليلة التالية أن ينهض في منتصفها ويدعوني. . سألته ماذا يريد. فأجاب إنه لا يستطيع أن ينام. فأبديت أسفي الشديد وسكت. ثم رجاني أن أشعل الشمعة، فاستوضحته السبب، وصمت. عندئذ هب يدور حول الغرفة راكضاً، صائحاً، مغنياً، ضاجاً صاخباً، قالباً المناضد والكراسي، كل ذلك لإزعاجي والانتقام مني. ومع ذلك، فقد نهضت بصمت وسكون، وأشعلت الشمعة، ثم تناولت صاحبي الظريف بيدي، وأدخلته حجرة له مجاورة لحجرتي وتركته هناك بدون ضوء، بعد أن أغلقت الباب عليه بالمفتاح؛ ورجعت إلى فراشي بدون أن أتفوه بكلمة واحدة. ولا حاجة إلى القول بأن الضجة لم تنقطع بسرعة، ولكني أصغيت - بعد هدوئها - فعلمت أنه يرتب فراشه ويستعد للنوم، فاطمئننت وهدأ روعي. ولما كان الصباح دخلت غرفته فرأيته مستلقياً على فراش صغير وغارقاً في نوم عميق ولا تظن أن هذا الطاغية الصغير لم يكن يحسن من أنواع المشاغبة والمشاكسة إلا هذا النوع. كلا، ففي أية ساعة يحلو له الخروج فيها، يجب على المربي المسكين أن يكون مستعداً لاصطحابه - أو بالأحرى لمتابعته والجري وراءه - وكان يُعني عناية فائقة ويحتفل احتفالاً خاصاً باختيار الوقت الذي يكون فيه مربيه منهمكا في أعماله أشد الانهماك، كأنه يريد أن ينتقم منه على الراحة الذي اضطر في الليل إلى تركها له

. . . لذلك لم يفته في اليوم التالي أن يقطع على عملي ويطلب مني أن أصحبه، وأترك ما أنا فيه من عمل بمزيد السرعة. فرفضت، ولكن رفضي لم يزده إلا إلحاحاً وإصراراً. . .

وأخيراً قلت له: كلا! أفهم أني حين أنفذ إرادتك، فإنك تعلمني أن أنفذ إرادتي أيضاً. . . إني لا أريد الخروج! فأجابني على الفور: حسن! فإني خارج وحدي!

قلت: (كما تريد). . ورجعت إلى عملي متغافلاً عنه

. . . أخذ يلبس ملابسه مهموماً لأني لم أنهج سبيله وأسلك مسلكه. ولما انتهى من لبسها حياني تحية الخروج، فرددت التحية، وأراد أن ينذرني الإنذار الأخير، فأخبرني صارخاً بأنه ذاهب إلى آخر الدنيا. فأجبته بأني أتمنى له سفراً سعيداً وعوداً حميداً. . . عند ذاك ازدادت دهشته، وعظمت حيرته، واشتد ارتباكه، وطلب من خادمه أن يتبعه، ولكن الخادم - الذي كنت قد حذرته من مرافقته وتنفيذ أمره هذا - قال إنه لا يملك من الوقت ما يسمح له بمصاحبته، وإنه يراعي مصلحتي وينفذ أوامري قبل أن يعني بمصلحته وأوامره. . .

وكيف يعقل أن نترك طفلاً يخرج وحده وهو يعتقد أن الناس جميعاً مهتمون بأمره، حريصون على إرضائه، مستعدون لخدمته؛ ويظن أن السماء والأرض مكلفتان بصيانته وحمايته. لقد أخذ يشعر بضعفه ويحس بعجزه، ويفهم أنه وحيد وسط أناس لا يعرفونه، ولا يقدرونه، ولا يحفلون به. ويتمثل المخاطر التي سيلاقيها، والعقبات التي ستعترضه في طريقه. . . ومع ذلك فقط ظل يلح في الخروج

. . . نزل الدرج ببطء وذهول. ودخل الشارع، معزياً نفسه بأن ما قد يصيبه من سوء تقع مسئوليته عليّ. وبقيت أنا أراقبه وأتابع حركاته. وّما كاد يتقدم بضع خطوات حتى سمع أصواتاً تتحدث عنه وتصل إلى أذنيه عن يمين وعن شمال

- إلى أين يذهب هذا السيد الجميل وحده؟ - إنه تائه يا صديقي. أريد أن أرجو منه الدخول إلى بيتنا

- أنظر يا صاحبي إليه جيداً! ألا ترى أنه (شقي) طرد من بيت أبيه لشقاوته وعناده؟ دعه يذهب إلى حيث يشاء

- حسن! ليصحبه الله! إني خائف عليه من المصير!!. . . .

وما كاد سيدنا المتمرّد يسير ليلاً حتى التقى بطائشين في مثل سنة تقريباً، راحا يغيظانه وينهرانه ويضحكان منه. . . وهكذا، كلما تقدم وجد أصنافا من المربكات وضروباً من المعرقلات. . . لقد وضحت لديه قيمته عند الناس، وعلم أنه وحيدُ مهدوم الحماية محروم السند، ورأى سخرية الناس منه، واحتقارهم له، وأدرك مع الدهشة العظيمة أن عقدة كتفه الثمينة، وحاشية كمَّيْه الذهبية، لمن تنفعاه كثيراً أو قليلاً، ولم تحملا الناس على احترامه وتقديره، أو تضطرهم إلى مراعاة رتبته ومقامه!. . .

وكنت في أثناء ذلك قد أرسلت صديقاً لي لا يعرفه، ورجوته أن يتبعه على ألا يشعر به، فاقتفى أثره مدة، ثم استوقفه وراح يعظه، ويهوّل له خطورة عمله، ووقاحة فعلته، ووخامة عاقبته حتى لان وارتدع، وأحس بالخوف وشعر بالندم، ورجع إليّ مرتبكا مذهولاً خائر العزم مطأطئ الرأس تعلوه صفرةٌ وترهقه ذلة

ولكن يتمم أبوه الدرس، ويجعله قاسياً لا يُنسى، نزل في الدقيقة التي رجع فيها ابنه بحجة الخروج، والتقى به على الدرج؛ وأدرك الطفل أنه لا مناصَ من أن يقول من أين جاء، ولماذا لم أكن معه. . . لقد كان المسكين يود في تلك الدقيقة لو تغور به الأرض وتبتلعه، على أن يجيب على تلك الأسئلة المحرجة. . . ولكن أباه لم يطل في تعنيفه ولومه، بل قال له: (عندما تريد الخروج وحدك، أخبر مربيك. وإن عدت إلى فعلتك التي فعلت فإنك ظالمٌ نفسك - لأني سأعدّك لصاً حقيراً ولن أقبلك ولا أسمح لك بالدخول في بيتي!)

عبد الكريم الناصري