مجلة الرسالة/العدد 364/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 364/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1940



تأملات:

اللهم احفظنا!

للأستاذ عزيز فهمي

- عينا من هاتان القاسيتان اللتان أخفيت وجههما لتنظر فيهما؟. . . أرني هذه الصورة. . . بيلا لوجوزي؟! دراكولا؟! لم أكن أحسب أن هناك من يجد المتعة في النظر إلى عيني دراكولا. . . مصاص الدماء

- لك الحق! فمن كان مثلك، فإنه لا يستطيع أن يفتح عينيه في عيني دراكولا

- مخيفتان!!

- من غير شك، ولكن لماذا هما مخيفتان وهما، مهما كانتا. . . عينان. . .

- لا أدري، ولكنه يخيل إلي أنني لو قابلت دراكولا، والتقت عيناه بعيني لما استطعت إلا أن أمد له عنقي ليمتص من دمي ما يشاء. . .

- فإذا قابلت لاندرو؟!

- ومن لاندرو؟

- سفاح فرنسي كان يصيد الفتيات والنساء الصغيرات بنظراته، حتى إذا تملكهن انفرد بهن وقتلهن واستولى على حليهن ودفنهن

- يا حفيظ! وكيف كان يصيدهن بعينيه هذا الرجل البغيض المجرم؟. . ماذا كان يجذبهن إليه؟

- شيء مثل الذي في عيني دراكولا، وقد قلت: إنك لو رأيت عيني دراكولا ورأى عينيك لما استطعت إلا أن تسلمي له جيدك هذا المرمر، ليمتص ما شاء من دمك. . .

- وما الذي في عيني دراكولا؟! أرني الصورة. . . أرني. . . قسوة!. . .

- وهل تغري القسوة بالإقبال عليها وبذل الدماء لها؟

- إذن فما الذي في هاتين العينين؟ إنه على أي حال شيء كريه، ومع ثقله على النفس له سيطرة وسيادة وأمر لا مر من طاعته. . .

- فبأي الأسماء تسمين هذا؟

- إنهما عينان تطعنان نفس الذي تنظران إليه. . .

- ولكن المطعون لا يزحف إلى طاعنة. . .

- لولا أنهما تؤذيان لقلت إنهما جذابتان

- ولماذا تخلقين التناقض بين الجذب والأذى؟. . . أما يجذب العنكبوت الذبابة وفي انجذابها إليه هلاكها؟ أما يجذب الفسفور الأوكسجين، وفي انجذابه إليه احتراقه؟ إن عيني دراكولا جذابتان ومؤذيتان. . . ولم لا؟!

- إنهما حقاً عجيبتان. . . قل لي ما هما؟

- هاهما تان أمامك. . . انظري إليهما تعرفيهما. . . بل إنك تعرفينهما وتخافينها كما قلت، فماذا تريدين مني أن أقول لك عنهما. . . إني أستحي. . .

- أنت تستحي؟! صحيح مؤدب جداً، تقي جداً، نقي ورع. . .

- انظري إلى عيني. . . عيني أنا؟. . .

- هاأنا ذي نظرت. . . هيه. . . (أخص) عليك! تلعب لي حاجبيك؟!. . . أما إنك مسخرة!

- أأنا المسخرة أم المسخرة أنت؟ أنا نظرت إليك ورقص حاجباي فوق عيني أثناء ما كنت أنظر إليك، فلماذا ضحكت، ولماذا قلت ما قلت؟ الآن حاجبي رقصا؟ هبيه زر كربوشي أرقصته نسمة وأنا أحدثك؟ أفكنت تضحكين؟ أو هبيني نظرت إليك وعبثت بأصابعي و (طقطقتها). . . أفكان هذا يضحك؟

- ولكن تلعيب الحواجب له معنى. . .

- وأين رأيت هذا المعنى؟ في قاموس؟ أم في جامعة أستاذها كشكش؟

- ليس حتما أن تكون كل المعاني التي يدركها الناس مسجلة في كتب وقواميس أو ما يلقي عنه الأستاذ دروساً ومحاضرات في الجامعات. . . بل إن هذا المسجل في الكتب والقواميس، وهذا الذي يلقي في الجامعات والمدارس لهو الأقل من العلم، والبعد عن حاجة الحياة. . .

- أنا معك في هذا. . . والآن قولي لي. . . لماذا أنت إذا نظرت إلى عيني دراكولا خفت منهما ومع هذا الخوف انجذبت إليهما. . . ولماذا أنت إذا نظرت إلى عيني أنا ضحكت ومع هذا الضحك انجذبت عنهما. . . تفرين مما يضحكك وتندفعين إلى ما يخيفك! لماذا؟

- أنا التي أريد أن أعرف السبب، بل إني قبل أن أعرف السبب أريد أن أعرف ما هذا الذي في العيون ينتقل منها إلى العيون الأخر فينقل معه أشياء من النفوس إلى النفوس الأخر. . .

- أما هذه فإشعاعات. . . هي انعكاسات نورانية أو نيرانية تنبعث من نفس إلى نفس عن طريق منافذ النفس والعيون من هذه المنافذ. . .

- وهل غير العيون للنفس منافذ؟

- الفم وإن كان لا ينشط في هذا كثيراً إلا عند النساء والمغنين، واليدان، والجلد. . . وغير ذلك. . وغير ذلك. . .

- دعنا من ذلك فإني أريد أن نبقى الآن في حديث العيون

- قبل أن ادعنا من هذا أقول لك للمرة الألف امسحي هذا الأحمر من فوق شفتيك فإن المعبر فيك عن نفسك يا هذه هو فمك. . . هو الجذاب فيك

- ولا شيء غير فمي؟

- الآن حلا لك أن نترك حديث العيون لنتحدث عن ذاتك الكريمة؟. . . دعينا من هذا وعودي بنا إلى العيون وقولي لي بأي شيء تفسرين ما يفعله النساء في مصر من تبخير اللواتي تصيبهن الأعين منهن؟. . .

- هذه خرافة من خرافات الجاهلات العجائز ليس لها شأن بما نحن فيه

- بل هي علاج مما تعلمه هؤلاء الخبيرات العجائز وهي ليست شيئاً غي ما نحن فيه. . .

ألا تعرفين متى يقولون إن فلانة أصابتها عين؟

- عندما يعتقدون أن حاسدة حسدتها. والذي أعرفه أنا عن الحسد هو أن يتمنى إنسان زوال النعمة عن إنسان آخر، ولكن لست أدري كيف يتصورون أن أمنية خاطئة شريرة كهذه إذا ثارت في نفس إنسان حاسد كان لثورتها هذه أثر حق في المحسود. ولأني أعجز عن تصور هذا أقول إن حديث والحسد والعين خرافة وإن المشتغلات به من الكوديات، والمشتغلين به من مشايخ الزار دجالون بضاعتهم وتجاربهم التي يرونها بين الناس أوهام وأباطيل.

- إنك مخطئة، فالحسد والعين ليسا خرافة، مشايخ الزار و (الكوديات) ليسوا جميعاً دجالين، فمنهم الدجالون حقاً، ولكن منهم أيضاً علماء النفس المتمكنين منه علماً وعملاً وكهانة وسحراً. . . تصوري (بهلواناً). . .

- ماذا؟

- البهلوان الذي يمشي على الحبل ويقفز في الجو من عقدة إلى عقدة، ومن حلقة إلى حلقة. . . ألا تعرفين؟. . . هذا (البهلوان) يقوم بألعابه هذه كل ليلة، وهو لأنه مدرب عليها وحاذقها يوفق فيها دائماً كما يوفق دائماً كل عامل مدرب وكل لاعب مدرب. وإذا نظرت إلى هذا (البهلوان)، وهو يقوم بألعابه هذه ترين أنه يأبى أن يسلم عينيه لنظرات الناس، فهو دائماً متجه بنظره إلى لا شيء، أو إلى عينين يحبهما ويطمئن إلى إيمانهما به؛ أما غير ذلك، فهو يخشى لو أنه تلقي نظرات الناس أن يتلقى فيها نظرات شكاكة ينبعث منها الحذر عليه من الفشل في لعبه، والفشل في لعبه معناه الموت. والذي يخشاه من هذه النظرات الشكاكة، هو أن ينتقل شكهما فيه إلى نفسه، فيشك في نفسه، فيتردد في حركاته، فيختل توازنه في قفزة، أو في همة أو في هبطة، فيضيع، وكما يخشى هذه النظرات الشكاكة يخشى أيضاً النظرات الحاسدة التي ينعكس منها بصراحة تمني زوال هذه البراعة عنه، وهذا شيء يبعث في نفسه قوة تتجه إلى إقناع عقله بأن هذه البراعة لن تزول عنه، هذا إذا كان قوياً، أما إذا كان في نفسه شيء من الضعف، فإنه قد يسائل نفسه: أليس ممكناً أن تزول هذه القوة عني. . .وماذا أصنع إن هي زالت؟!. . . ثم من يدربني إذا كانت قد زالت فعلاً، أو أنها لا تزال باقية؟. . . وهذه الاضطراب وهذا الانشغال يستنفدان كثيراً من قوة (البهلوان) ومن جهده بعد أن كان يتجه بقوته كلها وبجهده كله إلى إتقان ألعابه. . . فلا عجب بعد ذلك إذا هو فشل وهو غارق في هذه الزلزلة، فإذا فشل قالوا أصابته العين والعين أصابته فعلاً، وهم يعالجونه بالتبخير والترنح والفوضي الحركية التي يمارسونها في الزار لأنه بهذا يخدر أعصابه ويكف إرادته عن السيطرة على تفكيره، فيوحون إليه وهو في هذه الحال بأنه مصون، وبأن الله حافظه، وبأن الصلاة على النبي واقيته، وبأنه عن أي سبيل من سبل الاطمئنان قوي قادر بارع له أن يثق بنفسه وألا يعود مطلقاً إلى الشك فيها، وألا يعود مطلقاً إلى الخضوع لنظرة شكاكة أو نظرة حاسدة. . . وكما تصيب العين الإنسان الفرد فإنها أيضاً تصيب الإنسانيين، فهما إذا تحابا وتبادلا الإخلاص والتقيا وهما في حالة من حالات الغموض المريح الذي يسعدان به ورأيا عيناً تنظر إليهما نظرة مستفسرة عن هذا الغموض مصرة مصممة على ألا تفرض فيه خيراً ثار في نفس كل منهما الشك في صاحبه والشك كسر يصيب ما بين المخلصين من ود، وجبره صعب. . . والأصل نظرة تنطبع في عقل المصاب فليزمه الضعف والفشل

- هذا كلام طيب، ولكنه لا يزال بعيداً عن نظرة دراكولا، ونظرة لاندرو، ونظرتك أنت المضحكة السخيفة. . .

- بعد كل هذا اللت والعجن لا أزال بعيداً. . . إن نظراتنا جميعاً: أنا ودراكولا ولاندرو تسأل وتجيب عما تسأل عنه وتطلب وتأخذ الذي تطلبه في أن واحد. . . وكل ما بينها من فرق يعود إلى اختلاف الموضوعات التي تهتم بها. . . فدراكولا ينظر إلى فريسته وهو يقول أنا قوي، وإلى جانب قوله هذا يسأل: وأنت؟ وإلى جانب سؤاله هذا يجيب: ضعيفة. وإلى جانب إجابته هذه يطلب: هات دمك لي فحياتي اثمن من حياتك وأبقى وأشد امتلاء، واظهر وأنفع، وهو إلى جانب ما يطلب هذا يأخذ. . . وهو يأخذ لأن فريسته لا تستطيع أن تكذبه. . . كنظرة القط إلى الفأر؛ فالقط يقول بنظرته للفأر أنا أقوى منك وحياتي أظهر من حياتك وأنت غذائي فتعال إلى لآكلك فأنا جائع، فيقف الفأر، أو لعله يدنو إلى القط بنفسه. . . كلمعة النار أمام الفراشة تقول لها أنا وضاءت لماعة حية ظاهرة متألقة فماذا أنت؟ تعالي إلي واحترقي في لتلمعي لمعة، ولتومضي ومضة ولتكوني لي طعاماً. . . فتأتيها الفراشة مقتنعة. . . هي سيادة وهبتها الطبيعة لمخلوقات تفرضها على مخلوقات ترضى بها. . .

- ولاندرو؟

- لاندور يهتك فريسته بعينه؟ يقول لها: أنا ميال، وأنت ميالة، فتعالي نتعاطف ما نميل إليه. . . لا تكذبي ولا تعرضي فأنت تريدين مثل الذي أريد. . . تعالي. . .

- يا مغيث! وأنت تستعين بتلعيب حاجبيك لعجزك فتضحكين

- ليس هذا لعجزي، وإنما لأفهمك أنه عندي نوع من العبث، لا أجد الجد كله فيه. . .

- من خيبتك. . .

- هذه الخيبة أدعوها أنا تسامياً. . . وثقي يا حضرة الدرة المصونة، والجوهرة المكنونة، أنني لو لم أر في هذه الخيبة حسناً وإحساناً، وأني لو عمدت إلى الإصابة بعيني وفمي

- ويديك وجلدك وغير ذلك وغير ذلك. . .

- نعم. . . لكنت وحشاً لا أحب أن أكونه. . .

- اللهم احفظنا. . الآن في عينيك بريق كالذي في عيني دراكولا. . .

- والآن في جيدك حنين يسبح تحت جلده. . . تعالي. . . ولا تقامي لئلا تجمد عيناك ويغلظ جلدك

- يا أمّه!. . .

عزيز أحمد فهمي