مجلة الرسالة/العدد 362/من هنا ومن هناك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 362/من هنا ومن هناك

مجلة الرسالة - العدد 362
من هنا ومن هناك
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1940



الموت ليس نهاية الحياة

(عن مجلة (باريد الإنكليزية))

قد يحدث أحياناً في جلسة خاصة لمناجاة الأرواح، حيث لا يحضر غير الوسيط وشخص آخر أو شخصان، أن روحاً مجهولة تتصل بالوسيط وتطلب منه إبلاغ رسالة أو تحية إلى أحد أقربائها الذين لا يزالون في قيد الحياة؛ وربما تذكر له أيضاً من هي وأين كانت تعيش. وقد يظهر أحياناً أن الروح تعثر على الوسيط مصادفة ثم تعجب لما تشعر به من قدرة على مخاطبته، فتبرهن بجلاء لا يقبل الجدل أنها روح حقيقة لإنسان ميت لا شخصية وهمية من اختلاق العقل الباطن

إن قصة (أرثر فريزر) التي نقصها عليك اقتبسناها من كتاب صدر حديثاً عنوانه: (إلى اللقاء لا وداعاً) تأليف (والتر بليارد) المحلف القضائي والمحافظ السابق لمدينة (شفيلد). أن هذا المؤلف كان يخاطب دائماً روح زوجته المتوفاة فتجيبه هي بلسان الوسيط، بنفس اللهجة التي كانت تتكلم بها في حياتها، وكانت تبرهن له على شخصيتها بالبراهين القاطعة. وكانت وهي على قيد الحياة تهتم بالأبحاث الروحية اهتماماً عظيماً، فكانت بالطبع مطلعة على الانتقادات التي توجه غالباً إلى مناجاة الأرواح، لذا كانت تحاول في كل مرة أن تقدم لزوجها عند مناجاتها براهين لإقناعه لا يمكن دحضها أو الشك فيها، إذ تأتيه بأرواح أشخاص لا يعرفهم هو ولا أحد من الحاضرين.

يحدثنا المؤلف فيقول: بعد أن أدينا التحيات المعتاد وعبارات المجاملة نحو زوارنا الذين هم وراء الغيب، جاءتنا روح غريبة تطلب الإذن منا بالحديث، ثم قالت إنها روح شاب اسمه (أرثرايم):

(مت منذ ثلاث سنوات بمرض ذات الرئة في مستشفى محلي، وكان عمري إذ ذاك ثلاثة وعشرين عاماً. وكنت أسكن في منزل رقمه 18 (كلايف رود)، وقد تركت حبيبة لي اسمها (مس كارول) وهي تسكن في رقم 229 في (فلينت ستريت)، فأرجو منكم أن تخبروها بأني لست ميتاً وبلغوها عني سلام الحب فأني أظن ذلك يسرىّ عنها، ثم أرجو أن تخبروا والدي بأن أمي معي وهي تهدي إليه تحيتها القلبية. . .) أما أنا فقد اهتممت بالأمر واتصلت في الصباح التالي تلفونياً بالطبيب الذي يدير المستشفى الذي ذكره ورجوته أن يبحث في سجلاته عما إذا كان فيها اسم (أرثرايم)، شاب مات بذات الرئة قبل ثلاث سنوات. فأجاب الطبيب: (لقد مات عندنا رجل ذات الرئة قبل ثلاث سنوات، ولكنه لم يكن شاباً، إذ كان عمره فوق الأربعين. . .) أخذت مني الحيرة في هذا مأخذاً عظيماً، لأني لم أعهد من (الأرواح) قبل ذلك كذباً ولا افتراء. استنجدت بزوجتي طالباً منها التوضيح، فأجابت: (سوف تكتشف السر قريباً) فعزمت عندئذ أن أذهب إلى رقم 18 (كلايف رود) في الطرف الشرقي من المدينة حيث تسكن الطبقة العاملة. فلما بلغت هنالك وجدت ساكن البيت له أسم غير الذي ذكر، وهو كذلك لا يعرف عن صاحب الاسم شيئاً. وبعد أن قضيت طويلاً في البحث والتحقيق رجعت يائساً متعباً

بعد هذا سافرت خارج البلاد في عطلة وعند رجوعي عزمت على إعادة البحث، فقررت أن أزور بين الحبيبة (مس كارول) لعلني أجد لديها بعض الإيضاح. ذكرت عزمي هذا للوسيط فأخبرني بأنه خلال الأيام القلائل الماضية قد سمع لفظة (فريزر) تتكرر على مسمعه مرة بعد أخرى بصوت امرأة أول الأمر ثم بصوت رجل بعد ذلك. إنه لم يسمع غير ذلك ولم يدر ماذا يراد به. ظننت أن ذلك له صلة بالأمر فادخرته في حافظتي إلى حين

ذهبت إلى رقم 229 (فينت ستريت) وطرقت الباب فلما فتح ظهر من ورائه شابة فسألتها: (هل أنت مس كارول؟) فأجابت: نعم

- هل تعرفين شاباً اسمه (أرثرايم؟)

- أنا لم أسمع بهذا الاسم

فانحنيت احتراماً وسألتها سؤالاً آخر: (هل تعرفين (أرثر فريزر))

- ماذا تعني بذلك، وماذا تبتغي منه؟

- حسن! حسبي أن أعرف أنك تعرفين هذا الشخص

- لقد كان حبيبي ولكنه مات بذات الرئة قبل ثلاث سنوات.

وهنا أجهشت الشابة بالبكاء، ثم ذهبت إلى منضدة كانت في وسط الغرفة فألقيت عليها ذراعيها، واعتمدت رأسها بيديها أخذت تعول. أخذت أنا أهدئها، ثم شرعت أحدثها بقصة حبيبها وتحيته لها، فرفعت رأسها قليلاً ثم شرعت تقص عليّ كيف عاشاً معاً حبيبين، ولكنه ذهب أخيراً للحرب في سبيل وطنه، ثم رجع محطما فقضي بقية حياته في المستشفى

إنها مأساة كغيرها من آلاف المآسي التي أنزلتها بنا الحرب ولقد وجدت صعوبة في تفهيم الفتاة كيف استطعت أن آتي لها برسالة من حبيبها المتوفى. ولكني حاولت ذلك جهدي

أرشدتني الشابة إلى دار حبيبها الفقيد الذي يبعد عن دارها مسافة خمس عشرة دقيقة على الأقدام، وإذ ذهبت هناك وجدت رجلاً يكسر خشباً في المطبخ فسألته:

- هل أسمك (فريزر)؟

- نعم

- هل زوجتك ميتة؟

- نعم

- هل فقدت ولداً في الحرب؟

- نعم

- هل كان لولدك حبيبة اسمها (مس كارول)؟

- نعم

وعندئذ تناول صورة شمسية من الجدار وأراني إياها. حقاً كان الرجل ذكياً محترماً في طبقته، وحين أوضحت له غرضي من زيارته، وقصصت عليه حديث ابنه وزوجته التي أرسلت إليه تحية الحب، كنت كأني قد لمست وتراً حساساً من قلبه فقال: (قد قرأت مؤخراً عن السر أرثر كوناتن دويل). وعلى هذا كان الرجل مهيَأً بعض التهيؤ لفهم الحقائق التي أدليت بها إليه

وبعد أن دخنَّا وتحدثنا رجعت إلى داري شاعراً ببعض الاطمئنان لما قمت به في ذلك الصباح، ولكني ما زلت أحس بقية شك في حنايا النفس. كان عليَّ أن أعرف سبب ذلك الخلط في الأسماء، إذ كيف أعطانا الشاب اسم (أرثر ايم) ثم انقلب الاسم بعد ذلك إلى (أرثر فريزر). سألت زوجتي فأجابت بأنها لا تعلم ولسوف تبحث الأمر. . . وبعد لأي جاءتني بالتفسير التالي أنقله بدون تعليق: (إن اسم الشاب هو (أرثر فريزر) ولكنه حين كان يخاطبك جاء رجا آخر يقال له (. . . ايم) فوقف إزاءه. لقد كان هذا الرجل الأخير متحمساً لتلك الصدفة لأنه مات بنفس الداء وفي نفس اليوم ونفس المكان، ولم يكد (أرثر فريزر) ينطق بشطر اسمه الأول حتى تدخل (. . . ايم) في الحديث ونطق بشطر اسمه الثاني، وعلى هذا اكتمل الاسم لديكم كأنه (أرثر ايم) من غير انتباه لما بين الصوتين من اختلاف)

أما أنا فقد اعتبرت هذا الحل ممكناً، ولكني لم أزل أشعر ببعض الحاجة إلى دليل أوضح، ولذلك ذهبت إلى الطبيب في المستشفى مرة أخرى فذكرته بزيارتي الأولى له وقصصت عليه القصة كلها، ثم رجوته أن يرجع مرة ثانية إلى سجله فاستجاب لي وأخذ يبحث، ولكنه سرعان ما تملكته الدهشة حين رأى ما يلي:

الاسمالعمر المرضتاريخ الوفاة

ارثر فريزر23سنة ذات الرئة21 920

جيمس هنري آيم 46سنةذات الرئة 22 920

حقاً إنها شهادة عظيمة، ولكنه لم يزل ثمة شيء ضئيل من التناقض، ذلك أن زوجتي قالت إن الرجلين ماتا في يوم واحد. وقد فسر الطيب ذلك ربما مات في منتصف الليل ومات الآخر بعد نصف ساعة، ولا شك أن زوجتي قد أخبرت بيوم الوفاة لا بساعتها

لقد عجب الطبيب من هذا الأمر لأني لم أكن أعرف قبل ذلك عن هذين الميتين شيئاً

(م)