مجلة الرسالة/العدد 361/وجيدة
مجلة الرسالة/العدد 361/وجيدة
قصة للأستاذ شعبان فهمي
(276 صفحة من القطع الصغير. مطبعة صلاح الدين
الإسكندرية 1940. الثمن 8 قروش مصرية)
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
وهذه قصة جديدة هي باكورة آثار الأستاذ شعبان فهمي، وهو أديب مصري شاب. أقام بفرنسا فترة من الزمن، فاتصلت به الأسباب بالجهود الفنية القصصية الكبرى هناك، فكان من ذلك أن اتجهت قابلياته الأدبية اتجاهاً قصصياً. تظهر فيما له من براعة في السرد وحبك الحوادث، وهذه القصة على الرغم مما فيها من العيوب الفنية تعتبر النموذج الأول للقصة المصرية الواقعية، وهي في الوقت نفسه باكورة طيبة للارتفاع بشأن القصة الطويلة في مصر. وهي على الرغم مما فيها قوية في روحها، تمتاز بانفراج عنصر الحياة التي فيها واتساعها، ولكن الحشد الكثير للوقائع والتفاصيل، ثم الاقتصاد في الوصف والتحليل للوقائع الرئيسية وللمواقف المهمة، ألقى على جوّها شيئاً من الضعف والفكرة التي تمسك على هذه القصة أسبابها متوافقة الأجزاء، فيها تناظر وانسجام. فهذا منير حمدي شاب مصري يستقبل الإسكندرية بعد غيبة سنتين في فرنسا يدرس فيها الحقوق فلا ترى وصفاً للمشهد العام للإسكندرية من البحر ولا تحليلاً مسهباً للمشاعر التي استولت على نفس الشاب، وإنما تجد الكاتب يطوي الموقف بسرعة معتنياً بوصف تفاصيل لم تكن لازمة ليدنيك أخيراً من خاتمة المشهد المؤلم، وهو لقاء منير حمدي لوالده بعد غيبته، وهو على سرير الاحتضار، ويصبح الفتى بعد وفاة والده موضع العناية والرعاية من عمه الذي يجب أن يظهر له عنايته ورعايته بأن يشجعه على المضي في دراسته حتى يستطيع أن يتزوج ابنته سنية، ويعلن منير الخير لبعض معارفه، فتنتهي إلى سمع سنية التي تثور لأنه لم يحدث أن أخذ رأيها في مسألة زواجها منه. غير أنها تظهر بعد ذلك تحفظاً واقتصاداً معه، والفتى في تقلب من الحال تتنازعه إغراء الفتيات وقلبه متفتح لإغرائهن وفي يوم ومنير بصحبة (سنية) ابنة عمه في مرقص، يحدث أن يتوعك مزاجها وتصاب بدوار؛ فيخر مندفعاً ليجلب لها قرص (أسبرين) من صيدلية، ولكنه لا يحس بنفسه إلا وهو في مفترق الطرق حيث سيارات تمر وعربات تجري وترام قادم، فيجري ويغيب على الدنيا، ويصحو ليجد نفسه في المستشفى وسنية إلى جواره. ويشعر بألم في طرق قدمه اليمنى فيلق نظرة فلا يجد سوى قدم واحدة، أما الأخرى فقد بترت. وتتغير العلاقة بين سنية ومنير، فسنية ترى أنها مسؤولة عما أصاب ابن عمها منير، ويزيح منها إحساس العطف والحدب كبرياءها فتنكشف لها ما تكنه له من حب في أعماقها. غير أن منير يحمل هذا الحب على شفقتها عليه فلا يشجعها في حبها له ويميل عنها، وإن كان في صميمه يميل إليها. وهكذا يتغير الموقف في القصة. وفي هذا التغيير الذي أحدثه الكاتب ما يدل على براعة فنية غير أن منير تحت تأثير كبريائه يحاول أن ينسى سنية. وينساها بالانغمار في شخصية وجيدة التي تحدب عليه وتعطف. ويسافر منير مع وجيدة إلى باريس ليكمل علومه، وهنا يعقد عليها زواجه تحت تأثير ثورة من ثورات كبريائه أمام حب سنية له التي كتبت إليه تشكو تباريح غرامها له. والقصة في جزئها الأخير تفقد اتزانها وتناظرها الفكري، إذ تزيح وجيدة شخصية سنية من جو القصة وتحتلها؛ ولو كان الكاتب أتخذ من وجيدة شخصية عارضة تجيء لتحدث التواؤم بين منير وسنية، حيث ينزاح عن منير كبريائه وعن سنية شعورها بالمسؤولية فيما أصابه، ويبدو حبهما لبعض خالصاً، فإن القصة كانت تتخذ وصفاً أدق للكمال؛ ومن هنا يمكن اعتبار استهلال القصة أبرع ما فيها من جهة الفكرة المتسقة المسيطرة عليها.
وفي القصة مفارقات عجيبة، فبينما تجد أن شخصيتي منير وسنية متميزتان، تجد شخصية وجيدة عادية، رغم ما حاول الكاتب أن يبسطه عليها من الإبهام. وهي برغم عادية شخصيتها ترتبط بشخص منير المتميز الذي ينفصل عن شخصية سنية المتميزة. ولا شك أن هذه المفارقة نتيجة ميل المؤلف مع الفكرة الرومانتيكية حيث الخروج على القواعد الكلاسيكية في القصة. كما وأنه من الملاحظ على شخصية منير اضطرابها وضعفها، فهو لا يقدر على إثارة حب المرأة له إلا عن طريق إثارة شفقتها عليه، وهو في الوقت نفسه ثائر لكبريائه، وفي هذا الاضطراب تقوم شخصيته التي تخلق أعمال القصة بالتداخل مع الشخوص التي تقابله. غير أن الكاتب تمكن من إيجاد الموازنة بين شخصية منير وشخصية وجيدة بتداخل سنية بخطاب ترسله إلى منير تبثه حبها له. فتثور كبرياؤه ويرضى بالزواج من وجيدة. وفي ظله ما يجد راحته النفسية حيث حاجته للمرأة، لم تكن لزوجته فحسب، تشغل منه مكان النصف المكمل، بل كانت حاجته للمرأة كزوجة وأم تشغل منه مركز الأنثى من الرجل، لا مركز الأم من وليدها حيث تحدب عليه. ووجيدة بشخصيتها فيها ما يشبع هذه النواحي من نفس الفتى، وفي هذا سر تغلب دورها في القصة على دور سنية.
أما المميزات الفنية في القصة فتظهر في قوة السرد، وسرعة الحركة، والحشد للحوادث والوقائع، وهذا يعطي القصة ما فيها من حياة، غير أنها حياة عادية لا تميز فيها - وشرط من شروط القصص المتميز - ولعل البساطة في حياتها تعود إلى أن الكاتب يأخذ الأمور بالهوادة والملاينة، ويتبسط مع الحوادث برفق وبطء، مقيداً بالواقع المبذول للحس. ومن هنا فقصته نموذج طيب لما تكون عليه القصة المصرية الأصلية. وهي من هنا تحمل أذهاننا إلى جو أقاصيص محمود تيمور. هذا والكاتب على جانب من الاقتدار في رسم شخوص قصة من حركاتها وسكناتها. وهو يكتفي بتعريف الشخص بميزاته الداخلية دون أن يحاول تكملتها بتكوينه الخارجي. وهذا يرجع لضعف الأصل التصويري عنده. وهو بدوره عائد لبساطة الخيال
والبساطة والسهولة هي أبرز ما يميز أسلوب القصة، وإن كان للكاتب بعد ذلك قدرة على مسك أجزاء القصة وربطها ببعض وسلسلة حوادثها بحيث يتولد بعضها من البعض، غير أنها قدرة لا تتعدى محاكاة الواقع. ولعل هذا نقطة من نقط الضعف فيها إذا أردنا البروز والتميز القصصي، وسبب من أسباب نجاحها إذا وقفنا عند حد الواقع واعتبرنا القصة محاكاة للواقع المبذول للحس.
وهنا موضع الافتراق في النظر لهذه القصة من ناحية فنيتها. . . ويستحسن أن يتلو القارئ فصلاً قيماً كتبه الناقد الأديب صديق شيبوب (البصير 19 أبريل سنة 1940)، فهو فصل انتقادي جدير بالعناية، وهو يكمل ما جاء في كلامنا عن هذه القصة من أراء ومطالعات.
(أدهم)