مجلة الرسالة/العدد 359/نابليون الأديب
مجلة الرسالة/العدد 359/نابليون الأديب
للأستاذ صلاح الدين المنجد
حدثوا أن نابليون كان يرنو ذات يوم إلى البحر الساجي في (سنت هيلين)، يفكر في أمره: كيف صفق له النصر، وابتسمت له الدنيا، وكيف خانه الزمن فأودى به إلى هذه الجزيرة الغرقى وسط البحار. . . فابتسم وصاح: إن حياتي لرواية رائعة، ما كان ضرني لو كتبتها
على أن نابليون إن لم يسجل هذه الرواية بنفسه، فقد سجلها التاريخ، وحفظها الناس فأكبروا منه ذلك الجبروت الطاغي وتلك العزة الرفيعة. وكأن نابليون أراد أن يجمع إلى خلود البطولة والعظمة، خلود الأدب والفن، فود لو يكتب مؤلف
ولقد ذهب (سانت بوف) شيخ النقد في فرنسة، إلى أن نابليون كان أكبر أديب عرفه عصره. واحتج لذلك بروائع خطبه التي كانت تنعش الأمل الذاوي، وتحيي القلب اليائس.
ألم يغر جنوده العراة بكنوز إيطاليا ومحاسنها؟ ألم يكلم الهرم ويجعل القرون تنظر إلى أشبال فرنسة الفاتحين. . . ألم يسكب الحياة في نفوس فرسانه، هناك في سهول أوسترليتز. . .؟ فلقد كانت فصاحة لسانه وبلاغة بيانه تؤثران في كل قلب، وتنفذان إلى كل روح؛ والفصاحة والبلاغة بنتا الأدب البكر الجميل
ولقد ذهب (جاك بانفيل) الكاتب الفرنسي الكبير إلى ما ذهب إليه (سانت بوف) من قبل. ورجع ذلك إلى أن آل بونابرت كانوا ذوي بلاغة تخلب ومنطق يغري، وأن قلوبهم كانت ترف إلى الفنون والآداب. ولعل ذلك آت من أصلهم الفلورنسي القديم - وفلورنسة كانت مهد الآداب في حقبة من الزمن -، ومن أبيهم شارل بونابرت الشاعر الأديب. فلما تسنموا العروش كانوا من حماة الآداب ومشجعي الأدباء. فلقد شجع جوزيف بونابرت ولويس بونابرت ولوسيان بونابرت حملة الأقلام، وإن كانوا وجهوها وجهة خاصة وسخروها لتوطيد سلطانهم. على أن نابليون وحده كان ذا موهبة قصصية رائعة. فقد كانت أفكاره تتدفق ويومض كالبرق، مليء بالصور الأخاذة والتعابير الراقصة والألوان البارعة
ولقد كان ميل نابليون إلى الأدب يحبب إلى نفسه كل رقيق لطيف. فقد كانت تؤثر فيه الموسيقى الناعمة، وتهزه أشعار (أوسيان) الحالمة، وتعجبه مآسي (كورنيل) المترعة بالفخار المفعمة بالبطولة، ويطرب (لهوليز الجديدة)؛ ويقول عنها: (إن هذا الكتاب سيبقى إلى الأبد كتاب الشباب. ولقد قرأته وعمري تسع سنوات فإطار لبي وأذهلني. . .)
وكانوا يقولون: إن لنابليون خيالاً جبارا، وإنه كان يختلق الأقاصيص المرعبة، أقاصيص الجان والشياطين، والمغامرات والبطولات؛ يسمعها رفقاءه في الليل، أو زوجه وأولاده في ليالي الشتاء.
وقد عثر في ثنايا الأوراق التي كتبها في صباه، والتي أودعها بعد واترلو الكاردينال فيش أقاصيص ثلاث نشرت في عام 1895 في فلورنسة تحت عنوان (نابليون المجهول) وقد كتبها عام 1789 عندما كان ضابطاً في (أوكسون).
أما القصتان الأولى والثانية، فقد قبسهما من التاريخين العربي والإنكليزي. أما الثالثة، فهي من تأليفه، وفيها يصور كورسيكياً شيخاً فر مع ابنة له إلى جزيرة مصخرة تناطحها الأمواج هرباً من ظلم (قوم) ذبحوا أبناءه وذويه.
وتصرمت أعوام. . . وإذا بالعالم البولوني سيزيمون اسكيناري يخرج للناس قصة كتبها نابليون في عام 1795 عنوانها (كليسون وأوجيني): لها صفات القصة الوصفية التحليلية وفيها حقيقة يشوبها خيال، وهي أشبه بما يكتبه الأدباء أول عهدهم بالكتابة
كتب نابليون هذه القصة وهو يتخطى الخامسة والعشرين من عمره، أوحاها إليه حبه لفتاة أسمها وهي الفتاة التي عرف بها الحب الأول. وكان قد رآها في مارسيليا، إذ أتي إليها بعد أن ذاع اسمه في حصار (طولون) فأحبها. وكان دقيق العود جميلاً، فألهب خيال هذه الفتاة بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر، وكلامه المتدفق كالماء، اللاهب كالنار؛ وأسكرها بأقاصيصه الحلوة، وأطربها بأشعار أوسيان الذائعة. وتحابا. . .
ولم يطل بقاء نابليون في مارسيليا، فاضطر إلى السفر إلى باريس، تاركاً حبيبته الصغيرة وحدها. وما وطأت قدماه باريس حتى أرسل إليها رسالة فيها الشوق والحب والحنين، ولكن أهلها منعوها من الكتابة إليه. فاضطرب نابليون لصمت الحبيبة الصغيرة، فكتب لها كتاباً يصور لها فيه باريس الفاتنة ليثير شوقها إليها. ولكنها صمتت أيضا فكتب يقول:
(إن الحياة حلم رقيق لا يلبث أن يذوب كالضباب. إنني أشعر وأنا أكتب الآن بهياج في عواطفي ما شعرت بمثله قبل هذا اليوم. ولئن طال هجرها لأقتلن نفسي، ولأرمين بهذا الجسم تحت عجلات العربات. . .) ثم عاوده الحنين فكتب إليها مرة أخرى، ولكنها لم تحفل به وأعرضت عنه. عندئذ ضاق ذرعاً. . . فكتب لنا قصته هذه، وقص على الناس نبأه ونبأ (أوجيني) الغادرة، وكيف نشأ وترعرع، وكيف أحب وكيف خان الحبيب، وسمى نفسه (كليسون) وحول قليلاً وحور
لقد كتب في قصته: (ولد كليسون للحرب والنزال، وكان يعلم سير القواد وهو ما يزال صبياً، وكان يحب أن يتفقه في فن القتال مذ كان في المدرسة يافعاً، على حين كان رفقاؤه يفتشون عن الفتيات يلهون بهن. فلما قارب السن التي تؤهله للقتال، أقبل على الجندية مسرعاً. فبرع في أمورها، وناداه النصر، فذاع في الشعب اسمه، ونظر إليه الوطن كبطل من أعز أبطاله، ولكن روحه كانت ما تزال ظمأى للنصر والخلود، ولقد كانوا يسمون طموحه كبرياء، وقوة إرادته شدة، وكان ينظر إلى نفسه البكر فيتأمل فيها، فيرى أنه أبعد الناس عن الحب.
فلقد كان له خيال مشبوب، وقلب ملتهب، وعقل راجح، ولكن فكره كان (بارداً) لا يسعفه بالخاطرة البارعة والنادرة والفريدة فدفعه ذلك إلى الملل من دلال الفتيات والابتعاد عن التلطف والتظرف، وعم تزوير الجمل واللعب بالكلمات لينال رضاهن وعطفهن
(وكان يحب أن يشرد في الغابات الخضراء، لا يحفل بالتعب ولا يخشى العناء، ليبتعد عن جنون البشرية وانحطاط أهلها
(وكان يستسلم إلى أمانيه، ويصغي إلى همس فؤاده، فيخلد إلى العزلة، وينظر إلى الليل الحزين الهادئ المزدان بأشعة القمر، ويستمع إلى صوت الطبيعة الخفي، حتى إذا تنفس الصبح، عاد حزيناً سادراً لينال قسطاً من الراحة التي ظمئ لها
(وكان يعجب باختلاف ألوان الطبيعة، يهتز لميلاد النهار، ويطرب لغروب الشمس، ويصفق لأغاريد العصافير، وخرير المياه، ورفيف السهول. وكان ينفق الساعات في تأملاته هذه في أعماق الغاب. . .
(على أن ميوله هذه أفهمته أنه بعيد عن الحرب وفنها، وعن الدمار وأصوله. وكان يخيل إليه أن تهذيب الشعوب وإسعادها خير من قتالها وقتلها. . . ولكنه كان يسعى إلى التخلص من هذه الفكرة التي لم تطرب نفسه لها
(وفي هذه الفترة يلقى كليسون أوجيني مع ترب لها اسمها (إميليا) فعرفهما. وكانت إميليا كقطعة من الموسيقى الفرنسية ينصت الناس إليها بشوق، أما أوجيني فكانت كأغرودة العندليب أو كقطعة من موسيقى (بازيللو) الإيطالي لا تعجب بها إلا النفوس الرقيقة الحساسة. . .
(ولقد كانت إميليا توحي الحب بجمالها، أما أوجيني فكانت تعجب الرجل القوي الذي لا يحب تحت سلطان الدلال والذوق، ولكنه يحب لأنه يشعر بأنه بحاجة إلى الحب. . .
(ومسح فؤاد كليسون - الذي اعتاد النصر والمغامرات - هواه مسحة جميلة، وأكسبه قوة وصلابة. . . فعلمت أوجيني أن عليها أن تتصل بهذا الرجل العظيم، ليذيقها السعادة الخالدة. فيكتب لها الخلود
(وتزف أوجيني إلى كليسون، ويرزقان أولاداً، وبنتاً اسمها (صوفيا)، وكانت أوجيني زوجة غيوراً، تخشى شر الفتيات أن يغرين زوجها. . . ولقد غضبت عليه يوماً، وانفجرت باكية تقول: إذا كنت تريد أن تصدف عن حبي فخذ بهذه اليد التي كانت تداعب حبيبتك - حياتي. . . ولكن نابليون يهدئ روعها، ويقسم لها ليبقين على العهد، وليحفظن الود
(. . . ويضطر إلى الرحيل ليقود كتيبته إلى المعركة. . . فيترك أوجيني تنتحب وتذرف الدمع، ويحرز نصراً بعد نصر، وينال شهرة بعد شهرة، وكانت زوجه ترسل الرسائل إليه كل يوم، ولكنه كان لا يعبأ برسائلها، ويحاول أن ينساها، فيرسل إليها (بييرفيل) الضابط الجميل الذي كان في فجر حياته، يفتش عن فتاة يودعها قلبه، فأحبته، وكان الحب (باسم الصداقة)، ثم ما لبثت أن نسيت حبيبها الأول كليسون، وانقطعت عن الكتابة إليه.
ويذكر كليسون حبه وهواه يوماً. . . فيحن. . . ويشتد به الحنين. . . ويرى أن فتوره قد جنى عليه، فيداخل اليأس قلبه، ويقرر الانتحار، ولكنه يرسل إليها رسالة يودعها بها ويقول:
(وداعاً أيتها الحبيبة التي قضيت معها أجمل أيامي. . . لقد ذقت بين ذراعيك السعادة المسكرة، ارتشفت لذات الحياة وأطايبها ترى ماذا يبقى لأيامي المقبلة غير الملل والضجر؟. . . لقد ذقت وأنا في السادسة والعشرين من عمري اللذات الفانية. . . ولكنك أذقتني بحبك الشعور العذب بالحياة. . . إن هذه الذكرى لتمزق قلبي. . . أتستطيعين العيش سعيدة دون أن تفكري أبداً في أمر كليسون البائس؟. . . قبِّلي أولادي يا أوجيني. .
قبليهم. . . ولا تجعلي إليهم روح أبيهم الملتهبة المتأججة، لئلا يكونوا مثله ضحايا الرجال وضحايا النصر والحب. . .
ويرسل الكتاب إليها. . . ويقود الكتيبة بعزم، وإذا به يسقط إلى الأرض (مثخناً بالجراح. . . ويموت)
تلك هي القصة الرائعة التي كتبها نابليون وهو في نعومة صباه. وفيها نجد بلاغة تخلب، وصوراً تغري، وقسوة ترعب، وحناناً يهز ولو أن هذا البطل لم يسلك طريق الحرب، لكان له في الأدب روائع وفرائد. . . ولكان أدبه كالربيع الضاحك، فيه زهور وعطور، وفيه جمال وصفاء، وفيه نغمات وقبلات.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد