مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة كلية الشريعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة كلية الشريعة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1940



إلى الأستاذ الأكبر

دعوة الإصلاح تنقلب في الناهضين عملاً وفي الجامدين جدلاً. وفي هذه الرسالة وفيما تقرأه في بعض الصحف لفقهاء بيزنطة مصداق ذلك.

(الرسالة)

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي

السلام عليكم ورحمة الله وبعد فإن أبناءكم طلبة كلية الشريعة الذين يعيشون في ظلال عهدكم السعيد قد تدبروا فيما يتصلون به من حياتهم العلمية وعلاقتهم العملية فاتفقوا على أن يتشرفوا برفع هذه الرسالة لفضيلتكم. يا صاحب الفضيلة - في عصركم الذهبي الذي تبذلون فيه مجهوداً جباراً في نفض غبار الخمول والكسل عن وجه الأزهر ليستطيع أن يطل برأسه على حياة العامة فيستأنف رسالته ويؤدي أمانته على الوجه الذي ينبغي له، نرى في الوقت نفسه أن جهوداً من جانب آخر تتضافر على الحيلولة بين الأزهر وبين رسالته وإبعاده عن الحياة العامة بشتى الوسائل ومختلف الطرق فتارة بتحصين دار العلوم وأخرى بإنشاء معهد للدراسات الإسلامية، ولا يبعد أن نسمع بفكرة أخرى هي إنشاء قسم للوعظ والإرشاد بإحدى كليات الجامعة، كما سبق العمل على تحقيق ذلك لولا عناية فضيلتكم، وطوراً بالعمل على إقصاء كلية الشريعة عن القضاء في الأحوال الشخصية وهي البقية الباقية من التشريع الإسلامي وإحلال كلية الحقوق محلها بحجة توحيد القضاء، وطوراً بإنشاء عدة إدارات للشؤون الاجتماعية وحرمان الأزهر من إدارة للشؤون الدينية تكون مهمتها توجيه ثقافة الأمة من هذه الناحية مع أن الدين هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه ثقافة أمة هي حاضرة الإسلام والمسلمين، ومن وراء العمل على إبعاد الأزهر عن نواحي الحياة العملية نرى حملة صحفية تنادي بوجوب التخلص من نفوذ رجال الدين؛ وفيما بين جهودكم التي تبذلون والمناوءات التي بها يقومون ضد الأزهر، نرى أن الأزهر نفسه قابع في داره ماض في طريقته القديمة التي تضعف صلته بالحياة العملية. أما هذه الجراثيم الفاتكة التي تنخر في عظامه، وأما هذه السهام القاتلة التي توجه إلى قلبه، وأما الكشف عن أسرار التشريع الإسلامي وإقناع الأمة بصلاحيته لسعادة المجتمع حتى نستط حماية الأمة من نفثات الإباحيين وتحصين الأزهر من معاول الهدامين؛ فكل هذا لا يخطر بمخيلة أحد من الأزهريين، اللهم إلا بعض صيحات نسمعها في سماء الجمعيات ودور المحاضرات وعلى أثير الإذاعة تنادي بالخروج من هذا الجمود؛ وتحرير الفقه الإسلامي من هذه الأغلال والقيود التي شوهت جماله وحالت بين الناس وبين معرفة مزاياه

في هذا الوقت الذي تتردد فيه فكرة الرجوع إلى التشريع الإسلامي تهب طائفة أخرى من الإباحيين اللادينيين لمناهضة هذه الفكرة والعمل على إماتتها

أمام هذا الصراع الذي تندلع نيرانه بين فكرتين خطيرتين: فكرة الرجوع إلى أحضان التشريع الإسلامي والتفيء بظلاله، وفكرة التمادي في ارتشاف السموم الحضارة الغربية والاندفاع في تياراتها لا نستطيع نحن طلبة كلية الشريعة أن نقف في مهب هذه العواطف والنزعات موقف المتفرج أو الخائف المتهيب، وبهذا النزاع المحتدم يتعلق مصير الإسلام وهو مصيرنا. فما أحرانا بعد أن دوى في سمعنا من قلبكم الطاهر صوت الإسلام الوديع، وعصفت في رأسنا نخوة الفقه الإسلامي الصريع، أن نتيمم ساحتكم وأنتم قلب الإسلام الخافق ولسانه الناطق وعنوان نهضتنا ومعقد آمالنا لتضموا إلى برنامجنا الدراسي برنامجاً ثقافياً يمشي مع روح العصر ويساير النهضة حتى نقوى على خوض معارك الحياة الجادة وننهض بالفقه الإسلامي إلى مستواه الحق

يا صاحب الفضيلة:

1 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب أن يسترد الفقه الإسلامي شبابه ويستأنف ماضيه

2 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب إنقاذ الأمة من مخالب القانون الوضعي ببيان فشله في قمع المجرمين والجناة

3 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب إقناع الأمة بأن الفقه الإسلامي هو دواء هذه الأمة المنكودة وبلسم جراحاتها.

4 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب أن تخفق للفقه الإسلامي القلوب وتهفو له النفوس وتنحني له الرؤوس

5 - على عاتق كلية الشريعة أخيراً يجب أن يبسط الفقه الإسلامي جناحيه على جميع مناحي الحياة التشريعية ويمد يديه في كل ناحية تقنينية

هذه هي التركة المثقلة بالديون التي خلفها لنا الأقدمون، وهذه هي المسؤوليات الجسام التي يجب أن تقوم بها كلية الشريعة خير قيام؛ وهل هناك من يضطلع بهذه الأعباء إلا كلية الشريعة التي أنشأتموها لتقوم بهذه المهمة وسط هذه الزوابع والأعاصير، ولكنها بحالتها الراهنة لا تستطيع النهوض بهذه الأعباء، وذلك لما يأتي: -

أولاً: إن دراستها للتشريع الإسلامي دراسة بعيدة عن روح التشريع وبيان أسراره في كل باب من أبوابه

ثانياً: قصر دراستها للفقه الإسلامي في صورة تمثل حوادث وأحوال أناس خلقوا وعاشوا في عصر غير عصرنا وزمان غير زماننا، وعدم استعانتها في دراستها بأساليب العرض العلمي الحديث

ثالثاً: عدم قيامها بدراسة القانون الوضعي

لذلك كان طبيعياً أن تشعر كلية الشريعة ببعد الشقة بينها وبين الأمة، بينما تتهيأ شقيقتاها عن طريق الوعظ واللغة لأخذ نصيبها في الحياة؛ وإلا فأين منا الفقيه الذي يستطيع كما تذكرون فضيلتكم أن يحل مشاكل العصر وأين منا الذي يستطيع أن يسير على نهج فضيلتكم في التفكير فينتج إنتاجكم في القضاء والتشريع؟

يا صاحب الفضيلة:

لعل الساعة تكون قد حانت لوضع حد لهذا النقص في دراستنا بتحقيق هذين المطلبين في أوائل العام الدراسي القادم وهما المطلبان اللذان نرى أنهما وحي من وحي روحكم وأمنية من أسمى أمانيكم

المطلب الأول: أن ينتظم برنامجنا الدراسي إلقاء سلسلة من المحاضرات الأسبوعية في موضوعات لها صلة بدراستنا وبمشاكل الأمة، تكشف لنا القناع عن كنوز الفقه الإسلامي الغني بأعظم الثروات وأحدث المبادئ ووجه صلاحيته لإنقاذ الأمة من براثن الفوضى التي تعاني آلامها في جميع مناحي الأجتماعية، والسياسية والمالية، على ضوء الحوادث المتجددة والنظريات الحديثة، على أن يقوم بتنظيم هذه المحاضرات وإلقائها أكفاء نابهون من العلماء الذين لهم جولات في هذه الأبحاث ووقفوا على أسرار التشريع، واحسنوا عرضها، وعلى عيوب المجتمع، ووضعوا علاجها.

المطلب الثاني: بعث فكرة دراسة القانون الوضعي مقارناً بالقانون الشرعي

بإجابة هاتين الرغبتين تستطيع كلية الشريعة أن تظهر نشاطها في دائرة أبعد مدى وأوسع أفقاً، فنشارك الأمة في تشريعها وتقنينها بعد أن تظهر الفقه الإسلامي قانوناً محكماً يعالج مشاكلنا الحاضرة. فبالرغبة الأولى يمكن الوصول إلى النتائج الآتية:

أولاً: إقناع الأمة وعلى رأسها المتقننون الوضعيون بأن التشريع الإسلامي هو العلاج الوحيد الذي يشف النفوس من عللها، ويقي الجماعات من أمراضها، وما أجدرنا بإحراز هذا النصر في مصر بعد أن أحرزه الأزهر في لاهاي

ثانياً: بتحقيق هذه الرغبة تستطيع تطبيق أحكام التشريع على كل ما جد من الحوادث والمعاملات التي لا تنتهي. وبالرغبة الثانية يمهد لنا الطريق للوصول للنتائج الآتية:

أولاً: معرفة العلل المختلفة للمجتمع المصري والوقوف على موطن الضعف في القانون الوضعي وكيف حاول المقنن المصري وضع العلاج فلم يفلح فنستطيع أن نضع يد الأمة على مصدر دهائها ومعين دوائها ونصف لها من التشريع الإسلامي علاجها على ضوء الظروف والبيئة المحيطة بها

ثانياً: نستطيع أن نحسن صوغ التشريع الإسلامي وتنسيقه، فمن المسلم به أن جمال الصيغة وحسن الترتيب لهما دخل كبير في إقبال الأمة على أحكام الشريعة وتعرف نواحي الفضل فيها. ولو أن سلفنا القريب قدر ما في هذا من خير وصاغ تلك الأحكام في الثوب الذي يلفت الأنظار إليها، ويتمشى مع طرق العرض الحديث لما وصلنا إلى هذا المصير المؤلم

ثالثاً: بتحقيق هذه الرغبة تستطيع كلية الشريعة أن تثبت أهليتها للنهوض بأعباء الحياة التشريعية وأن تشعر الأمة بحاجتها إليها وعدم الاستغناء عنها

مما تقدم يتبين أن تحقيق هذين المطلبين يمكن كلية الشريعة من الاضطلاع برسالتها التي فرضها الله عليها فتشتق من عناصر الفناء التي تحيط بها خلوداً وتتخذ من خصومها جنوداً وتشق طريقها في الحياة وهي أقوى يقيناً وأصلب عوداً

لهذا رفعنا رسالتنا إلى ساحتكم وكلنا أمل في أنها ستجد العناية من فضيلتكم وستظفر بالرضا من جانبكم، لأنها ثمرة من ثمرات غرسكم وبريق من نور قلبكم. أبقاكم الله للإسلام ذخراً وللأزهر فخراً.

(الرسالة): علمنا أن الأستاذ الأكبر قد وعد بتحقيق المطلب

الأول. أما المطلب الثاني فوعد فضيلته بمفاوضة ولاة الأمور

في فتح أبواب كلية الحقوق أمام من يجيد الفرنسية من حملة

الشهادة العالية من كلية الشريعة.