مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة النقد
في ليالي الملاح التائه
للشاعرة الفلسطينية الآنسة (دنانير)
شعر صافٍ صفاء الجدول النمير تنعكس فيه صورة نفس الشاعر، فتحس إذ تقرؤه بروح صاحبه تتغلغل في كل لفظة من ألفاظه، وتشعر بدمه يسري في كل بيت من أبياته. فإذا أنت تقرأ نفساً حية تتمثل في قصيدة، وإذا الشاعر يسمو بروحك معه إلى دنيا شعرية علوية تفيض بالجمال والجلال حتى لتنسى ما يحيط بك، وقد ملأت قلبك تلك الأخيلة البديعة التي ملأت قلب الشاعر، وأثر فيك ذلك الإلهام الذي صدر عن حسه المرهف الرقيق. وهذا هو الشعر، متى كان القلب منبعه فالقلوب مصبه. وذلك هو شعر الأستاذ علي محمود في ديوانيه (الملاح التائه) و (ليالي الملاح التائه) وهذا الأخير هو موضوعنا الآن.
يهدي الشاعر شعره إلى الذين أطالوا التأمل في أسرار الكون، وأرهقهم التيه في مجاهل الحياة، وإلى العائدين بأنس أحلامهم إلى وحشة مضاجعهم بين اللهفة والحنين. وفي هذا الإهداء نستطيع أن نلمس تلك الروح النبيلة الهائمة وتلك النفس الرقيقة الشاعرة التي لا يفتر حنينها، نفس الأستاذ علي محمود طه.
أول ما يطالعك الديوان به هو تلك القصيدة التي شرق ذكرها وغرب. ومن منا لم يسمع بأغنية الجندول التي اوحتها إلى الشاعر زيارته لمدينة فينسيا أثناء احتفال الفينيسين بليالي الكرنفال؟ ولعل من اللغو أن أذكر هنا هذه القصيدة لشهرتها البعيدة وذيوع صيتها
اثر في نفس الشاعر طوافة في أقطار الغرب، ونحن نسمع صدى هذا التأثير يتردد في قصائده التي يصف فيها ما شاهده هناك، أو بالأحرى التي يصف فيها تأثير تلك المشاهد في نفسه الصافية وخياله الخصب. نقرأ مثلاً: (بحيرة كومو)، أو (الجندول) أو (خمرة نهر الرين)؛ فإذا روح الشاعر وحسه وقلبه كل أولئك مذاب في قصائده يظهرك على مدى تأثير ذلك الطواف فيه. يقول في قصيدة عنوانها (خمرة نهر الرين):
كنز أحلامك يا شا ... عر في هذا المكان
سحر أنغامك طوا ... ف بهاتيك المغاني
فجر أيامك رفا ... ف على هذى المجاني أيها الشاعر، هذا الر ... ين فاصدح بالأغاني
كل حيّ وجماد هاهنا ... هاتف يدعو الحبيب المحسنا
يا أخا الروح دعا الشوق بنا ... اسقنا من خمرة الرين اسقنا
وكأني بالشاعر يرى كل تلك المفاتن تتصدى له بسحرها وجمالها فلا يسعه إلا أن يتساءل في هذه البيات كأنه لا يصدق عينيه فيما تريان:
عالم الفتنة يا شاعر ... أم دنيا الخيال
أمروج علقت بي ... ن سحاب وجبال
ضحكت بين قصور ... كأساطير الليالي
ثم ينثني، وقد رأى أن نهر الرين بجمال جناته وجلال قصوره إنما هو الجنة؛ فيهتف:
هذه الجنة فانظر ... أي سحر وجمال
ويحس أن الطبيعة قد أخذت بسحر تلك الليالي، كما أخذت نفسه، حتى أنصت الغاب، وأصغى النهر؛ ويرى بعين الشاعر التي ترى ما لا يراه الناس أن هذه الليلة الشعرية على ضفاف نهر الرين قد أسكرت الدجى، وجعلت النجوم بعض الندماء، فيقول:
ليلة فوق ضفاف الن ... هر حلم الشعراء
أليالي الشرق يا شا ... عر أم عرس السماء
الدجى سكران والأن ... جم بعض الندماء
أنصت الغاب وأصغي الن ... هر من صخر وماء
فاسمع الآن البشير المعلنا ... حانت الليلة، والفجر دنا
فاملأ الأقداح من هذا الجنى ... واسقنا من خمرة الرين اسقنا
ثم يقول لصديقته (فتاة برن) التي التقى بها في هذا الجو الشعري، فنذوق في قوله حلاوة تلك اللحظات السحرية في النفس الشاعرة، ومرارة الأسى على ما فات:
يا ابنة الآر حديث ال ... أمس ما أعذب ذكره
كان حلماً أن نرى الر ... ين وأن نشرب خمره
وشربنا فسكرنا ... وأفقنا بعد سكره
ووقفنا لوداع ... وافترقنا بعد نظره أين أنت الآن أم أين أنا ... ضربت أيدي الليالي بيننا
غير صوت طاف كالحلم بنا ... اسقنا من خمرة الرين اسقنا
أي حسرة وأي لهفة تجدها في هذا التساؤل الذي تكاد كل لفظة من ألفاظه تقطر بدمعة مذابة من قلب الشاعر الفياض بالحنين والشوق:
أين أنت الآن أم أين أنا؟ ... ضربت أيدي الليالي بيننا
نقرأ هذه القصيدة أو قصيدة (بحيرة كومو) أو (الجندول) فتتمثل في أخيلتنا مفاتن الغرب، وإن لم نرها، من مناظر الطبيعة إلى ليالي الأنس والبهجة، إلى مرح الشباب والصبى، ونحس بتأثير تلك المباهج في تلك الروح الرقيقة وذلك القلب الذي يهيم بحب الجمال أينما كان، في الماء والسماء، في القصور والرياض، في المرأة، سواء كانت سامية أو آرية أو غير هذه وتلك. فالشاعر موكل بالجمال يتبعه، يملأ عينيه ومشاعره وقلبه منه ليتغنى به في كل قصيدة من قصائده
هذا وتجيل الطرف في (ليالي الملاح التائه) هنا وهناك فتقرأ له مثلاً (سيراناد مصرية) أو قصيدته التي عنوانها (هي) أو (حلم ليلة) أو (إلى راقصة) وغير هذا مما في الديوان من الشعر الغزلي، فترى أن المرأة قد شغلت حيزاً كبيراً من قلب الشاعر وفكره وإحساسه فأوحت إليه بأرق الشعر، الحزين حيناً، الباسم حيناً آخر. فالمرأة قد أذاقت الملاح التائه أفانين من حلوها ومرها، وكل هذا يتجلى لنا في شعره الغزليّ
وهناك قصيدته في مصرع ربان حاملة الطائرات كوريجس التي أغرقتها غواصة ألمانية في أوائل الحرب الحالية. يسمع الشاعر بتلك النفس الكبيرة التي آثرت الموت على الحياة. يسمع بما كان من تضحية الكابتن ربان السفينة الغارقة إذ جاد بنفسه. والجواد بالنفس أقصى غاية الجود، فتوحي تلك البطولة النادرة إلى الشاعر بقصيدة من عيون الشعر يبدؤها بقوله مخاطباً الربان:
يا قاهر الموت كم للنفس أسرار ... ذل الحديد لها واستخذت النار
وأشفق البحر منها وهو طاغية ... عات على ضربات الصخر جبار
وكأني بالشاعر هنا يظهر الناس على ضعف الطبيعة مع جبروتها أمام عظمة النفس الإنسانية، تلك العظمة التي تتجلى في تضحيتها وعاطفتها. . . ثم يقول معرضاً بالغواصة التي أغرقت السفينة:
رماك في جنبات اليم محترب ... خافي المقاتل عند الروع فرار
نرصدتك مراميه ولو وقعت ... عليه عيناك لم تنقذه أقدار
يدب في مسبح الحيتان منسرباً ... والغور داج وصدر البحر موّار
كدودة الأرض نور الشمس يقتلها ... وكم بها قُتلت في الروض أزهار
وفي هذا البيت الأخير تشبيه بلغ منتهى الجمال والروعة، لم نسمع بمثله قبل الشاعر علي محمود طه
ويذهب الشاعر في فنون القول كل مذهب، واصفاً ذلك الموقف النبيل الرائع، حيث يلقي الربان بقبعته إلى البحر إجلالاً للموت. كل هذا في أبيات تفيض بالشاعرية التي تسري في دم الشاعر إلى أن يقول:
يا عاشق البحر حدث عن مفاتنه ... كم في لياليه للعشاق أسمار
ما ليلة الصيف فيه ما روايتها ... فالصيف خمر وألحان وأشعار
إذا النسائم من آفاقه انحدرت ... وضّو أت من كوى الظلماء أنوار
وأقبلت عاريات من غلائلها ... عرائس من بنات الجن أبكار
شغل الربابنة السارين من قدمٍ ... تجلى بهن عشيات وأسحار
يترعن كأسك من خمر معتقة ... البحر كهف لها والدهر خمار
وأنت عنهن مشغول بجارية ... كأن أجراسها في الأذن قيثار
انظر إلى هذه التورية المحببة في ذكره الجارية:
صوت الحبيبة قد فاضت خوالجها ... ورنحتها من الأشواق أسفار
وبعد هذا يأتي الملاح التائه بأجمل وأعجب ما يوحيه الخيال الخصب إلى شاعر. فيخرج عما ألف الشعراء أن يقولوه من استمطار الرحمة على الميت أو ما مثل ذلك ويطلع علينا بقوله:
نزلتما البحر قبراً حين ضمكما ... رفت عليه من المرجان أشجار
تالله، لا يقرأ المرء هذا دون أن يقف عنده متأملاً مأخوذ اللب بسحر هذا الخيال الشعري. رفت عليه من المرجان أشجار ونقرأ له قصيدة في موسيقية عمياء، وإذا بالشاعر، دأبه في نظمه، قد ذوب نفسه وحسه في قصيدته الجميلة، متألماً لتلك الصبية، أو الزهرة التي زواها الدهر لم تسعد من الإشراق باللمح فيقول لها مثلاً:
إليك الكون فاشتفى ... جمال الكون باللمس
خذي الأزهار في كفي ... ك فالأشواك في نفسيِ
ويمضي الشاعر في القصيدة على أروع ما يوحي به الشعور بالألم، إلى أن يقول لها:
عرفت الحب يا حوا ... ء أم ما زال مجهولاً
ألمَّا تحملي قلباً ... على الأشواق مجبولاً
صفيه، صفيه فرحاناً ... ومحزوناً ومخبولاً
وكيف أحسَّ باللوع ... ة عند النظرة الأولى
ومن آدمك المحبو ... ب أو ما صورة الصب
لقد ألهمت والإلهام ... يا حواء في القلب
هو القلب هو الحب ... وما الدنيا لدى الحب
سوى المكشوفة الأسر ... ار والمهتوكة الحجب
هذا وليس في وسعي الآن أن أحيط بكل ما في ديوان الشاعر من قصائد متنوعة الموضوعات. ولكنك أن أجلت طرفك في ليالي الملاح التائه وجدت الشعر بكل ما تضمنته هذه الكلمة من معنى. تقرأ القصيدة فترى القوة تسندها من أي ناحية جئتها، وترى الرقة تبلغ نهايتها حتى تشف عن تلك النفس الهائمة في عوالم الجمال والشعر والخيال. وترى الخواطر والمعاني الدقيقة وقد صبغها الشاعر بصبغة من فنه الرفيع وعبر عنها بأسلوبه الشعر الخاص، حتى لتكاد اللفظة الواحدة بحلاوة جرسها وسحر وقعها في النفس تقول لك: أنا لست كلمة من الكلمات ولكنني نغمة من الأنغام. حتى إذا روّيت نفسك من هذه الشاعرية المتدفقة بأروع الشعر وارقه رفعت عينيك الفياضتين بالنشوة وقد آمنت معي بأن الطبيعة التي قالت للشاعر الفرنسي لامرتين (سر في طرقك، ما أنبه شأنك، إنه رآك) تعود اليوم فتقول مثلا هذا للشاعر العربي المصري علي محمود طه
(دنانير)