مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة الشعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1940



رجال ونساء

للأستاذ علي محمود طه

للشاعر المهندس الأستاذ (علي محمود طه) ملحمة شعرية تقع في نحو أربعمائة بيت من الشعر لم تنشر بعد. عنوانها (البعث الأول) يدور الحوار فيها بين شاعر وملك وأرواح حوريات في انتظار البعث. أما موضوع الحوار فهو الفن وأثره في العلاقة بين الرجل والمرأة، وما أثر الغريزة فيه، وكيف تلهم الأرواح قبل حلولها في أطيافها الميل إلى الشر أو الخير. وننشر فيما يلي هذا الحديث الذي يسوقه الشاعر على لسان الأرواح)

بليتيس:

هو الحسنُ فنَّانُنا العبقريُّ ... هو الحبُّ سلطانُنا القاهرُ

ممثلهم لُعْبَةٌ في يديهِ ... ومثَّالهم إِصْبَعٌ فاجرُ

وألحانهم من فحيحِ العروق ... يُرَجِّعها الوتر الساخرُ

ورسَّامُهم صَنَمٌ مُبْصِرٌ ... فإِن جُمِعوا فهمُ الشاعرُ

قلوبٌ مُدَلَّهةٌ بالجمال ... ترى فيه معبودَها المُلْهَما

هو الرجلُ القلبُ، لا غيره ... فأَوْدعْنَهُ القَبَسَ المضرما

أَنْمِنَ به الشَّرسَ المستخفَّ ... وأيقظنَ فيه الفتى المغرما

إذا ما اقتحمتنَّ هذا السياجَ ... فقد خضع الكونُ واستسلما

سافر:

ولكنْ حَذَارِ ففي طبعنا ... ليانٌ يسمُّونه بالوداعه

وفيهم جراءةُ مستأسدٍ ... تَحدَّى المنيةَ باسمِ الشجاعه

بليتيس:

وَهْمِتِ فذلك هَزْلُ الرجال ... وفَنٌّ أجزنا عليهم خداعه

نُذيب به صُلْبَ أعصابهم ... وفي رِقّةِ العود سرُّ المناعه

سافو:

أطلنا الأحاديثَ عن عالمٍ ... مُلثَّمةٍ أرضُه بالخفاءْ جعلناه مطمحَ أحلامنا ... كأنّا شقينا بسُكنى السماءْ

طوانا على حُبِّهِ شاعِرٌ ... كثيرُ المجانةِ نزرُ الحياءْ

أثار الملائكَ في قدسها ... وأوقع في سحرهِ الأبرياءْ

بليتيس:

عجبتُ له كيف جاز السماَء ... وغرَّرَ بالملأ الطاهر؟

أيمرحُ في الكون شيطانُه ... بلا وازعٍ وبلا زاجر

دعي الوَهم سافو ولا تَحْقِري ... بليتس معجزةَ الشاعر

فما نتقيهِ بحيَّاتِنا ... إذا هو ألقى عصا الساحر!

ناييس:

بليتيسُ هَلْ هو ذاك الخيالُ ... المُجَنَّحُ بين حواشي الغيومْ

عَشِيَّةَ صاح بأترابنا ... وقد أخطأته قِيسِيُّ الرجومْ

وقيلَ لنا مَلَكٌ عاشِقٌ ... يُسرِّي الهمومَ ببنتِ الكرومْ

يجوبُ السماَء إذا ما انتشى ... يُعَرْبدُ بين خدورِ النجومْ

بليتيس:

أعاجيبُ شَتَّى لهذا الفتى ... وأعجبُ منها الذي تذكرينْ

كأنَّ أحاديثَه بيننا ... أساطيرُ آلهةٍ غابرينْ

إِذا كان للشعر هذا الصيالُ ... فوا رحمتا للجمال الغبينْ!

وَدِدْتُ لو أنيَ في إِثره ... درجتُ على الأرض في الدارجينْ

سافو:

أتغوين بالشعر شيطانَه؟ ... خياليةٌ أنتِ أم شاعره!

بليتيس:

بل الشعرُ آسرُهُ المستبدُّ ... فيا ليتَ لي روحَه الآسره

ويا ليتَ لي وثباتِ الخيالِ ... وقوةَ أربابِه القاهره

لصيَّرتُهُ مِثْلَةً في الحياةِ ... وسُخرية البعثِ في الآخره

ناييس: صفى لي بِلِيتيسُ هذا الأملْ ... وماذا ابتدعتِ له من حِيَلْ؟

بليتيس:

أُدَلِّهُ هذا الفتى بالجمالِ ... وأُسْمِعُه من رقيق الغزلْ

وأورثه جُنَّةً بالرحيقِ ... وأَحْرِمُه رَشَفَاتِ القُبَلْ

إِلى أنْ تُحَرَّقَ أعصابُه ... ويصرَعه طائفٌ من خَبَلْ

وأحفرُ بعد الردى قبرَه ... هناك على قِمَّةِ الهاويه

وأغرس في قلبهِ زهرةً ... من الشرِّ ريَّانةً ناديه

سَقَتْها سمومُ شرايينه ... ورفَّتْ بها روحُه العاتيه

تخفُّ إليها قلوبُ الرجال ... وترجع بالشوكةِ الداميه

إذا جَنَّها الليلُ لاحتْ به ... كعينٍ من الَّلهَبِ المضطرمْ

تثور الشياطينُ من عطرها ... كمجمرِة الكاهن الملتثمْ

إذا استافَها الرَّجُلُ العبقريُّ ... تحَوَّل كالحيوان الوخِمْ

تصيحُ البلاهةُ من حوله ... فينظر كالصَّنَمِ المبتسم!

تاييس:

هبي الشعرَ أولاكِ من مُلكه ... سماَء الألُوهةِ ذات البروجْ

ونصَّ المعاني على جانبيكِ ... فمنها السُّرى وإليكِ العروجْ

فما تصنعينَ إذا ما بُعِثْتِ ... واحدةً من بنات الزنوجْ!

ألم تسمعي قِصَّةَ السامريِّ ... وما صَنَع القومُ بعد الخروجْ؟

نبا منطقُ الوحي عن سمعهم ... وخفَّ عليهِ رنينُ الطربْ

ومَدُّوا العيونَ إلى دُميةٍ ... تَمَثَّلُ في حيوانٍ عَجَبْ

ترامي بأحضانهِ غادةٌ ... أفادَ صباها شبوبَ الَّلهَبْ

جنونُ الحياةِ وأهواؤها ... أنوثَتُها وبريقُ الذّهَبْ!!

فأينَ من القوم سحرُ البيانِ ... وصيحةُ موسى قُبَيْلَ الوداعْ؟

هُمُ الناسُ لا يعشقون الخيالَ ... إِذا لمْ يكنْ حافزاً للطِماعْ

همُ الناسُ لا يعبدون الجمالَ ... إذا لم يكنْ نَهْزةً للمتاعْ همُ الناسُ لا يألفونَ الحياةَ ... إذا لم تكنْ مَعْرِضاً للخداعْ!

سافو:

تماثيلُهُ بعضُ أجسامنا ... وقد صاغها العبقريُّ الصَّنَاع

ولوحاتُهُ صُوَرُ العارياتِ ... إذا مَزَّقَ الفنُّ عنها القناع

أبا الشعر - تُغوينَ هذا الفتى؟ ... وَهِمْتِ إذنْ - وجهلتِ الطباع!

أليستْ له صبوةُ الآدميِّ ... وشهوةُ تلك الذئابِ الجياع؟

بليتيس:

رجعتُ لنفسي فلا تغضبا ... وكُفَّا العتابَ ولا تسْهِبا

لقد رُعْتماني بهذا المزاحِ ... وأبدعتما نبأً مُغْرِبا

سَرَتْ بيَ من ذكرهِ رعدةٌ ... كأني لبستُ به الغيهبا

أتاييسُ ما كنتُ بِنْتَ الزنوجِ ... ولا شِمْتُ أُمّاً بهم أو أبا!!

تاييس:

وَصَمْتِ الخليقةَ في بعثهم ... كأنّهُمُ الحدَثُ المنكرُ

وما أخطأ الطيفُ ألوانَه ... ولكنَّه القبَسُ الأحمر

أبوهم كما زعموا آدمٌ ... وأفئدةٌ بالهوى تَشْعُرُ

لهم نارهم في أقاص الدُّجى ... وأبياتُهم في أعالي الكهوفْ

ورقصٌ يُمَثِّلُ قَلْبَ الحياةِ ... إذا ما استُخِفَّ بنقرِ الدفوفْ

ونايٌ يُقسِّمُ فيه الربيعُ ... ويسكبُ شجوَ الليالي الهتوفْ

وسحرُ الطبيعةِ في عُرْيها ... إذا هَتَكَ الفجرُ عنها الشفوقْ

تتَفَرَّدَ فّنهُمُ بالخلود ... وصيغَ بفطرتهم واتّسَمْ

يعيش جديداً بأرواحهم ... وإن عاش فيهم بروح القدَمْ

له بأس (مانا) وإيحاؤه ... إذا اضطربتْ رُوحُه بالألم

وَرِقّة (هاوايَ) في شدْوها ... إذا جاشَ خاطرُها بالنَّغَمْ

ألا فلْيَكُنْ لكِ من فنهم ... سموُّ اللظى وعتوُّ الجبالْ

ألا فلْيَكُنْ لكِ من سحرهم ... فنونٌ تُعَطِّلُ سحرَ الخيالْ ألا فلْيَكُنْ لكِ من نارهم ... وشاحُ مُؤَلهَّةٍ بالجمالْ

إلى الأرضِ فانتقمي للنساءِ ... وكوني بها محِنةً للرجالْ!!

علي محمود طه