مجلة الرسالة/العدد 359/الورق الأزرق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 359/الورق الأزرق

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

إلى الورق!

إلى الورق مرة أخرى!

فلا وسيلة غيره على ما يظهر لحفظ النور ولو أطبق الديجور، وأحاط بالدور ظلام كظلام القبور

وقديماً عرف الناس الورق الذي يحفظ النور للعقول والسرائر وهاهم أولاء يعرفون الورق الذي يحفظ النور للعيون، حين يصبح النور خطراً من أكبر الأخطار

وهل كان النور قط إلا خطراً من أكبر الأخطار، وهدفاً للشياطين والفجار، وللجهلاء والأغرار، ولكل من يكره الإبصار، لأنه مخلوق لعالم العماية، غريب في عالم الأبصار؟!

من الذي ضربوه لأنه في الظلام؟ ومن الذي تركوه لأنه في النور؟

إن الذي في الظلام لآمن مستور

وأن الذي هو هدف الرماة في الحرب والسلم وفي الأرض والهواء وفي الغيبة والحضور، لهو الذي في النور في هذه العصور وفي جميع العصور

وما صنعت (وقاية المدنيين) في أيامنا هذه إلا أن كشفت السر (للجمهور)، وهو أغنى الأسرار عن الكشف وأحقها بالظهور.

والأمر هين بحمد الله: لفة من الورق الأزرق أو لفتان أو لفات ثلاث، والنور محفوظ لعينيك من وراء الحجرات، محجوب عن طيارات الخيال وطيارات الواقع. . . لا سمحت بها السماء، ولا اتسع لها الفضاء

وإني لأحمد الله على تجارب الوقاية، لأنها خليقة أن تحبب الاعتكاف إلى أكثر الناس، وإن كان بعض الناس ليخافون العزلة أشد من خوفهم أخطار التجارب والغارات

ونحن المصريين محتاجون إلى تجربة الاعتكاف، لأننا من أقل الأمم طاقة به وصبراً عليه. وما ظنك بمصري يمكث في بيته ثلاثة أيام لا يريمه ولا يبرم بمكثه فيه؟ ذلك في رأي نفسه شهيد أعجب في استشهاده من ماكسويني وصبره عن الطعام ستين يوماً أو تزيد!! والاستقلال بالنفس نعمة من نعم الأخلاق نود لو وفر منها حظ هذه الأمة في بداية استقلالها وفي تجاربها التي تجربها لحماية حوزتها ورد العادية عنها

لأن الرجل الذي يعيش بين الجماهير ولا ينعم بالوقت إلا وهو غارق في غمارها مدفوع في تيارها هو رجل ضائع في الزحام، أو صفر لا ينفرد عما جاوره من الأرقام، أو هو شخصية بغير استقلال وبغير حدود، كأنه يأخذ حياته على المشاع ولا يأخذها مستقلة معروفة الحدود والأقسام

فمن الواجب أن يستطيع الإنسان الاعتكاف في بيته والاعتكاف في شخصه، وأن يكون مالكاً لزمام نفسه ولا يكون مملوكاً لزحام المجالس وضجة الرائحين والغادين على المشاع

وأعجب ما يلحظ في هذا الباب أن الأمم التي تعرف العزلة وتطيق الانفراد هي أصلح الأمم للاجتماع وأقدرها على سياسة الناس

ونقول أعجب ما يلحظ ولا نعني إلا العجب في الظاهر دون الحقيقة الواقعة، وإلا فاستقلال النفس ضمان الحرص على الحقوق وأن يكون لكل حده الذي يقف عنده ولا يخطو وراءه، وأن يضن بحريته ولا يجور على حرية غيره، وتلك هي أكرم صفات الاجتماع والمقارنة، وهي هي لبابها صفة الاستقلال والقدرة على الانفراد

وفي العصر الحديث مخترعات كثيرة تعين على العزلة من يشاء أن يعان عليها

فالكتاب والصحيفة جليسان أنيسان، والمذياع ينقل العالم إلى البيت فينفي الوحشة ويعود من يصغي إليه أن ينفرد وأن يقنع بالقليل من الجلساء، ثم هذه التجارب التي نجرب بها قوة نفوسنا وقوة مدافعنا: أليس فيها معين على الاستقلال من غير ناحية الحرب والأهبة للدفاع؟

بلى! فإنها لتنقل الوحشة إلى الطريق أو إلى المجالس العامة، فينفر منها من تعود الأنس فيها وعز عليه أن يصيبه بمعزل عنها

وتعلمنا أن نركن إلى نفوسنا، وأن نغوص في أعماق ضمائرنا وأن نجد فيها ذخيرة تغنينا وتشبعنا فلا نشكو الخلو في الخلوة، ولا نبحث عن القوة في كل مكان إلا المكان الذي ننفرد فيه

ولعلنا إذ نتعود الخلوة ينتهي بنا الأمر أن نحسبها خلوة اطمئنان إلى النفس والأقربين، لا خلوة الخوف من العدو المغير والفزع مما يضمره الفضاء أو القضاء فمن الناس من يذكرون الغارات فيبالغون في الحذر والحيطة ويظنون أن الدنيا كلها خطر ذو عيون وأقدام، وأن القنابل تبحث عنهم في كل مكان

ومنهم من يذكرون الغارات فيبالغون في التواكل ويقولون كما يقول المتواكلون في أوربا: إن يكن أسمك مكتوباً على قنبلة فلا فائدة من الوقاية ولا أمل في النجاة

ومنهم قوام بين ذلك لا ينزعجون ولا يهملون، ولكنهم (يعقلون ويتوكلون) أو يحسبون الحساب وهم مطمئنون، لأنهم فرغوا من واجب الاحتراس فلم يبقى إلا واجب الاطمئنان

فالإهمال لا يليق بكرامة الإنسان ولا بالمزايا الآدمية، لأنه أشبه بصفات الحيوان السائم الذي لا يدري ما يضره وما ينفعه ولا يتصرف في مقاومة الحوادث التي تهدده واجتناب الهلاك الذي يفرض عليه اجتنابه

أما المبالغة في الاحتراس والوسواس فهي الجبن الذميم بعينه؛ وليس بين الصفات التي تشين الإنسان اقبح من صفة الجبان

ولقد دلت التجارب في أوربا على فائدة لهذه التجارب غير الفائدة المقصود منها، وهي نقص الجرائم والسرقات في هذه الأوقات خلافاً لما كان مظنوناً في البداية

وعللوا نقص الجرائم والسرقات بأمور كثيرة نشترك في بعضها وتنفرد الأقطار الغربية ببعضها الذي لا نجاريها فيه، والحمد لله مرة أخرى

فمن هذه الأمور كثرة الحراس ورجال الأمن القائمين بالتجربة في الطرقات

ومنها شكوك اللصوص إذ يميزون في أوقات السلم بين البيت النائم والبيت اليقظان ولكنهم يعجزون عن تمييز هذا وذاك متى تساوى الظلام في جميع الأنحاء

ومنها - ولعله أهمها في أوربا وأضعفها عندنا - أن السراق يصعب عليهم الهرب بالسيارات بعد اقتراف الجريمة لتقييد حركة السيارات وتشديد الرقابة عليها

ولا ندري علام تسفر التجربة في بلادنا ولم يبلغ لصوصنا بحمد الله مبلغ اللصوص الموسرين الذين يعتمدون على الهرب في السيارات، ولا يزالون يهربون على الأقدام كما كانوا يهربون قبل ألف عام، في ظلام كان يخيم على الأيقاظ والنيام، في أيام الحرب أو أيام السلام؟

والذاكرون للحرب الماضية في بلادنا لا ينسون حوادث النشالين بالليل والنهار، وقلما سلم منهم إنسان

ولعلهم أول من اخترع من زمرة اللصوص رد الأمانات إلى أصحابها متى استغنوا عنها. . .!

فقد كانوا يأخذون لأنفسهم الورق النفيس ثم يلقون بالمحفظة أو الكيس في صناديق البريد، فيعود ما فيه من المحفوظات إلى أصحابه، ولعله أنفس لديهم من النقود

إلا مرة واحدة - أو مرة واحدة على ما نعلم نحن - أخذوا فيها المحفظة كلها وليس فيها نقود ولا ورق أنفس من النقود

وذاك أن صديقاً لنا أديباً خرج يوماً من عند المصور وفي جيبه محفظة - أو غلاف من الورق على الأصح - فيه أثنتا عشرة صورة شمسية لا تنفع أحداً غيره

قال لنا: سأذهب إلى مكتب البريد القريب فلا شك عندي في رجعتها

ولكنه ذهب وعاود الذهاب والمحفظة الذاهبة لا تعود

فحار في أمر هؤلاء اللصوص، وسأل موظف البريد مرة وقد كان من الظرفاء: (عجبي لهم ما بالهم لا يردون هذه الصور التي لا قيمة لها عندهم وهم يردون الوثائق والسفاتج والأسانيد التي قد تشترى وتباع؟)

قال موظف البريد متظاهراً بالدهشة: (أتقول لا قيمة لها عندهم يا أستاذ؟ كيف هذا؟ إنهم لو وزعوها على زملائهم لأراحوا أنفسهم على الأقل من اثنتي عشرة محاولة أخرى بغير فائدة!

وهذه من طرائف النشالين في الحرب الماضية، ولكن طرائف النشالين خاصة ليست بالتي يستحب فيها التكرار أو التي تؤمن في جميع التجارب. فلا نخال أن أحداً سيتفقدها في الحرب الحاضرة، أو يلوم الحكومة على وقاية المدنيين منها!

بدأت أكتب هذا المقال من وراء الورق الأزرق الذي يحجب السماء وفيه شبه منها

ثم فتحت النافذة فإذا السماء تشاركنا في التجربة من طرفيها فهي كالمدنيين تحجب ضياءها، وهي كالمغيرين ترسل غبارها وحصباءها

قلت: الحمد لله مرة أخرى!

إذا اشتركت السماء في التجربة فلا خوف مما يرسله الفضاء، وعسى أن تمضي التجربة وهذه الغارات الوهمية أقصى ما نعانيه في بلادنا، فتظل في حرز من الغارات الحقة إلى يوم السلام.

عباس محمود العقاد