مجلة الرسالة/العدد 358/في الاجتماع اللغوي
مجلة الرسالة/العدد 358/في الاجتماع اللغوي
نشأة مراكز اللغة
للدكتور علي عبد الواحد وافي
يمتاز الإنسان بصدد التعبير عن بقية الفصائل الحيوانية بأمرين: أحدهما اللغة الصوتية، وثانيهما المراكز المخية التي تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة (مركز إصدار الألفاظ، مركز حفظ الكلمات المسموعة، مركز الكلمات المرئية. . . الخ) فقد ثبت أن هذه المراكز ليس لها نظير في مخ أية فصيلة حيوانية أخرى حتى الفصائل العليا من القردة نفسها
فالبحث في نشأة اللغة يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة الكلام في الفصيلة الإنسانية؛ وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني
وقد درسنا أول هذين الموضوعين في المقال السابق، وسنعالج ثانيهما في هذا المقال
اختلف الباحثون اختلافاً كبيراً في نشأة مراكز اللغة في الفصيلة الإنسانية
فالقائلون باستقلال النوع الإنساني في نشأته عن الأنواع الحيوانية الأخرى يذهبون إلى أنه قد خلق مزوداً بهذه المراكز كما خلق مزوداً بخصائصه الأخرى كاعتدال القامة وإدراك المعاني الكلية. . . وما إلى ذلك. ويرون أن هذه المراكز كانت في مبدأ الخلق ساذجة قاصرة؛ ثم ارتقت في بعض الشعوب حتى وصلت إلى درجة كبيرة في الدقة والنضج؛ على حين أنها جمدت في شعوب أخرى فلم تتزحزح كثيراً عن الحالة الساذجة التي خلقت عليها. ويرجع الفضل في ارتقائها إلى عوامل كثيرة منها كثرة استخدامها في وظائفها وما تمرن عليه من عادات مكتسبة واتساع الحضارة الإنسانية وارتقاء التفكير. . . وهلم جرا. فشأن مراكز اللغة في ذلك شأن أعضاء الحس وأعضاء الحركة في الجسم الإنساني: تخلق مزودة بالقدرة على القيام بوظائفها، وتظل قابلة للارتقاء في هذه الناحية ما أتيحت لها الوسائل المواتية، فإن لم يتح لها ذلك قصرت عن القيام بوظائفها أو جمدت على الحالة التي كانت عليها في نشأتها الأولى
وأما القائلون بمذهب الارتقاء وتفرع الإنسان عن غيره من الفصائل الحيوانية، فيرون أن الفضل في نشأة هذه المراكز عند الإنسان يرجع إلى الظروف التي أحاطت به في مبدأ نشأته، وإلى الأمور التي ألجأته إليها مقتضيات حياته، وبخاصة ما يتصل منها بشؤون دفاعه عن نفسه. وقد اختلفوا في تصوير هذه النشأة على الرغم من اتفاقهم على الأسس السابق ذكرها. وأشهر نظرياتهم بهذا الصدد نظرية دارون التي تتلخص في أن الإنسان كان في الأصل من الفصائل المتسلقة الأشجار؛ ثم اضطرته ظروف قاهرة إلى العيش على الأرض، حيث تعرض لغارات الحيوانات القوية وسطوها عليه. فاستخدم في مبدأ الأمر في مقاومتها أنيابه وأعضاء جسمه كما كان يفعل من قبل وكما تفعل أفراد فصيلته. ولكن هذه الوسيلة كانت تضطره إلى الارتماء في أحضان عدوه فتعرض حياته الخطر. فهدته غريزة المحافظة على الحياة إلى وسيلة أخرى تدفع عنه عدوان الحيوان بدون أن تضطره إلى الاصطدام به. وذلك بأن يقذف عليه عن بعد قطعاً من حجارة أو خشب أو معدن، أو بأن يمسك بطرف عصا ويدفعه عنه أو يضربه بطرفها الآخر. وقد كان لهذا الأسلوب الجديد أثران كبيران في حياة الإنسان:
أحدهما أنه يضطره إلى الوقوف على رجلين اثنين في أثناء دفاعه عن نفسه. ومن تكرار هذه الوقفة أخذت قامته تعتدل شيئاً فشيئاً حتى استوى القسم الأعلى من جسمه مع أطرافه السفلى، وأخذت عادة المشي على أربع تضعف بالتدريج حتى انقرضت (وإن كانت تظهر في بعض مراحل الطفولة الإنسانية وفقاً لقوانين الوراثة النوعية التي تقضي بأن يجتاز الطفل في سبيله من الطفولة إلى الرجولة نفس المراحل التي اجتازها النوع في سبيله من الحيوانية إلى الإنسانية ومن الوحشية إلى الحضارة)
وثانيهما (وهو الذي يهمنا في موضوعنا) أن هذا الأسلوب الدفاعي قد أعفى الإنسان من استخدام فكه وأسنانه في الدفاع عن نفسه؛ فتعطلت هذه الأعضاء عن القيام بجزء كبير من وظيفتها ونجم عن ذلك تقلص العضلات والعظام الصدغية التي تتحرك مع الفم؛ وترتب على هذا التقلص أن اتسع مجال النمو للجمجمة، فزاد حجمها عما كان عليه؛ وباتساع حجم الجمجمة اتسع مجال النمو للمخ، فزاد حجمه ونشأت به مراكز جديدة لم تكن به من قبل، من أهمها مراكز اللغة التي نحن بصدد الكلام عنها
ولتأييد هذا الأثر الأخير، قام العلامة أنتوني بتجربة على عدد من الجراء (الكلاب الصغيرة)؛ وذلك بأن استأصل جزءاً من عضلاتها وعظامها الصدغية، وتتبع نمو جماجمها بعد هذه العملية؛ فتبين له أنها أخذت تتسع أكثر من المعتاد.
وقد تصدى كثير من العلماء المحدثين للتحري عن هذه الحقائق، فثبت لهم فسادها من نواح كثيرة لا يهمنا منها الآن إلا الناحية المتعلقة بنشأة مراكز اللغة. فقد ظهر لهم بهذا الصدد أن تعطيل الفك والأسنان، وإن نجم عنه اتساع في الجمجمة، لا يترتب عليه مطلقاً اتساع في حجم المخ أو اختلاف في تعاريجه أو شكل تكونه. والتجربة التي قام بها أنتوني تدل هي نفسها على صحة ذلك. فقد ظهر له أن جماجم الجراء قد انحسرت عن أمخاخها، بدليل أن الآثار التي تنطبع عليها من ملاصقتها للمخ قد انمحت. فاتساع الجمجمة الناجم عن تقلص عضلات الصدغ وعظامه لا يتبعه إذن اتساع في حجم المخ أو نشأة مراكز جديدة كما يزعم دارون
وكثيراً ما تتسع الجمجمة عند بعض الناس اتساعاً غير عادي لسبب آخر غير تقلص عضلات الصدغ وعظامه، ولكن لم يحدث مطلقا في حالة من حالات هذا الاتساع أن زاد حجم المخ أو تغيرت صورته. وعلى العكس من ذلك نمو المخ نفسه، فإنه يرغم الجمجمة على الاتساع ويشكلها بالشكل الذي يتفق مع نموه. فإن قاومته بأن كان عظم اليافوخ (حيث يتلقى عظم مقدم الرأس بعظم مؤخره، وهو الذي يكون ليناً في الصبي) قد اشتد قبل أوانه، تغلب على مقاومتها، وشق لنفسه طريقاً على أي وجه. فأحياناً يدفعها إلى الأمام فينشأ الشخص بارز الجبهة؛ وأحياناً يدفعها إلى الخلف فينشأ الشخص أحدب الرأس؛ وأحياناً يدفعها إلى أعلى فينشأ مُسَنِّم الرأس؛ وأحياناً يدفعها من ناحيتين أو أكثر فينشأ مُدَنَّخ الرأس. وهكذا فالطريق الطبيعي للارتقاء - إن كان ثمة ارتقاء - هو أن يتسع المخ أولاً وتوجد فيه مراكز لم تكن موجودة من قبل، ويتبع ذلك اتساع في الجمجمة، لا أن تتسع الجمجمة أولاً ويتبعها اتساع المخ كما يقول دارون ومن نحا نحوه
على أن الارتقائيين لم يكونوا في حاجة إلى هذه الفروض التعسفية لتعليل نشأة مراكز اللغة بطريقة تتفق مع مبادئهم. فقد كان في إمكانهم أن يذهبوا إلى أن هذه المراكز لم تنشأ من العدم، بل كانت نتيجة تطور لمراكز قديمة أو لأجزاء من مراكز قديمة. كان في إمكانهم مثلاً أن يذهبوا إلى أن جزءاً من مراكز الحركة الخاصة بعضلات الوجه قد تخصص في حركة أعضاء النطق، ومع تقادم الزمن وكثرة مزاولته لهذه الوظيفة تشكل بالشكل الذي يتفق معها واستقل عن غيره وأخذ يسير في سبيل الارتقاء حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن، كان في إمكانهم أن يقولوا هذا بصدد مراكز الكلام ويقولوا مثله بصدد المراكز اللغوية الأخرى، فيتقوا معظم ما وجه إلى فروضهم السابقة من اعتراضات، ويكون مذهبهم أدنى إلى القبول وأكثر اتفاقاً مع حقائق الأمور، وذلك أنه بالموازنة بين مخ الإنسان وأمخاخ الحيوانات القريبة منه، يظهر أن مراكزه اللغوية - على فرض أنها لم تكن موجودة في أصل خلقته - كانت نتيجة تشكيل جديد لبعض المراكز الموجودة في أمخاخ هذه الحيوانات.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون