مجلة الرسالة/العدد 357/يا ابنة الشارع. . .!
مجلة الرسالة/العدد 357/يا ابنة الشارع. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
على رسلك، يا ابنة الشارع، وادفني حزازات صدرك إن أنا انطويت عنك، فلقد لمستُ خواطرك أشياء جذبتني عنك
إن التاريخ قلبينا ابتدأ في الشارع، وشب واشتد في الشارع، وتوثقت بيننا أواصر الحب تحت شجرة وارفة في روضة أنف
ولج بنا الهوى فتساقينا أكؤسه على حيد الطريق تحت ستر الظلام في (الجزيرة) و (الزمالك) و. . . حيث لا حس ولا حركة
وصحوت - يا من أحب - من غفوتي، فإذا أنا إنسان تريدين أن تنفثي فيه روح الذئب. وأحسست مرارة تلك الخلس تتفجر في قلبي، فعزفت عنها
ثم أردتُ وأردتِ، فانطلقت إلى أبيك أحدثه حديث زواجي منك فما تمهل، وإلى أمك فشاعت النشوة في مفاصلها، وأنتِ تمهدين الطريق؛ فسميت على. . .
غير أني انطويت عنك حين لمست في خواطرك أشياء جذبتني عنك، فلا تحقدي علي، يا ابنة الشارع
ولما خرجت إلى الشارع - أول ما خرجت - أخذ زخرفه وازين وتلقاك في ابتسامة حلوة رقيقة؛ لأنك كنت زهرته اليانعة النضيرة، ونوره المتلألئ الوضاح
ورآك الشاب - أول ما رآك - فانبسطت أساريره، وأفسح لك من رقته مكاناً سامياً
وتيارى الشارع والشاب، كل منهما يحتفل بك فنوناً، وفي رأيه أنها ساعة من زمان، ثم ينقلب الطائر الغريد إلى وكره
ولكن شيطانيتك الثائرة أبت أن تلم من نفسها، فاندفعت إلى شر غاية حين سَركِ أن تغترقي الطرف وتسيطري على القلب
واستشعر الشارع فيك عاره فراح يقذف بك من جانب إلى جانب في بغض وكراهية، وعبث بك الشاب حين رأى فيك لهو نفسه وشغل فراغه، على حين قد أغضيتِ أنتِ
وحاولت أن أدرك عن غوايتك فأغلقت من دون حديثي مسمعيك، فانطويت عنك، فلا تحقدي عليّ، وأوضعت في عمايتك، وأنا أريد صلاح أمرك، وجئت تناقشين وتفاطنين وفي حديثك الزور، كأنه بعض هاتيك الأصباغ التي تموهين بها على الناس، وأنطلق لسانك يطمع في أن يدلل على أن المرأة هي نور الحياة وبهجتها وجمالها الساطع
وتبدت لي فلسفة المرأة الفجة في كلماتك الخاوية، وفي عيني أن المرأة عذاب القلب والنفس والعقل والدار جميعاً، لا يخلص الرجل من واحدة إلا ليرتدغ في واحدة
وسخرت من الدار، فسخرت هي من انصداع شملك وتشعب غايتك؛ وانفلتِّ من حدود المرأة، فانفجرت لك الحياة عن مأساة لا تنتهي، وأصبحت أضحوكة الشارع، لأنك تمثلين على مسرحه كل يوم مهزلة؛ وتصنعت للرجل فألفيت فيه الصاحب، وافتقدت فيه الزوج
ولمزت فتاة الدار فرقاً من أن تسمو عليك، فذهبتُ أثير فيك نوازع مكفوفة على أستل جماع رأيك، فقلت: (لا ريب ففتاة الدار هي في رأينا مطية الدار، وهي بنت الحجن، وهي عَيْر الحي و. . . ثم كيف تجد الزوج، وهي في غياهب البيت وظلام الحياة؟)
فقلت: وإذن ففتاة الشارع قد حطمت هذا القيد الذهبي لتبحث. . . لتبحث عن الزوج؛ وهي في بحثها تقارن وتختار اختياراً فاجراً، وتعرض على عيني الرجل الغريب، في سوق الزواج، محاسنها القبيحة وقبحها الفتان. ولا عجب إن هي ضلت الطريق ففقدت الدار والزوج معاً!
وقلت: إن اختلاط المرأة بالرجل يعلمها حكمة لا ينطلي عليها خداع الشاب ولا مكره ولا حيلته، وللشاب أساليب ملتوية يغتر بها الشيطانة. فقلت: يا سيدتي، إن الجدار سد يحول بينك وبين خير الشاب وشره
وقلت: إن المرأة تجد - خارج الدار - حياتها وعملها وكسبها. فقلت: لقد خلقت المرأة لتكون أماً، وليس في الشارع أطفال سوى اللقطاء
وقلتِ وقلتُ. . .
ثم أعيتني الحيلة فانطويت عنك لأنك ترفعت عن أن تكوني سيدة الدار، وفي رأيي أنك هويت لتكوني ابنة الشارع
أتذكرين يوم أن جئت لك بقناع يدرأ عنك العين المتطفلة النهمة؟ لقد كان صفيقاً هوناً ما، يا عزيزتي، فطرحته جانباً وأنت تقولين (لو كان رقيقاً!) فاستبدلت به غيره، غير أني رأيت الكراهية في ناظريك، فحبوتك غيره. . . ثم اشتريت أنت نقاباً يروق لك، فجاء يسخر منك لأنه لا يواري إلا ما يواري الأبيض والأحمر من مقابحك
وهذا الجورب الذي أرغمتك على لبسه كان موضوع جدال يحتدم مرة ثم يخبو، لأنك تعلمت في مدرستك التعنت في الرأي
لقد تلقنت في المدرسة علماً ألقى بك بين أحضان الشارع لأنه فتح أمامك باب الحرية، وهو أيضاً قد قذف بالشاب ليتسكع في تيهاء من أمره لأنه سد أمامه باب العمل
وهذا اللباس القصير، إنه يكشف عن شئ، ليتألق فيجذب إليك البصر
أفرأيت - يا صاحبتي - الزهرة تزهو بلونها لتجذب إليها الحشرة فتمتص رحيقها ثم تطير وقد قضت منها وطراً؟
لا ضير، فلقد صُم على الأمر وضلت فيك فلسفتي؛ فانطلقت التمس راحة نفسي وهدوء خاطري
وخلفتك من ورائي، في هذا الشارع، تضطرين بين آذى الحياة المتلاطم
ويا عزيزتي، هذه السيارة الجميلة التي أتأنق فيها، إنها من وحي غطرستك، فهل تجدين لذع فراقها؟
وهذه الدار الصغيرة قد رتبتها يدك على نسق ونظام لتكون لك عشاً آمناً فهل وجدت فقدها؟
وتلك الأيام الناعمة البهجة، أيام الهوى الغض، حين كنا نتلاقى عند الأصيل على شاطئ النيل، نتجاذب أحاديث الغرام ونفتن في أساليب الحب، وهذا الأمل الذي سطع في قلبك وقلبي. . . ثم خبا، أفتذكرين سطراً من هذا التاريخ؟
كلا، كلا! فأنا قد رأيتك بالأمس تسيرين إلى جانب شاب يخدعك وتمكرين به فعرفت أنك أنت ابنة الشارع، لا عهد لك ولا ذمة، ولا غرو فلقد خرجت إلى الشارع تفتشين عن الزوج
فهذا عذري إليك حين انطويت عنك وفي رأيي أن حرية المرأة هي فجورها، وأن خروجها من دارها هو فسقها فيا ابنة الشارع، كوني من تشائين إلا أن تكوني زوجة لي
(مشتهر)
كامل محمود حبيب