مجلة الرسالة/العدد 356/في سبيل الأزهر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 356/في سبيل الأزهر

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1940



اعتراف ورجاء

للأستاذ محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

كتب الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء، سلسلة من مقالاته القوية الممتعة في الأزهر وما يتصل بالأزهر من فقه ودراسة وخلق

وقد أثارت هذه المقالات في نفسي باعتباري مسلماً، وعالماً، ومدرساً في الأزهر، عاملين مختلفين: أحدهما عامل الأسف والحزن والخجل من هذا السيل المتدفق الذي ينصب على رأس الأزهر في الحين بعد الحين، بل مع كل مطلع شمس ومغربها، حتى أصبحنا لا نقرأ مقالاً، ولا نستمع إلى حديث، ولا نتصفح كتاباً إلا رأينا فيه لوناً من ألوان النقد العنيف موجهاً إلى الأزهر في جموده وخموله، وركود الحياة العلمية فيه، وقصوره عن مجاراة الزمن، ومسايرة الحضارة العلمية التي رجت العالم، وتغلغلت في كل نواحي الحياة!

أما العالم الثاني فهو عامل الأمل والرجاء، في أن هذه العلل ما دامت غير مستحكمة ولا متأبية على الإصلاح، فهي قابلة للشفاء، وأن هذه الوخزات ما دام يحس بها أبناء الأزهر فهي دليل على الحياة فيه، وهي لا بد ستوقظه من سباته العميق، وستحمله على أن ينفض عن نفسه غبار هذا الكسل، وينخلع من هذا الثوب البالي الذي جلله بالعار، وديثه بالصغار، وسامه الذل والهوان!

لقد ساءلت نفسي: أحقاً أن في الأزهر كل هذه العيوب التي يرميه الناس بها، أم أنهم يتجنون عليه ويتندرون على حسابه؟

وسرعان ما أجبت عن هذا التساؤل، فاعترفت بكثير من هذه العيوب، وعذرت الذين يلومون:

في الأزهر من غير شك نواحي نقص عظيمة، ويجب أن نكون صرحاء إلى أبعد حدود الصراحة. وإذا جاز لكاتب مهذب كالأستاذ الزيات أن يجامل الأزهر، فلا يذكر كل ما يعرفه من عيوبه، حين يتناوله بالنقد، فإن ذلك لا يجوز لأزهري يصطلي ليله ونهاره هذ النار المحرقة التي لا مناص له من اصطلائها بحكم عمله وطبيعة اتصاله ببيئته

لقد تدبرت هذه النواحي التي من أجلها يلام الأزهر ومن قبلها يؤتي، فوجدت أهمها عقيدة الأزهر في نفسه وأسلوب الدراسة فيه.

فالأزهر مازال - على الرغم من بزوغ شمس الإمام المراغي في أرجائه - يدير حركته الفكرية على نحو من التعصب الجامد لكل ما يعلم، والرفض الجامد لكل ما يجهل. وما يزال فيه من يقول: كفر فلان، وألحد فلان، وتزندق فلان، لأنه أخذ برأي غير مألوف، أو خالف شيئا قال به إمام من الأئمة السابقين!

وليس هذا التكفير والحكم بالفسق والزندقة شيئاً يرمى به غير الأزهريين فحسب، ولكن للأزهريين منه نصيباً غير قليل! وإنك لتري غباراً يتطاير وشرراً يلمع، وتسمع دوياً يملأ أذنيك وضجة تدور من حولك، فتقول لنفسك هذه معركة علمية قد احتدمت، ولا بد أن تنجلي عن حقيقة يحسن السكوت عليها كما يقولون، أو عن فكرة إصلاحية تفيد منها الأمة فائدة تحفظها لرجال الأزهر

ويصدق ظنك من بعض نواحيه، فإذا هو عراك ولكن في غير معترك، وشجار ولكن في غير مشتجر، ثم تنجلي هذه المعركة كما بدأت، فلا الحقيقة العلمية وصلت إليها، ولا الأمة أفادت ما كان ينبغي أن تفيد؛ بل قل إنها تنجلي عن حالة هي أسوأ مما بدأت. فإذا كانت المعارك الحقيقية تسفر في كثير من الأحيان عن كذا من القتلى، وكذا من الجرحى؛ فإن معاركنا الأزهرية تسفر كذلك عن كذا من الكفرة، وكذا من الفسقة، وكذا من الجهلة. . . الخ

لست مبالغاً، أيها القارئ، وإنها للحقيقة المرة

لقد قال بعض العلماء رأياً في (الشيطان) في حديث له أذاعه بالراديو، خلاصته: أن (الشيطان) قد ورد ذكره في القرآن على أساليب شتى، وأن المعنى المشترك في كل الآيات التي عرضت للشيطان، أنه قوة الشر وعنصر الفساد في هذا الوجود

وهذا الرأي الذي يدل على تفكير ناضج وعقل رشيد، ويلتئم مع أحدث الآراء العلمية الصحيحة، ولا يعارض في نفس الوقت شيئاً صريحاً من الدين - لا يمر كما يمر سائر الكلام، ولكن يوقف عنده، لا ليشكر صاحبه على توفيقه بين نصوص الدين وآراء العلم، ولكن ليُتهم بمخالفة النصوص، وإنكار ما في القرآن، والخروج على الأحاديث! ولولا أن صاحب الرأي رجل قوي، محترم الرأي، مرموق المكانة، لا يؤكل لحمه، لترددتْ في هذا المجال كلمات الإلحاد، والفسوق، والزندقة، والمروق، ولكن الله سلم!

على رسلكم أيها السادة! لماذا تفرضون دائماً في كل من يخالفكم في الرأي أنه سيئ النية، متهم الغرض؟ ولماذا تفرضون دائماً في أنفسكم أنكم قد وصلتم في كل ما زعمتم إلى الحق، فتدخلون في كل بحث وكل نقاش على هذا الأساس ومع استحضار هذه الفكرة

وعمن أخذتم هذه الطريقة؟ أعن كتاب الله، وهو الذي يعظم شأن البرهان ويحكم العقل في كل شئ حتى في الإيمان بالله وينهى عن التنابز بالألقاب؟

أم عن الرسول وقد كان المثل الأعلى في حلمه وسعة صدره وصبره على الحوار والجدال؟ ألم يكن الأعرابي الجلف يأتيه فيناديه باسمه المجرد، ويغلظ له في القول، ويعنف عليه في السؤال، فلا يفسد ذلك من حلمه، ولا يوهن من صبره؟

فإذا لم تكونوا قد أخذتم هذه الطريقة عن الله ورسوله فعمن أخذتموها؟ أعن علماء السلف ورجال المذاهب الأولين الذين كانوا يتناقشون ويتحاورون ويرجع بعضهم إلى رأي بعض، ويخالف بعضهم بعضاً، فلا يدفعهم ذلك الخلاف إلى تجريح أو تكفير؟

أم أخذتموها من كتب البحث والمناظرة التي قتلتموها بحثاً وأفعمتموها شرحاً، ولست أذكر أن فيما رسمت من أساليب الحوار سوى التدليل ودفع البرهان بالبرهان ومنع المقدمات. . الخ وليس فيها الوصف بالخروج على الآيات وإنكار الأحاديث!

هذا معنى في الأزهر ما زال موجوداً، وهو موجود على أشده في بيئة أزهرية معنية يعرفها الأزهريون ولها صلة وثيقة بالجمهور!

فإذا رجعت إلى أسلوب الدراسة والكتب المقررة وجدت العجب العجاب. وكلمة (العجب العجاب) هذه كانت تقال في زمن عبد القاهر الجرجاني وأبي هلال والشاطبي وغيرهم. كانوا يقولونها في نقدهم لآراء مخالفيهم؛ أما في عصرنا الحاضر، حيث النظريات الصحيحة الثابتة في شتى نواحي العلوم، وحيث السرعة والحرص على الزمن، فإني أرى كلمة (العجب العجاب) غير كافية للتعبير عما أقصد. وأعترف بالعجز عن اختيار لفظ مناسب يوصف به هذا التسكع العلمي الذي نسميه دراسة، مع أن الدراسة دائماً تنتج الوضوح وحل المشكلات، وهذا التسكع يقوم دائماً على التعقيد وخلق المشكلات! لو أردت أن أضرب أمثلة كثيرة لهذا النوع من الدراسة، لأتيت بالكثير ولوجد فيه قراء الرسالة طُرفاً لا تدور لهم بخلد، ولا تخطر لهم على بال، ولكني أكتفي الآن - والآن فقط - بأن أصف ما كان لذلك من أثر تحس به مناهج الدراسة!

مازال علماء بعض الكليات يقرءون في المنطق من أول العام إلى اليوم، (وأرجو أن يلاحظ القراء أنه لم يبق من العام الدراسي إلا أيام معدودات)، فلم يخرجوا بعد عن مقدمات هذا العلم، ولم يصلوا إلى بحث من صميم أبحاثه!

وما زال الذين يدرسون علم الأصول من أول العام يتحدثون عن أدلة التشريع. أستغفر الله، بل يسردون أدلة التشريع التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فأين هم اليوم؟ إنهم لم يتجاوزوا تعريف الكتاب تعريفاً فنياً إلا منذ عهد قريب، ومضى العام في معرفة ما هو علو الأصول، وما منزلته بين العلوم، وما ثمرته، الخ. بل ليس في هذه الموضوعات خالصة، فإن فيها على كل حال بحثاً علمياً مفيداً، ولكن في العبارات التي عبر بها المؤلف عن هذه المسائل، وفيما نقده من هذه العبارات شراح الكتاب وحواشي الكتاب! فأي ضياع هذا الضياع؟ وعلى حساب من؟

لماذا نحتفظ بأمثال هذه الكتب، ونحرص عليها، وفيها هذا الإرهاق وهذا البطء؟ ولماذا نأزم بها أنفسنا وأبناءنا؟ ألأنها أثرية؟ فأقيموا معهداً للدراسات الأثرية إن كنتم حريصين على الدراسات الأثرية إلى هذا الحد

هذه بعض العيوب التي يحس بها الأزهريون الناهضون أنفسهم قبل أن يحس بها الناس لهم. وفي الأزهر شباب ناهضون مستعدون للإنتاج والعمل، شباب أحسن الأستاذ الزيات في تسميتهم (شباب المراغي) لأن الأستاذ الإمام هو قائدهم الروحي، ليس في الإدارة فقط، ولكن في العلم والخلق والإصلاح

ولقد وجد فيه الأزهر الحديث ضالته المنشودة، فهو أول شيخ للأزهر لا يتعصب على الثقافة الحديثة. وهو أول شيخ للأزهر اشترك اشتراكاً عملياً في التشريع لخير البلاد. وهو واضع قانون الطلاق ومذكرته التي هي المثل الكامل للفقيه الذي تتطلع إليه آمالنا. وهو الذي اشترك اشتراكاً فعلياً في إلقاء الدروس على طلبة كلية الشريعة، لتكون مثالاً يحتذى، ويمضي على سننه المدرسون وهو في كل هذا وبعد كل هذا القدوة الحسنة لعلماء الأزهر وشبابِ الأزهر في تفكيره، وخلقه، وعلو همته، وسمو أغراضه

فمادام الأستاذ الأكبر المراغي يقود الأزهر، وما دام (شباب المراغي) مؤمنين بروحه، مقتفين لآثاره، فإن في الأزهر حياة، وفي إصلاحه أملاً إن شاء لله

وليستبشر الأستاذ الزيات، فان صرخته قد وجدت صداها، ولن تضيع!

محمد محمد المدني