مجلة الرسالة/العدد 356/زفرة مصدور!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 356/زفرة مصدور!

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1940



للأستاذ علي الطنطاوي

إلى أخي شكري فيصل:

قرأت كلمتك التي أوحى إليك الحنين معناها، فوعيت وحيه وبلغته (الرسالة) وأهديته إلى صاحبها فأثارت قراءتها ألماً في نفسي دفيناً، وبعث فيها شكاة ميتة، فأخذت القلم أكتبها لتكون جواباً لكلمتك. وليغفر لي القراء النحو الذي نحوت إليه فيها، وليغفر الزيات فإنني متألم. . .

ولابد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع

وما عجب أن أدخل بينك وبين الأستاذ الكبير الزيات، فإنه أخي الأكبر، وأنت أخي الأصغر، وأنا أحمل له من الحب والإكبار، على أني لم ألقه أبداً، مثلما أحمل لك من المودة والحب على طول معرفتي بك ناشئاً وشاباً، وعلى أني سأعرفك أدبياً كبيراً إن شاء الله

أنا الآن في شرفتي التي تعرفها. . . أطلّ على دمشق من فوق خمس جواد علوها مائتا متر، فأراها كلها كصفحة الكف، وقد انتصف الليل، وانصرف السامرون آنفاً بعد ما أحيوا ليلة من الليالي التي تعرف مثيلاتها في دارنا، وسكن الكون وشمله الجلال، وأنا جالس وحدي أفكر، لا أفكر في دمشق التي حننت إليها، وشاقتك ذكراها، دمشق التي باكرها الربيع فضحك في غوطتها الزهر، وغمر جوّها العطر، وماست في جناتها الحور الفاتنات، من الحور والصفصاف ومن بنات أمنا حواء، لا أفكر فيها لأن قلبي لا يتفتح الآن لإدراك الجمال، وقريحتي لا تنشط لوصف الربيع، ومكان الشعر من نفسي مقفر خال. ومالي لا تخمل قريحتي، ويذوي غصن الشعر في نفسي، وقد عدت إلى دمشق، على طول شوقي إليها وازدياد حنيني، وتركت أهلاً في العراق كراماً، وبلداً طيباً، وأمة حية، تحمل اللواء، وتهز العلم، وتتقدم لتجمع الشمل الشتيت شمل العرب المتفرق، وتوحد الشعب وترجع المجد والجلال، وتؤلف بين أهل الضاد من حاضر وباد. . . تركت ذلك كله وعدت إلى بلدي الأول، ويا ليت بغداد كانت هي بلدي الأول. . . فلم أجد في دمشق إلا النكران والأذى ولم أجد إلا ما يسوء ويؤلم. . .

ولكن هل يشكو امرؤ بلده؟ هل يهدم بيده داره؟ إن تكلمت قال الحساد بغي وظلم وإن سكت قال الشامتون رضي أو عجز، والقلب بالسكوت يتفطر، والصدر من الصمت يتمزق، والكلام. . . هل يجوز الكلام؟

يا ليتني بقيت بعيداً أقنع من بلدي بهذه الصورة الحلوة التي تتراءى من خلال أحلام المشوق الولهان، ويوحي بها الحنين الطاغي، يا ليتني، وهل تنفع شيئاً ليتني؟

فاقنع أنت بهذه الصورة ودع دمشق. ولكن لا، إنك لست مثلي، إنك ستعود فتلقى مكانك في غرفة المدرسيّن معداًّ لك ينتظرك. وسيظلمونك فيسوّون بينك وبين هؤلاء المساكين الذين بعثوهم ليتعلموا العربية في ديار العجم فجعلوهم بذلك سخرية الساخرين. أما أنا فلم أبلغ مرتبة هؤلاء، ولا أنا ببالغها في يوم من الأيام، وقد عمي أولو الأمر والنهي عن أدبي وعلمي وعما نشرت في الكتب والمجلات والصحف وهو شئ يملأ ثلاثة آلاف صفحة على أقل تقدير. هبْ أن فيها كلاماً مرصوفاً لا معنى وراءه تجد أني حملت في كتابتها ورصفها عناء، فكيف وكلها ثمرة التأمل الطويل، ونتيجة كد الخاطر وعصر الدماغ، وما منها شئ سرقته عن أديب من أدباء فرنسا ولا إنكلترا!. . . عمي أولو الأمر عن هذا كله ولم يعدلوه بهذه الورقة السحرية التي جاء بها أولئك من ديار العجم يشهد لهم فيها من يسكن هناك، بأنهم صاروا يفهمون العربية، وغدوا أهلاً للتصدر لتدريسها. . . ولم يجدوني أهلاً لأكثر من (أستاذ معاون)!

أفيكون ظلماً مني وعدواناً، إذا أعلنت ما أصابني، وشكوته إلى القراء، وهم أصدقائي، لم يبق لي من صديق غيرهم؟ لم يبق لي صديق في هذه الحياة، إنك لتعلم ذلك، ولكني لا أشكو!

إنهم يقولون إني عنيد، وإني مشاغب، وإني أثير المشاكل؛ ولست أفهم لهذا كله إلا معنى واحداً، هو أني أوثر الصدق وأعلمه ولا أفعل ولا أقول إلا ما أطمئن إلى أنه الحق. . .

وهل كان ذنباً أنى حميت للفضيلة تمتهن، وللأخلاق تهان، فناضلت عنها وقاتلت، وقلت لتلاميذي ناضلوا عنها وقاتلوا؟. . .

وهل كان ذنباً أني غضبت لمحمد أن ينكر نبوّته ويجحد رسالته، جاهل غرير، في حفلة أقيمت لتكريم محمد وتمجيد ذكراه؟ وهل كان ذنباً أني لا أقول لسواد الليل أنت أبيض مشرق، ولا أقول للأعور ما أحلى عينيك؟. . .

هذه هي ذنوبي التي خسرت من أجلها صداقات الأصدقاء وكسبت عداوات الرؤساء، وربحت خصومة الجاهلين، وعُددت بها من كبار المشاغبين. . .

لقد قارب الفجر، وانطفأت أنوار المدينة. . . لقد مرّ عليّ ساعتان وأنا أفكر، وكل شئ من حولي ساكن ميت، وكذلك حياتي!. . . إنها خالية منذ سنوات، ليس فيها شئ متحرك. . . فأنا أعيش عيش الحالمين، أرقب أبداً الحادث الذي يهز حياتي الساكنة، ويحرك مواهبي الخاملة، ويدفعني إلى العمل، ولكن انتظاري قد طال حتى كدت أيأس من الانتظار. . .

إنك تعزيني بما حصلت من شهرة وما نلت من مكانة، ولعل في ذلك تسلية لي لو كنت أحس به أو ألمسه، إنني لا أحس والله بهذه الشهرة، إنني كالمغني الأصم الأعمى، يطرب الناس فيصفقون له ويهتفون، ولكنه لا يسمع ولا يري، فينصرف حزيناً يحسب أنه خاب وأساء. . .

إن أهل بلدي ينكرون عليّ كل شئ حتى الأدب

لقد قرأت أمس مقالة سقطت إليّ عرضاً، فرأيت فيها مقالاً يخبط فيه صاحبه خبط عمياء، فيعد أدباء دمشق أو الذين يراهم هو أدباء، فيذكر فيهم كل موظف في وزارة المعارف، وكل تلميذ يدرس في أوربة، وكل مدرسي التاريخ والجغرافيا، ولكنه لا يذكر علي الطنطاوي ولا سعيد الأفغاني؛ أفسمعت أبلغ من هذا الجهل وهذا النكران؟

هذه حالنا في دمشق التي تحن إليها، وتحيي الليالي تفكر فيها، وتتراءى لك صورتها حيال الأفق وأنت قائم عند قنطرة الزمالك أو مرتق ذروة الهرم، وتساهر النجم تفكر فيها وتعد الأيام للوصول إليها، دمشق صارت كالهرة تأكل من حبها بنيها

لقد حمل إلىَّ البريد رسائل جمة ممن أعرف ومن لا أعرف يسألني أصحابها لم لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام؟ فوجدت في هذه الرسائل عزاء، وشكرت لأصحابها، وتوهمت حين قرأتها أن في الدنيا من يفكر في، ويقرأ ما أكتب، ولكني لم أجب واحداً منهم، وبماذا أجيبهم؟ وكيف أقول لهم إن دمشق قد قتلت في نفسي روح الأدب؟

كيف أشكو دمشق التي أحبها؟ وكيف أذمها بعملها؟

ثلاثون سنة ما خرجت منها إلا بشيء واحد، هو أني رأيت الحياة كمائدة القمار، فمن الناس من يخسر ماله ويخرج ينفض كفه، ومنهم من يخرج مثقلاً بأموال غيره التي ربحها، ومنهم من يقوم على الطريق يمسح الأحذية، ومن يمد ' إليه حذاءه ليمسحه له، ومن ينام على السرير، ومن يسهر في الشارع يحرس النائم، ومن يأخذ التسعة من غير عمل، ومن يكد ويدأب فلا يبلغ الواحد، وعالم يخضع لجاهل، وجاهل يترأس العلماء، ورأيت المال والعلم والخلق والشهادات قسماً وهبات، فربَّ غني لا علم عنده، وعالم لا مال لديه، وصاحب شهادات ليس بصاحب علم، وذي علم ليس بذي شهادات ورَبّ أخلاق لا يملك معها شيئاً، ومالك لكل شئ ولكن لا أخلاق له، رأيت في مدرسي المدارس من هو أعلم من رئيس الجامعة، وبين موظفي الوزارة من هو أفضل من الوزير، ولكنه الحظ الأعمى، أو هي حكمة الله لا يعلم سرَّها إلا هو، ابتلانا بخفائها لننظر أنرضى أم نسخط

ولكن ما أضيع أيامي في مدرسة الحياة، إن كان هذا كل ما تعلمت منها في ثلاثين سنة!

لقد أذَّن الفجر وأنا ساهر، وأضيئت منارات دمشق التي لا يحصيها عدّ، ورنَّ صوت المؤذنين في أرجاء الوجود صافياً عذباً: الله أكبر. . . الله أكبر. . .

الله أكبر من كل شئ، اللهم إني أرفع إليك شكاتي. . .

اللهم إني قد نفضت يدي من الناس، وإني أسألك أمراً واحداً، ألاّ تقطعني عنك، وأن تدلني عليك، حتى أجد بمراقبتك أنس الدنيا، وسعادة الأخرى. . .

علي الطنطاوي