مجلة الرسالة/العدد 352/في أرجاء سيناء
مجلة الرسالة/العدد 352/في أرجاء سيناء
3 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
دير سنت كترين
- 1 -
عطفا إلى اليسار في شعب من وادي الشيخ، فمررنا بأبنية قليلة الملاط كأنها حجارة مرصوصة، وعرفنا من بعد أنها كانت للجنود الذين رافقوا عباس باشا الأول حينما أقام في هذه البقعة من سيناء، وقد رأينا بناءً كبيراً على جبل شامخ قريب من الدير وهو قصر عباس باشا، وكان يحب الإقامة في البراري، ولا سيما في برية سيناء. وبلغنا الدير قبيل الغروب، فإذا حديقة إلى اليمين ذات سور قصير، بينها وبين الجبل طريق ضيقة تؤدي إلى الدير
والدير بناء واسع عال يحيط به سور متين علوه أحد عشر متراً وفي جداره الغربي باب صغير دخلناه إلى باب آخر وراءه باب ثالث إلى اليمين. وهذا السور الضخم، وهذه الأبواب الصغيرة المتتابعة تدل على ما كان يخشاه أهل الدير من غارات البدو وغيرهم في العصور السالفة. وللدير في أعلى جداره الشمالي باب عليه وقاية من الخشب أعد للدخول إلى الدير وقت الخوف. فيرفع الداخل في سلة معلقة ترفعها حبال على بكرة كبيرة تسمى (الدوار)، وتشد الحبال إلى عمود له ترس كبير يدور به عدة رجال، فتلتف الحبال وتمر على البكرة فترفع السلة، من هذا الباب أدخلت أمتعتنا
دخلنا إلى أبنية كثيرة لا يتيسر وصفها، فإنها لم تخط في وقت واحد، بل بنيت في عصور مختلفة. صعدنا درجاً إلى مستوى، ثم صعدنا مرتين فلقينا رئيس الدير فدخلنا إلى حجرة كبيرة، فجلسنا نتحدث وقدمت إلينا القهوة على الطريقة المصرية وعرض علينا النبيذ، والنبيذ يصنع في الدير وفي الواحات التابعة له في أنحاء سيناء، وهو من التمر، ولخمور الأديرة صيت ذائع في الشعر العربي، ومن أجل هذا كثر ذكر الأديار في الشعر منذ عهد أبي نواس، كان الشعراء يقصدونها لبعدها عن البلدان ونزاهتها وما فيها من خمور.
ثم خرجنا من الحجرة لنرى الحجر التي أعدت لنزولنا، فصعدنا إلى طبقة ثم أخرى الجهة الغربية، فإذا مكتب رئيس الدير، ثم غرفة كبيرة للجلوس والمائدة، ثم مطبخ، ثم صف من الحجر أمامها طنف يفضي إلى الجناح الجنوبي من الدير، وقد عمر حديثاً بالأسمنت المسلح فكان شذوذاً في هذه الأبنية العتيقة
ويفضي الدرج الصاعد إلى هذه الطبقات العليا إلى سطح تحده من الشمال والغرب شرفات السور المطلة على حديقة الدير ومدخله. وهناك مدافع صغيرة يقال إن بعضها من أيام السلطان سليم، وقد أهديت إلى الدير لمدافعة المغيرين
أكرم القوم مثوانا فأنزلونا في عشر حجرات في كل حجرة سريران. فأمضينا ليلتنا مستريحين
- 2 -
بني هذا الدير القيصر جستينيان حوالي سنة 545م، باسم كترين زوجه التي عرفت من بعد باسم سنتا كترينا، في موضع يعلو سطح البحر بنحو خمسة آلاف قدم، وهو يشبه مربعاً طول ضلعه ثمانون متراً. وله أوقاف كثيرة في سيناء ومصر وبلاد اليونان. وكان له أوقاف كثيرة في بلاد الروس استولى عليها البلشفيون. له في سيناء بساتين كثيرة وأديرة وكنائس، وله أبنية في القاهرة الإسكندرية والسويس، ويقيم مطران سيناء في القاهرة وقت الشتاء
وأعظم غلات الدير الآن ريع مائة فدان في سرياقوس وهبها له عباس باشا الأول. وكان دخل الدير زهاء ستة آلاف جنيه نقصت كثيراً بعد استيلاء الروس على أوقافه
وينفق بعض الريع على أعراب سيناء، يعطون الخبز كل يوم ولكل واحد من الأعراب الذين يقصدون الدير أن يأخذ الخبز يوماً بعد يوم، ثلاثة أرغفة لكل إنسان. وكان في الدير رهبان كثيرون ثلاثمائة أو أكثر وهم الآن زهاء الأربعين.
- 3 -
وفي صبيحة يوم الأربعاء 15 ذي الحجة (23 يناير) سار معنا أحد الرهبان ليرينا بعض أبنية الدير فذهبنا إلى الكنيسة الكبرى: باب ضخم من الحديد ثم باب خشبي دقيق الصنع عتيق يقال إنه من عهد جستنيان ويلقى الداخل بهو كبير على جانبيه صفان من عمد الجرانيت ثم رواقان وراء الأعمدة. وفي الكنيسة من النقش والتذهيب ومن الصور والألواح ما يعيي الناظر إحصاؤه بله التأمل فيه ومعرفة دقائقه
ومما أذكر من هذه المناظر منبر إلى اليمين عليه صورة للدير واضحة ملونة، وهي من تصوير الأب كرنارس الكربتي من مصوري القرن الثامن عشر الميلادي؛ ومن الصور القديمة صورة للسيدة مريم تحمل عيسى عليه السلام ويقال إنها من صنع لوقا الإنجيلي، وصورة أخرى يقال إنها صنع جستنيان
ويعلو هيكل الكنيسة عقد قد صور عليه المسيح والرسل والأنبياء بالفسيفساء في جمال وإتقان الخ
ووراء هذه الكنيسة كنيسة صغيرة لسنت هيلانة وتسمى كنيسة العليقة ويقال إنها في مكان شجرة العليق التي رأى فيها موسى عليه السلام النار، وفي الجدار الشرقي كوة تقابل صدعا في الجبل. وتدخل الشمس يوم 23 مارس من الصدع إلى الكوة فتقع على مكان الشجرة. ووراء الجدار شجرة يزعمون أنها هي شجرة موسى، ولكني لم أرها
ويلزم داخل هذه الكنيسة الصغيرة بخلع نعليه اقتداء بموسى عليه السلام في القصة التي ذكرت في القرآن الكريم: (فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)
وخرجنا من الكنيسة إلى مشاهد أخرى منها مكتبة الدير وفيها كتب دينية كثيرة قليل منها باللغة العربية. وقد رأيت هناك تمثالاً لإسماعيل باشا الخديوي فسرني جداً أن رأيته في هذا المكان فشعرت أن سلطان مصر ممتد إلى هذا الدير
ثم رأينا مسجد الدير، ولا ريب أن القارئ سيعجب حين يقرأ هذا التركيب المتناقض: (مسجد الدير)، ولكنها حقيقة، ففي الدير مسجد صغير ملاصق كنيسة صغيرة. وهو مسجد ساذج له منبر قديم قد وضعت عليه أعلام مزركشة جديدة مصنوعة في مصر؛ على العلم الأمامي (أنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) من فؤاد الأول. وعلى كل من العلمين الجانبيين: لا إله إلا الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الأمين. من فؤاد الأول. والتاريخ 1349 وفي جانب المسجد منضدة عليها كسوتا ضريحين مصنوعتان في مصر أيضاً أهداهما الملك فؤاد رحمه الله؛ إحداهما لقبر النبي هرون والأخرى لقبر النبي صالح، وتؤخذان في مواسم الزيارة، ثم تردان إلى الدير فتحفظان في المسجد
وبجانب المسجد مئذنة مربعة لها سلم خشبي وفيها ثلاث طبقات أو أربع صعدت فيها مع بعض الرفاق وشاقني الأذان هناك فأذنت، ولعل هذا الأذان كان إيناساً لهذا المسجد المعطل المستوحش
وكنت قرأت في كتاب نعوم شقير عن سيناء، أن على منبر هذا المسجد كتابة قديمة، وأن فيه كرسياً قديماً، ولكني لم أجد الكتاب ولا الكرسي، فسألت المطران، فقال: حفظناهما في المكتبة. ولست أدري لماذا لم يحفظا في موضعهما من المسجد. وكان المرحوم أحمد زكي باشا زار الدير ونسخ الكتابة التي على المنبر والكرسي. فأما الكتابة الكوفية التي على المنبر فهي مصورة في كتاب شقير، وهذا نصها:
(بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه أبي علي المنصور، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتصرين أمر بإنشاء هذا المنبر السيد الأجل الأفضل أمير الحرمين سيف الإسلام ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو القاسم شاهنشاه عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلا كلمته. وذلك في شهر ربيع الأول سنة خمسمائة. أثق بالله)
والخليفة الآمر الفاطمي تولى الخلافة من سنة 495 إلى سنة 524
وأما الكتابة التي على الكرسي فهي أعظم خطراً ودلالة على عناية الفاطميين ببناء المساجد في هذه البقعة:
(بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمل هذا الشمع والكراسي والجامع المبارك الذي بالدير الأعلى والثلاث مساجد التي فوق فاران والمسجد الذي تحت فاران الجديدة والمنارة التي بحضر الساحل، الأمير الموفق المنتخب منير الدولة وفارسها أبو منصور أنوشتكين الآمري) والآمري نسبة إلى الآمر بأحكام الله. فالكرسي والمنبر صنعا في زمان الخليفة الآمر
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام