مجلة الرسالة/العدد 352/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 352/رسالة الفن
نحو التربية الفنية
هذا أستاذ
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هل تستطيعين أن تساعديني على ترشيح صاحب ديوان (الجداول) ليكون أستاذاً في كلية الآداب؟
- ما ديوان الجداول هذا، ومن صاحبه، وأين هو، وما الذي يميزه على غيره حتى تطلب له أن يكون أستاذاً في كلية الآداب عندنا، وأنت تعرف أن للأستاذية فيها شروطاً، منها، أن يكون الأستاذ حاصلاً على الدكتوراه؟
- ديوان الجداول هو مجموعة من شعر إيليا أبي ماضي، وهو به يستحق أن يكون أستاذاً في كلية الآداب، أما الدكتوراه فشهادة يمنحها القارئون الكبار للقارئين الصغار، ولكن إيليا أبا ماضي لم يعد قارئاً، ولا كاتباً، وإنما هو إنسان ينفذ من هذا الوجود المحسوس إلى ما بعده، ثم يعود إلى الناس يروى لهم ما رأى وما سمع وما أحس وما أدرك. . . وهو من كثرة تجواله في آفاق الكون ألم بالكثير من دروبه، وأحاط بالكثير من طرقه، فهو يستطيع أن يكون رائداً لجماهير من التلاميذ تتبعه، يرشد منهم من يسترشد، ويوجه منهم من يحار، ويعلم منهم من يرتبك، ويهدي منهم من يضل. . . وهذا هو عمل الأستاذ. أستاذ الأدب
- هذا عمل الفارغ من حياته المستغنى عن عمره وليس عمل أستاذ الآداب
- ولن يكون الإنسان أستاذاً للآداب إلا إذا فرغ من حياته واستغنى عن عمره، واشترى بهذه الدنيا شيئاً آخر، هو الأدب. والأدب ليس كما تحسبين كلاماً منمقاً مزوقاً لبعض الناس قدرة على تخليقه، والبعض الآخر عاجزون عنه، وإنما الأدب تربية نفسية يجاهد اليتيم في تقويم نفسه بها، وغير اليتيم يسعد بما يربيه عليه أبوه أو أستاذه. واليتامى مساكين، قليلاً ما يوفقون إلى الهدى وكثيراً ما يفلت زمام أنفسهم من أيديهم فينطلقون في الحياة ونفوسهم مشردة معربدة تنغمس في الرذيلة حيناً، وتتخبط أحياناً بين الرذائل والفضائل، ولكنها لا تستقر على فضيلة إلا ما فرضه عليها مجتمع اليتامى المشردين الذين يحيطون بها، ولي يفرض هذا المجتمع كثيراً من الفضائل، فهو كمجتمعات المشردين والمشبوهين من اليتامى والمساكين الذين ترينهم ملقَين في الشوارع. . .
- وهل فرغ إيليا أبو ماضي من حياته حقاً وتوفر على تأديب نفسه، فهو إذن قادر على أن يؤدب غيره؟ وإذا كان قد فرغ من حياته حقاً فمن أين يأكل. . . وكيف يعيش؟
- إنه يأكل كما تأكل الطير في السماء، ويعيش كما يعيش الحر الكريم؛ منذ سنوات وسنوات هبط مصر وأراد أن يستقر فيها، فاتخذ لنفسه محلاً يبيع فيه السجاير والدخان ووقع عليه أنطون الجميل بك فرآه يكتب شعراً في الدكان، فقرأ شعره فأعجبه فنشره في مجلة كان يصدرها، فقامت قيامة الأدباء والشعراء المصريين عليه فأوسعوه نقداً، وأوسعوه تجريحاً، وتناولوا ألفاظه ولغته وراحوا يناقشونه في هذه الفاء ما موقعها من الإعراب، وهذه النون لماذا هي مفتوحة وهي في الأصل مضمومة، وهذه الهمزة، لماذا قطعها وهي همزة وصل؟ وتكاثروا عليه، وكان في مصر إذ ذاك أمير للشعراء هو المرحوم أحمد شوقي بك، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول كلمة ينقذ بها إيليا من بين براثن هؤلاء الذين ينقدون الشعر بغير ما يصلح نقداً للشعر، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول لهؤلاء النقاد: إني أربأ بالشعر أن يعيبه هذا الذي تروون مما يعيب اللغة والعروض والنحو وسائر ما يحصل بالقراءة والدرس، وإني أرفع الشعر فوق هذا كله، فهو حديث النفس والنفس من الله وليس لله لسان مما ننطق به. كان شوقي بك رحمه الله يستطيع أن يقف من إيليا هذه الوقفة ولكنه - رحمه الله - كان مشغولاً بشعره هو وبنفسه هو، وبالملك العريض الذي أرسله فيه الزمن، فلم يشعر مطلقاً بالذي حدث لأبي ماضي، ولم يطق أبو ماضي صبراً على هؤلاء المهاجمين فشد رحاله إلى أمريكا، حيث يتكلم الناس بالإنجليزية، وحيث لا عرب إلا الباحثون عن الرزق، والخارجون من أوطانهم وأيديهم صفر، ثم استطاعوا هناك في أشد معامع الحياة ازدحاماً واصطراعاً أن يجمعوا المال وأن يعيشوا به كراماً، لا ذل يرهقهم إلا الغربة ولا مستعبد يزيحهم عن الأرض؛ وإنما لكل امرئ هناك ما سعى، ولقد سعى أبو ماضي فأنشأ هناك مجلة اسمها السمير ويقولون: إنه أنشأ متجراً للدخان والسجاير أيضاً؛ وراح بعد ذلك يتأمل الدنيا ويرنو إلى الآخرة، ويقيد على الورق ما يتكشف له من الحقائق، وما يلمحه من المبهمات، ويسجل على نفسه بلوغها وقصورها، وخيرها وشرها، وهداها وحيرتها أفلا يصلح هذا أستاذاً لأدب النفس؟ فإن كان لا يصلح، فمن ذا الذي يصلح؟!
- ولكن هذا الذي رويته من حياته يدل على أنه من رجال الدنيا المغامرين الذين يجرون وراء الرزق والمادة من آسيا إلى أفريقيا إلى أمريكا فكيف تقول إن هذا رجل فرغ من الحياة واستغنى عن مادتها؟
- البلبل يطير من فنن إلى فنن يتلقط رزقه، ولكنه لا يقضي كل وقته في البحث عن طعامه، وإنما يقضي أغلبه في الشدو والترتيل فهما طبعه وقد اختص بهما، وليس الأكل من طبعه إلا كما هو من طبع الخلائق، وليس الشدو والترتيل من خصائص غيره إلا من كان على طرازه من الخلائق. فأبو ماضي لم يجد رزقه في الشام فطار إلى مصر، فوجد فيها الرزق مقدوراً عليه فطار إلى أمريكا، فوجد فيها رزقاً مباحاً طاهراً قد يكون كثيراً وقد يكون قليلاً ولكنه نقي غير محسود، فلا عجب إذا اطمأن أبو ماضي هناك. . . ولكن ثقي أنه يحن إلى الشرق، ولعل أغلب حنينه يهتاج إلى مصر فهو يقول:
وطنان أشواق ما أكون إليهما ... مصر التي أحببتها وبلادي
ومواطن الأرواح يعظم شأنها ... في النفس فوق مواطن الأجساد
حرصي على حب الكنانة دونه ... حرص السجين على بقايا الزاد
بلد الجمال خفيه وجليه ... والفن من مستطرف وتلاد
عرضت مواكبها الشعوب فلم أجد ... إلا بمصر نضارة الآباد. . .
- ولكن هذا شعر يسير المعنى قريب اللفظ. . . أليس له شعر أحلى؟
- له. . . له كل هذا الديوان الذي في يدي، وله غيره. . . وبارك الله لصاحب الرسالة الذي ينشر فيها بين الحين والحين شيئاً من شعره، وكم أريد أن أقول أيضاً بارك الله لوزارة المعارف لو أنها عطفت على تلاميذها وطلابها ويسرت لهم شيئاً من هذا الشعر
- ولكنه لا يزال حياً يرزق، والدولة لا تخلد إلا من فارق الحياة. . .
- فأل الله ولا فألك، فوزارة المعارف تخلد كلام الأستاذ الجارم الموظف بوزارة المعارف، ووزارة المعارف تخلد كلام الأستاذ أحمد أمين عضو لجان وزارة المعارف، ووزارة المعارف تخلد كلام الدكتور طه حسين بك مراقب الثقافة بوزارة المعارف، ووزارة المعارف تكاد لا تلتفت إلا لمن كان في وزارة المعارف، منذ حسنين باشا صاحب كتاب الطبيعة، وعبد الفتاح صبري باشا، وكل ما في الأمر أن الصور تتبدل وتتغير، وأن الكلام يتلون ويتشكل، ولكن الأمر لا يزال كما كان: موظفون يؤلفون كتباً. ثم يؤلفون لجاناً. فتقرر اللجان الكتب. . .
- اخسأ. لا تقل عن هؤلاء الأساتذة الإجلاء إنهم أصحاب أهواء ولا مطامع فهم الأدباء الذين في البلد، وهم الشعراء وهم الكتاب، فإذا لم تأخذ الوزارة كتبهم فأي الكتب تأخذ؟
- إن أساتذتنا هؤلاء هم أساتذة الجامعة، فأحرى بهم أن يوفروا أنفسهم للعلم؛ لأنهم على العكس من إيليا أبي ماضي. . . هو يتاجر في الدخان ليأكل منه وليفرغ للأدب لا يذل نفسه، وهم يتاجرون بالأدب ليأكلوا منه لا يعتزون بأنفسهم، ولا يشكرون الله على ما يسر لهم من وظائف. . .
- ثق أنك مخطئ، وثق أنهم أرفع نفساً مما تحسب، وثق أنهم يتجشمون في سبيل تثقيف البلد ما أسأل الله أن يجزيهم عنه خيراً. . .
- آمين. . . أسمعي أبا ماضي يصف الشاعر:
أتقولون إنه مجنون
أتقولون إنه مفتون
أتقولون شاعر مسكين
كم مليك كم قائد كم وزير ... ود لو كان شاعراً مسكينا
عاش ملتن فلم يكن مذكورا
وهو ميروسْ كالشيخ كان ضريرا
ولقد مات أبن برد فقيرا
أرأيتم كما رأى العميان ... أفلستم بنورهم تهتدونا؟
- هل هو زاهد؟
- نعم، وهو يقول في الزهد:
قيل: أدرى الناس بالأسرار سكان الصوامع
قلت: إن صح الذي قالوا، فإن السر شائع عجباً! كيف ترى الشمس عيون في براقع
والتي لم تتبرقع لا تراها؟. . .
لست أدري. . .
- إذن فهو يسخر من الزاهدين. . .
- إنه لا يسخر من شيء مطلقاً وإنما هو متطلع إلى الوجود يتعلم الحكمة فكلما تعلم حكمة تفتقت له من ورائها حكمة، فهو لا يزال كلما تعلم علماً تبين له في نفسه جهل حتى يقول:
إنني جئت وأمضي، وأنا لا أعلم
أنا لغز، وذهابي كمجيئي طلسم
والذي أوجد هذا اللغز لغز مبهم
لا تجادل. . . ذو الحجى من قال إني. . .
لست أدري. . .
- لعله كافر. . .
- الكافر لا يقول للناس:
لو دخلتم هياكل الإلهام
وسرحتم في عالم الأحلام
واجتليتم سر الخيال السامي
وعرفتم كما عرفنا الله ... لخررتم أمامنا ساجدينا
- إذن فهو مؤمن. . .
- ومسلم في مسيحيته، لو عرفتِه لوافقتني على ترشيحه للأستاذية في كلية الآداب يعلم طلابها الإيمان والحكمة شعراً، ويؤدب نفوسهم أدباً، فإذا تعذر هذا أو صعب فلا أقل من أن يعرض على التلاميذ ديوانه.
عزيز أحمد فهمي