انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 352/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 352/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1940



أّمٌّ بلا ولد!

للأستاذ محمد سعيد العريان

كانت خديجة في الخامسة والعشرين من عمرها، أو لعلها قد جاوزتها، وإن كانت تبدو لمن يراها أصغر من ذلك؛ فهي قد نالت شهادة (المعّلَمات) منذ سبع سنين؛ فكم كانت سنها يومئذ؟. . . على أن ذلك لم يكن يعنيها كثيراً، ولعلها لم تشغل نفسها يوماُ بحساب عمرها؛ وماذا يجدي عليها ذلك وإنها لسعيدة بحياتها التي تحيا؛ فما لها فكر في غد ولا أمل يمتد إلى ما وراء غد!

وهل يشغل نفسه بحساب عمره وما مضى من أيامه - إلا ذو أمل يعيش به من يومه في غده، أو عاشق تتجاذبه لهفة الذكرى وخطرات المنى؟

منذ سبع سنين لم تغير خديجة شيئاً من نظام حياتها، فهي تغادر مدرستها كل يوم قبيل العصر بعد أن تودع تلميذاتها وتلاميذها، لتلقاهم في صبيحة اليوم التالي أشوق ما تكون أمٌ إلى بنيها وبناتها!

وفيما بين مسائها وصباحها لم يكن لها من عمل إلا أن تأوي إلى غرفتها تقرأ في كتاب، أو تشارك في عمل هين من أعمال البيت، أو تخرج لزيارة بعض جاراتها وصديقاتها منذ أيام الدراسة؛ فإذا بدا لها يوماً أن تخرج إلى بعض الحدائق العامة للرياضة، أو تشاهد رواية جديدة في السينما، أو تقصد إلى بعض المشاهد التي يؤمها الناس للتفرج - فلابد لها يومئذ من رفيقات أو رفقاء من تلاميذها الصغار في روضة الأطفال يشاركونها في الرحلة والتفرج!

على أن هذا الحب العجيب الذي كانت تمنحه هؤلاء الصغار لم يكن بلا جزاء؛ فقد كان تلاميذها يبادلونها حباً يفوق ما يمنحون آباءهم وأمهاتهم اللائى ولدنهم!

وما كانت خديجة هي المعلمة الوحيدة في روضة الأطفال؛ فإن سبع معلمات يحملن معها أعباء العمل المدرسي؛ ولكنها هي وحدها - بهذه العواطف الأمومة الصادقة - كانت في عيون أطفالها هي المعلمة الوحيدة. لا جرم كانت خديجة بذلك أسعد زميلاتها وأكثرهن شعوراً بمسرات الحياة! وغنيت خديجة بدنياها تلك عن المنى والأحلام؛ فما طوعت لنفسها أن تحلم أو تتمنى، ولا هجس في قلبها أن وراء هذه الحياة التي تنعم بهدوئها حياة تتخايل في أوهام كل فتاة في فنون وألوان!

وكان صباح، وجاءها ساعي البريد بخطاب. . .

ونظرت الفتاة في غلافه قبل أن تفضه فأطالت النظر، وكأنما أحست وراءه عينين تنظران إليها نظرة لم تفهم معناها ولا رأت مثلها لذي عينين؛ وقرأت على الغلاف: (الآنسة خديجة. . .) من يكون صاحب هذا الخط؟. . . وترددت برهة، ثم همت أن تفضه لتعرف ما فيه، ولكنها لم تفعل؛ لقد خيل إليها أن أربع عشرة عيناً تنظر إليها لتعرف قبلها ما في هذا الخطاب؛ إن زميلاتها في المدرسة على مقربة!. . . وتصنعت عدم المبالاة ووضعت الرسالة في حقيبتها وما قرأتها. . .

ولأول مرة أحست خديجة أنها في حاجة إلى أن تبتعد عن أطفالها لتخلو إلى نفسها برهة، وكما تحاول الأم أحياناً أن يبعد عنها أطفالها وهم أحب إلى قلبها لتخفى عنهم بعض أسرار الأمومة، كذلك فعلت خديجة. . .!

وأوت إلى ركن قصي تقرأ رسالتها. . . . . .

(عزيزتي خديجة!

(تُرى هل تذكرين؟ أو تعرفين؟. . .

(إن أياماً لا أتمتع فيها بمرآك، ليست من الحياة؛ إن هذا القدر الذي أبعدني عنك إلى حين، قد صدع صدعاً في أيامي!

(وفاجأني الفراق وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم؛ فلم أودعك يا عزيزتي، ولم أتحدث إليك، وسافرت وما تدرين. . .

(تُرَى بماذا تحدثك نفسك الآن يا عزيزتي؟. . . ليتني قريب منك، فأرى، وأسمع، وأعلم. . . بل إنني لأعلمُ علمَ قلبي وإن لم تحدثيني. . . وستعرفين عذري، وتغفرين لي. . . وسنلتقي من بعد يا عزيزتي فأحدثك وتحدثينني؛ وأضحك وتضحكين معي حين نذكر هذا الحاضر بعد أن تطويه الأيام في مدرجة الماضي. . .

(لست أغفر لنفسي ولكنك ستغفرين لي؛ ويوم يجمعنا القدرُ الذي فرَّق بيننا يا عزيزتي، ويعود ما كان. . . وأراك. . . ويعود الربيع النضر طلقاً ضاحكا يتهلل. . . يومئذ أقول لك. . . لا؛ لستُ قائلها اليوم، ولن أقولها غداً، سأجعلها رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همساً في أذنك؛ فتضحكين، وأضحك، ويضحك الطفل الصغير كأمه وأبيه وإن لم يعرف لماذا يضحكان. . .!

(كيف أنت الآن يا عزيزتي؟ هل رضيتِ وسرّى عنك؛ إن كان كذلك فاكتبي إليَّ لتهدأ نفسي. . .

(مضى يومان وأنا في هذا المنأى البعيد كأنهما ليلٌ مطبق ليس وراءه نهار؛ فكيف تمضي الثلاثون؟

(ارقبي مطلع الهلال يا عزيزتي فإني أرقبه كل مساء لأعرف متى يحين اللقاء!

(وأترك قلبي لديك وديعة إلى معاد!)

محبك: كامل

كانت أناملها باردة كالثلج، وكانت شفتها تختلج، وكانت الصحيفة مبسوطة تحت عينيها ولا تكاد ترى؛ وأحست فجأة، وقد بلغت آخر الرسالة، مثل إحساس من يهبط من علوٍ َشاهق مغمض العينين إلى واد من أودية الجنة كان مخبوءاً عن عينيه فلما وطئته رجلاه فتّح فرأى. . .

وعادت تقرأ الرسالة ثانية وثالثة، وكل مرة تُجِدّ لها فكراً وتوقظ معنى؛ ثم طوت الكتاب برفق وأودعته غلافه، وراحت تفكر. . . وسألت نفسها: (تُرى من هو؟ وأين هو؟ ومتى رآني؟ وأين. . .؟)

وتوزعتها الصور والأوهام، وراحت تكدّ خاطرها، لتذكر وتعاقبت على مخيلتها صور ورسوم، ولكنها لم تعرف. . . أيّ حيرة؟ فتى يبلغ حبها من نفسه هذا المبلغ، فيكتم هواه عنها وعن الناس، ويقنع منها بالنظر على مبعدة وهي لا تدري؛ ويطوى جوانحه على ألم الحب، وبرجاء الوجد، وشقة النوى؛ وهي لا تعرف من أمره، ولا تسمع من خبره، ولا تحس وقع نظرته؛ حتى إذا أبعدته بعض شئون الحياة عن طريقها، وحيل بينه وبين أن يراها، غلبه الهوى على الكتمان فباح بحبه وأمانيه في رسالة.

أيُّ فتىً ذاك؟ وأين مثله في الشباب؟ يا له من رجل! وأحست الفتاة بعد فترة، أنها قد غابت كثيراً عن أطفالها؛ فأصلحت شأنها وعادت إليهم؛ ولكن خديجة التي فارقتهم غير خديجة التي عادت. . .

. . . ودق الجرس، وقامت خديجة لتودّع أطفالها وتمضي لشأنها، ولكن أين تذهب اليوم؟

وأخرجت الرسالة من حقيبتها وأخذت تقرأ. . .

(عزيزتي خديجة!)

إنه يعرف اسمها، على حين لم تكن تعرف اسمه ولا تحس وجودَه؛ بلى، وإنها إلى الساعةِ لا تعرف من اسمه إلا الكلمة الواحدة التي جعلها في ذيل كتابه؛ وكم مرة رآها، وأتبعها عينيه، واستمع إليها تحدّث صواحبها في الطريق، وهي لا تدري. .!

وعادت تقرأ:

(وفاجأني الفراقُ وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم؛ فلم أودّعك يا عزيزتي، ولم أتحدّث إليك. . . وسافرتُ وما تدرين. . .!)

وخفق قلبها، وأحست مثلَ إحساس المفارقِ حِيلَ بينه وبين الكلمة الأخيرة؛ وعضت على شفتها؛ واستمرت تقرأ وفي قلبها وجيب، وفي دمها سعار تلهب!

وجلست خديجة في الشرفة في المساء ترقب مطلع الهلال وتحصي ما بقى من ليالي البعاد!

تغيرت حياة خديجة بعد ذلك اليوم؛ فكأنما هي تعيش في دنيا غير الدنيا التي عرفتها منذ كانت؛ وتضاعف إحساسها بالحياة مذ عرفت أن وراء اليوم غداً، ورأت في عيون أولئك الصغار الذين تعيش معهم نصف حياتها - معاني جديدة لم ترها في عيونهم من قبل؛ إذ كملت في نفسها معاني الأمومة حين بزغ في قلبها الحب. وعمر ليلها بالأحلام!. . .

ولمحت طفلاً يهمس في أذن رفيقه؛ فاشتاقت أن تسمع رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همساً في أذنها فتضحك ويضحك شخص ثان. . .!

ووسع خيالها ما لم يكن يسع!

وتعاقبت الأيام، والأحلام تطاولها وتمد لها. . .

ولما خلت إلى نفسها في غرفتها بعد أسبوعين من تلك الرسالة، اعترفت لنفسها بصوت مسموع أنها تحبه، وأنها تكاد تعرفه لو رأته. . . بل إنها لتعرفه يقيناً لا شبهة فيه. . . هكذا زعمت وهي خالية إلى نفسها تحدثها! وارتسمت في خيالها صورة كاملة للرجل الذي جاءتها رسالته ولم تره قط، ورسمت لنفسها صورة أخرى من خيالها يوم تراه فتعاتبه ثم تصفح عنه!

وبقى يومان على مطلع الهلال. . . . . .

وكانت واقفة في الشرفة تستروح َروْحَ الربيع، حين سمعت رنين الجرس. . . وكن ثلاثاً من صديقاتها؛ وجلسن وجلستْ معهن في غرفة الاستقبال. ومضى الحديث يتنقل من فن إلى فن إلى فنون. . .

وقالت واحدة لجارتها: (متى زفاف أخيك؟)

قالت: (لقد أذكرتني أمراً. . . فقد أرسل أخي رسالة إلى خطيبته غداة سفره فلم تجبه؛ فغضب وكتب إليَّ يشكوها؛ وذهبتُ أزورها أمس فإذا هي غضبانة كذلك، تشكو إلى أن أخي لم يكتب لها منذ سفره. . . أرأيت. . .؟)

واعتدلت خديجة في مجلسها وقالت: (عجيبة! تقولين إنه كتب إليها فلم ترد؛ ففيم غضبها؟)

قالت: (هنا المشكلة؛ فإن رسالة كامل لم تبلغها!)

واختلجت خديجة، وهجس في نفسها هاجس، وأردفتْ صديقتها: (وبذلك كتبت إلى أخي ليعرف الحقيقة!)

واختلجت خديجة ثانية وقالت: (أتعنين. . .؟)

قالت الفتاة: (أعني أن رسالته لم تصل إلى خديجة. . .!). . .

ووضحت الحقيقة كاملة لعيني الفتاة، وعرفتْ، واستيقظت من الحلم الرائع الذي عاشت منه عُمراً سعيداً في أيام. . .

ونهضت متثاقلة إلى غرفتها لتفتح حقيبتها فتعود بالرسالة التي ضلت طريقها إلى صاحبتها لتضل هي بها. . . ثم دفعتها إلى صديقتها وهي تتمتم معتذرة. . . وتهاوت على مقعدها خائرة!

. . . وصفا ما بين الحبيبين وفاء قلباهما إلى الرضا، وتحطم قلب ثالث. . .

ولما بصرتْ بهما خديجة بعد أيام يمشيان ذراعاً إلى ذراع، أتبعتهما عينيها في ألم ولهفة، ثم دارت على عقبيها، ورجعت من حيث أتت

وعادت إلى أطفالها الذين كانوا، تلتمس بينهم العزاء والسلوى؛ فما وجدتْ أطفالها ولكن أطفاَل الناس!

واستنجدت أمومتها، فإذا أمومتها التي كانت عدتها من قبل في تأليف هؤلاء الصغار - هي أمومة الأثِر الَغَيران الذي يتشهى ولا يجد، ويرجو ولا يجد سبيلاً إلى تحقيق الرجاء!

ونظرت، فإذا طفلٌ يهمس في أذن رفيقه، فابتسمت، ثم قطبت، ثم مدت يدها إليهما بالعصا!

وهم طفل أن يناديها، فأخطأ النداء ونطق على عادته: أمي!

فلوت وجهها لتخفي عن أطفالها دمعة!

وأحس الصغار إحساس الطفولة الملهَمة فداروا بها يسألونها عما بها محزونين وفي كل عين دمعة!

ونظرت ثانية، فابتسمت وسُرَى عنها؛ ثم ضمت أطفالها إلى صدرها وهي تتمتم:

(لا عَليَّ يا أحبّائي ما دمتم معي! أنتم بنيّ وبناتي، وأنا لكم أم، أم بلا ولد!)

محمد سعيد العريان