مجلة الرسالة/العدد 351/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 351/من وراء المنظار
مجلس أدباء
طالما رغبت أن أرى هذا المجلس حتى أتيح لي هذا الحظ العظيم فقادني إلى حيث ينعقد أحد الرفاق؛ وكان المجلس لحسن حظي ليلة خففت إليه حافلاً لم يغب عنه كما علمت إلا واحد أو اثنان ممن يشتركون في حلقته
وأنا رجل طالما أحسنت الظن بالأدباء حسن ظني بالكتب فيما سلف وإن كان أكثرهم ليزعمون أني متكبر أعيش في علبة لأني ظللت حتى تلك الليلة لا أعرف أكثر هؤلاء إلا في آثارهم
جلست بين هؤلاء الشباب صامتاً أنقل بصري من وجه إلى وجه، وأتبين الأشخاص من أحاديثهم، وهم قد وضعوا أنفسهم بحكم رسالتهم في مركز وسط بين الملائكة والناس؛ ولم تمض لحظة حتى عرفت من كلامهم أولاً أنهم جميعاً شعراء؛ ثم تبين لي بعد ذلك أن كلا منهم يسمو في فنه على الباقين حتى ما يلحق به أحد وإن كان لا يصرح أحدهم بذلك، وإنما يشير إلى ذلك المعنى في لباقة عجيبة
وأعجبني منهم لعمر الحق أنهم كانوا يديرون بينهم كؤوس الثناء بدل كؤوس الصهباء إن جاز في ذوقهم هذا التعبير. فهذا يثني ما وسعه الثناء على القصيدة الأخيرة لجاره؛ وذلك يمتدح ديوان صاحبه حتى ليجعله من مفاخر العصر ومآثر الجيل، وفلان يستزيد فلاناً من طرفه. . . وهكذا يتبادلون بينهم الثناء حتى لا يتركون معنى من معانيه
ولكنني ما لبثت على الرغم من ذلك أن تبينت في حلقتهم أحزاباً، وساعدني على فهم ذلك ما عرفته من سالف كتاباتهم، فهذا شخص أعرفه من قبل قد جعل لصاب له الزعامة فيما كتبه عنه، وأراه في المجلس يقبل عليه إقبالاً شديداً فما تبدو منه نكتة إلا انطلق وراءها مقهقهاً مستحسناً مهما بلغ من تفاهتها، وما يبدي رأياً إلا انحاز فيه إليه مهما خالف فيه كل قياس وخرج به على كل ذوق. . . وهذا شخص آخر يعلم أن بين فلان وفلان حقداً وهو يحقد على أحدهما فيما أعرف فلا يزال يمتدح الآخر بكل ألوان المديح، وألمح أنا الامتعاض على وجه المغضوب عليه فأفطن وأبتسم
وأعجب لهذا التناقض الغريب، وهم كانوا قبل ذلك يبدون لي وقد ألف الفن بين قلوبه وملأها بالمحبة. . .! وينتقل بهم الحديث من تبادل الثناء ثم من اللمز إلى المباهاة والمفاخرة. فهذا تنهال عليه رسائل الإعجاب حتى ليترك بعضها دون قراءة لكثرتها؛ وذلك بتهافت على قصائده كبار الملحنين ولكنه يضن بها ضناً بالشعر عن التكسب والتبذل؛ وثالث يقول في خجل مصطنع إنه يشار إليه في كل ناد ويتهامس الفتيان والفتيات باسمه، ويرد عليهم من يذكر كيف يحرص على مودته أصحاب الصحف اليومية والأسبوعية على اختلاف نزعاتها؛ ويسكت أحدهم تاركاً لصاحبه المفتون به أن يتلو عليهم من حالاته ما يعجبون معها لشذوذه المحير، ذلك الشذوذ الذي يصل به إلى الجنون، ولكنه بأي حال لا يفسر إلا بأنه شذوذ العبقرية وجنون الملهمين، وإن كانوا ليعلمون أنه متكلف يبلغ غاية السخف في تكلفه. . .
واجتمع هؤلاء الشباب على رأي واحد، وذلك هو رأيهم فيمن سموهم شيوخ الأدب فأولئك عندهم قوم نالوا من الشهرة ما لا يستحقون، وليس فيهم إلا من يحقد على الشباب وعبقرية الشباب وطموح الشباب، ولذلك فهم يحاربونهم ويضعون في طريقهم العقبات، ولكن الغلبة في النهاية لا شك للجيل الناهض. . .
ويحمل هؤلاء الملهمون حملة صارمة على هذا البلد الجاحد ويألمون لحظهم فيه، ويتساءلون: لم أطبقت الغفلة على هذا الجيل إلى مثل هذا الحد؟ فإذا مال الحديث إلى من أصول الأدب رأيت بين هؤلاء الذين يرمون الجيل بالغفلة تناقضاً وتبايناً واختلافاً شديداً حتى ليصعب على من يقرأ مثل آرائهم أن يصدق أنهم يعيشون في عصر واحد وفي بلد واحد، وكيف يلتقي هؤلاء على ذوق أدبي والمسألة بينهم رياء وتقارض ثناء؟
وبعد أفلا يسهل على بعد أن بلوت مبلغ صدق هؤلاء بعضهم تلقاء بعض أن أصدق ما يقال عن مبلغ صدق أكثرهم في فنهم؟ ذلك الصدق الذي ترى من آياته أن ينظم أحدهم فيما رأى من جمال الربيع وهو لم يخرج من مكتبه، أو يصف الشروق والغروب والليل في القرية وهو لم ير مدى عمره قربة، أو يتوجد ويتوجع ويشتكي إلى ملهمته وهي لا توجد إلا في مخيلته! لقد أسرفنا في الهزل فمتى نجد، وبالغنا في الاستهتار فمتى نستحي؟
(عين)