مجلة الرسالة/العدد 350/حول لقب (السفاح) أيضا
مجلة الرسالة/العدد 350/حول لقب (السفاح) أيضا
ً
للأستاذ عبد الحميد العبادي
وأخيراً يدلي الأستاذ عبد المتعال الصعيدي دلوه في دلاء وينبري للبحث عن لقب (السفاح) لمن هو على التحقيق.
وقد كتب الأستاذ في هذا الموضوع ثلاث مقالات نشرت في الأعداد 346 و347 و349 من (الرسالة) الغراء. ونحن لا شأن لنا بالمقالة الأولى من هذه المقالات، لان الأستاذ ذهب يدلل فيها على إننا مسبوقون إلى تفسير لفظ (السفاح) بالمعطاء للمال، وفاته وهو يكتب تلك المقالة إننا نزلنا على هذه الدعوى عندما ثبت عندنا ان الذين لقبوا الإمام أبا العباس بذلك اللقب لم يقصدوا إلى مدحه بل إلى ذمه ووصفه بأنه سفاك قتال.
أما مقالتاه الثانية والثالثة فهما اللتان نعنى بمناقشتها اليوم.
وقد حاول الأستاذ في المقال الثاني إن يفند قولنا إن أبا العباس لم يكن سفاحاً، كما حاول في المقال الثالث أن يبين لنا كيف اختلفت الروايات في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي.
وقد كبر الأستاذ الصعيدي أن نقول: (إنا رجعنا إلى سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها فلم نجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح) فاندفع يرمينا بالغفلة الظاهرة والتجني على التاريخ ويزعم أن سيرة أبى العباس بعد الخلافة (طافحة) بسفك الدماء ولقد ظننت الأستاذ سيأتي في الأمر بجديد فإذا به يعزو إلى أبى العباس ثلاثة حوادث: أولها قتله ابن هبيرة غدراً، وهذا ما نبهت أنا عليه في أول مقال نشرته لي الثقافة في هذا الموضوع. وثانيها قتله أبا سلمة الخلال، ولم أعد أنا أبا العباس مسئولاً عن هذا الحادث شخصياً، فالباعث عليه من قبيل ما نسميه الآن بتهمة الخيانة العظمى، ولذلك لم أعتد به على أبي العباس. على أن هذا الحادث قد تولى كبره أبو مسلم الخرساني من غير مراء. الحادث الثالث قتل أبي العباس سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد أن آمنه، ولو تتبع الأستاذ قصة هذا الأمير في أقدم مظانها وأصحها وهو تاريخ ابن جرير الطبري لعلم أن الطبري يتتبع أخبار سليمان هذا بكثير من العناية والإسهاب حتى سنة 129 وثم لا يعود إلى ذكره بعد ذلك التاريخ، وسياق حديث الطبري يفيد أن هذا الأمير قتل في وقعة مرو الشاذان التي كانت سنة 129 بين جيش ابن معاوية الثائر بفارس وبين جيش ابن هبيرة أمير العراق؛ وإذاً يكون سلمان ابن هشام قد فارق هذه الحياة قبل قتله المزعوم على يد أبي العباس بنحو أربع سنوات على اقل تقدير. وإذاً لا يمكن أن ينسب من هذه الحوادث إلى أبي العباس إلا حادث واحد فقط هو مقتل ابن هبيرة، وحتى هذا لا يعدم عند تدقيق النظر توجيهاً وتأويلاً. فقد كان ابن هبيرة زعيماً عربياً قوياً، وكان له حزب عربي عظيم في مدينة واسط، وكان أبو العباس يعتقد أنه يرقب الأمور، ويتربص الدوائر ليثب وثبة ترد عليه ما ضاع منه، فرأى أن يعالجه قبل استفحال شأنه
ولما لم يجد الأستاذ الصعيدي من حوادث القتل ما يصح أن ينسبه إلى أبي العباس رأساً أخذ ينحله جرائم غيره، فزعم انه هو الذي قتل تسعين من بني أمية كانوا على مائدته بتحريض سديف الشاعر؛ مع أن هذا الحادث الفظيع إنما كان بفلسطين وهو المعبر عنه في تاريخ الطبري بيوم أبي فرطس، والمسئول عنه هو من غير نزاع عبد الله بن عليّ وحده. بل إن الأستاذ الصعيدي ليجعل أبا العباس مسئولاً عمن قتل عبد الله بن علي بالشام وداود بن علي بالحجاز وسليمان بن علي في البصرة، لأنه هو الذي (سلطهم) على بني أمية في البلدان المذكورة. وهذه قصة الذئب مع الخروف معادة بشكل آخر. ولست أدري على أي مسدر يعتمد الأستاذ في دعاه هذا (التسليط) فالمصادر لا تذكر إلا لفظ (التولية) على تلك البلدان. والتولية ليس معناها (التسليط) بطبيعة الحال. ثم أين عدالة الإسلام وأدب القرآن الذي يقول (كل نفس بما كسبت رهينة) (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ وأين مبدأ شخصية الجريمة العقوبة وهو من الإصلاحات العظيمة التي جاء بها الإسلام، وكانوا في الجاهلية ربما أخذوا القبيلة كلها بجريرة فرد واحد منها؟ الحق أن أبا العباس كما بينت في مقالاتي السابقة كان مغلوباً على أمره لأبي مسلم بالمشرق ولعمه عبد الله ابن علي بالشام، ولو رجع الأستاذ الصعيدي إلى تاريخ الطبري وقرأ فيه سيرة أبي العباس لتبين له ذلك بأجلى بيان، فلعله فاعل إن شاء الله
وقد بلغ من الحرص الأستاذ الصعيدي على اتهام أبي العباس أن وقع في تناقض عجيب حقاً. فقد كتب في مقاله الثاني يقول: (ولقد كان له (أي لأبي العباس) سفاح آخر نسيه المؤرخون، ولم يكن بأقل من عبد الله سفكاً للدماء.
ذلك هو سليمان بن علي أخو عبد الله وعم أبي العباس، فقد ولاه البصرة وسلطه على من كان بها من بني أمية، فقتل من كان بها منهم وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب) وبعد أسطر قليلة يقول الأستاذ الذي يرمينا بالغفلة: (ويطول بنا الكلام لو ذهبنا نستقصي ما سفك أبو العباس وأعمامه واخوته (مع العلم بأن التاريخ لا يعرف لأبي العباس أخوة سفاكين يسأل عن جرائمهم) من الدماء. ولقد كانوا كلهم شركاء فيما عدا سليمان بن علي فإنه كان أحنهم على بني أمية وكان يكره سفك دمائهم، ويجير كل من استجار منهم الخ) والظاهر أن الأستاذ أحس هذا التناقض العجيب وأراد أن يتلافاه فكان أعجب وأغرب، إذ عقب على الفقرة الأخيرة بقوله في هامش المقال الثاني: (هكذا روى عنه صاحب العقد وهو ينافي ما ذكرناه من قتله من كان في بني أمية بالبصرة. . . فلعل هذه الشفقة أدركته أخيرا عليهم). ولولا أن الأستاذ الصعيدي جاد فيما يقول لقلنا إنه تعمد أن يورد في هذا البحث الدامي فصلاً مضحكا يرفه به عن القراء
والواقع أن لا أبو العباس ولا عمه سليمان بن علي يمكن أن يوصفا بأنهما سفاحان سفاكان، وذلك لسبب واضح هو أنه لم يكن في العراق في وقتها أمويون يمكن أن يبسطا إليهم يد القتل والمثلة. فمن يتعمق درس التاريخ الأموي يعلم أن العراق لم يكن في وقت من الأوقات موطناً لبني أمية وبخاصة في أخريات عهدهم عندما انبثقت عليهم فيه البثوق التي زعزعت ملكهم، وكادت تأتي على سلطانهم قبل زحف العباسيين من المشرق.
إنما كان موطن بني أمية ومحل عصبيتهم الشام ثم الحجاز. فإذا سكتت المصادر التاريخية القديمة عن أن تنسب إلى أبي العباس قتل بني أمية أو قال صاحب العقد إن سليمان بن علي كان شديد الحنو على من يلجأ إليه من بني أمية، كان هذا السكوت وذلك القول هو المعقول والمتفق وحقيقة الحال. وإذا اقتصر الطبري على ذكر من قتل الأمويين إنه إنما كان في الشام والحجاز كان ذلك منطبقاً على الحقيقة والواقع
مما تقدم يرى القارئ أن الأستاذ الصعيدي على عنف محاولته (إدانة) أبي العباس وتسويغ تلقيبه بالسفاح لم يكن موفقاً، بل هو لم يخرج في واقع الأمر قيد شعرة عن مضمون قولنا: (إن سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها لا تسوغ تلقيبه بالسفاح بحال من الأحوال)
ولننتقل الآن إلى مناقشة موقف الأستاذ الصعيدي من المصادر واختلافها في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي. وهو موقف عجيب حقاً، فالأستاذ الصعيدي ينظر إلى المؤرخين والأدباء الذين تعرضوا لسيرة أبي العباس وأخباره نظرة واحدة، ويضعهم في مرتبة واحدة من حيث العدالة والضبط والحجية، لا فرق عنده بين متقدم ومتأخر، وبين متخصص في الرواية التاريخية وغير متخصص فيها، وبين من يتتبع الرواية بإسنادها إلى من شهد الواقعة ومن يتسقط الأخبار من هنا وهنا. وما هكذا كان السلف الصالح من علماء المسلمين. فإنهم كانوا يزنون الرجال والأخبار بأدق موازين النقد؛ وما علم الحديث منا ببعيد، فقد رجحوا كتب البخاري على غيره من كتب الحديث، لأنه أقل من غيره رجالاً تُكلم فيهم بالضعف، وأقل من غيره أحاديث شاذة أو معلولة. فإذا جئنا إلى التاريخ، وجدناهم يقولون: إن أصح التواريخ تاريخ ابن جرير، وإن كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري لم يؤلف مثله في موضوعه، وإن طبقات ابن سعد أقدم وأعظم كتاب في السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين. وقالوا في ابن قتيبة إنه قليل الرواية
ولقد أدى هذا الموقف الأستاذ الصعيدي إلى نتيجة هي عجب من العجب، فالمصادر التي لقبت أبا العباس بالسفاح صادقة لأن، أبا العباس عنده سفاح، والمصادر التي لقبت عبد الله بن علي بنفس اللقب صادقة لأنه كان سفاحاً. والمصادر التي سكتت عن تلقيب هذا أو ذاك باللقب المذكور لا يصح الطعن بها في رواية المصادر التي ذكرت هذا اللقب (لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ) وهي قاعدة مشهورة عند الأزهريين ويقول الأستاذ إنه ليمكن أن أجادل فيها. وأنا لا أجادل في القاعدة ولكن أجادل في تطبيقها فليس هذا محل تطبيقها، والمسألة ليست مسألة حفظ وتضييع، وإنما هي مسألة تخليط وعدم تخليط، فهل يسلم الأستاذ بقول من يقول (إن من خلط حجة علي من لم يخلط)؟
أما نحن فنظرنا إلى المصادر نظرة نقد وتقدير كما فعل الأقدمون من علماء الحديث؛ فوجدنا أن أقدمها وأوثقها وأشدها تخصصاً بالرواية التاريخية لا تلقب أبا العباس بالسفاح، وتصور هذا الخليفة في الصورة التي أجملناها غير مرة، ووجدنا المصادر التي شوهت صورة هذا الخليفة ولقبته بالسفاح ونسبت إليه الفضائع هي من وضع رجال ليسوا متخصصين في الرواية التاريخية الجدية ولا معروفين بالعدالة والضبط الذين يعرف بهما أصحاب الرواية التاريخية القديمة كابن سعد والبلاذري والطبري وغيرهم. هذا هو موقفنا بإزاء المصادر القديمة من حيث موضوع (السفاح)
وبعد فلئن كنت حزنت لشيء وأنا أقرأ هذا المقال الثالث والأخير للأستاذ الصعيدي فلقد حزنت للعبارة التي علق بها على جملة لابن العبري المؤرخ المسبحي المتدين الزاهد. فقد قال ابن العبري: (وكان أبو العباس رجلاً طويلاً ابيض اللون حسن الوجه يكره الدماء ويحامي على أهل البيت) فعلق الأستاذ الصعيدي على ذلك بقوله: (إن هذا لا يراد منه إلا كراهته لدماء أهل البيت وحدهم) مع أن المؤرخ وهو يترجم لأبي العباس لم يسند إليه حادثة قتل واحدة، ومع أنه في تاريخه السرياني المطول والمترجم إلى الإنجليزية لا يلقبه بالسفاح مطلقاً.
عبد الحميد العبادي