مجلة الرسالة/العدد 35/الى خراسان
مجلة الرسالة/العدد 35/الى خراسان
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
من رحلة قام بها الأستاذ سنة 1933 إلى تركية والعراق وأفغانستان
إلى بحر الخزر
قمت من طهران شمالا صوب بحر الخزر، مسافة ستين فرسخاً أو نحو أربعمائة كيلومتر، كانت المناظر في النصف الأول منها مألوفة:
ربى تتوسطها هوى من ارض مهملة، وما كدنا نوغل في النصف الأخير حتى زادت عقد الجبال في صخرها الاغبر المنحل وغالبه من الجير الذي اسود بمضى السنين، وكثرت الالتواءات الأرضية وزادت طياتها وأخذ الطريق يعلو ويهبط ويلتوي على نفسه مرات متعاقبة في وعورة لم نعهدها من قبل. بعد ذلك بدأت صفحة الجبال المعقدة تتغير معالمها إذ كساها الشجر القصير في تفرق أعقبه تلاصق عاجل، وما نشعر إلا ونحن نوغل في غبابة كثيفة ذكرتني بمناطق الغابات الافريقية، وكنا بجانب وادي نهر يسمونه (النهر الأبيض) يتلوى ليات متعاقبة وسط تلك الجبال اللا نهائية، وكان ماؤه آسنا إذ يفيض بالماء إبان الشتاء حين تكثر الثلوج التي تكسو تلك الجبال - جبال البرز - ولقد ظلت المناظر رائعة ساحرة خلاف ما عهدناه في ربى إيران المنفرة التي عريت عن النبت، ونضبت مياه مسايلها، وكانت بعض الوهاد وما يزينها من قرى صغيرة أشبه ببلاد اسكندناوه وسويسرة، علىأن الشجر مختلف إذ لم أر للصنوبر من أثر حتى في أعالي الذرى، وكله من أشجار المناطق الحارة تكثر حوله الطفيليات والأعشاب المتسلقة التي تسد الغابة سداً ولذلك يطلق عليها القوم كلمة (جنجل) الإنجليزية، وكلما قاربنا بلدة (الرشت) بعدت الجبال وانفسح السهل وغص بالقرى والمزارع التي شهرت من أجلها البلدة وبخاصة في الأرز والطباق، وهذه الناحية أشهر بلاد فارس الزراعية. أخيراً دخلنا الرشت التي كانت عاصمة بلاد الديلم قديما، وهي اليوم عاصمة مقاطعة (جيلان) الفارسية فبدت مدينة عامرة أخف روحا من طهران نفسها، وقد حاكت المدن الأوربية، ويظهر أنها تأثرت طويلا بالروس يوم كان لهم النفوذ في هذه المنطقة، لذلك كانت جموعهم كثيرة، نساء ورجال واللغة الروسية يعرفها الجميع إلى جانب لغتهم الفارسية. وغالب البيوت من طابق واحد تظهر وكأنها أقيمت كله من جديد، وهي ذوات سقوف متحدرة يكسوها الآجر الأحمر خلاف ما شاهدنا في سائر جهات فارس، ذلك لان مطر المنقطة غزير يفوق مقداره المتر، ويعزى إلى رياح شمالية غربية سائدة تهب من بحر الخزر على تلك المرتفعات فتدفعها مطرا وتسكو ذراها ثلجا، وتزيدها في الشتاء أعاصير البحر الأبيض التي تندفع من بحر قزوين إلى بحار الهند الدافئة خفيفة الضغط ويظل المطر زهاء ثمانية شهور ولم تخل السماء من الغيوم وكان الجو أميل إلى الرطوبة حتى في هذا الفصل الجاف، لذلك قل بها التراب الذي كان ينغصنا في بلاد فارس كلها، وكان جوها لطيفا محتملا عن جو طهران، إلا إذا انكشفت الشمس فعندئذ يصبح الحر شديدا. على أن الجهة تعرف بكثرة الأوبئة والحميات بسبب الحرارة والرطوبة معا، وقد زادها حرا أنها على منخفضات بحر الخزر التي تنخفض عن مستوى البحر بنحو خمسة وعشرين مترا لذلك يجري القول على لسانهم: ماذا أذنب فلان حتى يولى حاكما على الرشتت. على أن حظي كان موفقا إذ كانت أيامي هناك أجمل أيام قضيتها في إيران كلها. وفي المدينة مجموعة من متنزهات منسقة تقوم به المقاهي، وفيها تسمع الموسيقى الشجية وقد اختلطت الأنغام الفارسية بالروسية، وكلاهما مما تستريح له آذاننا.
أقلتنا السيارة إلى بهلوي على شاطئ بحر الخزر - ولا يسمونه هناك بحر قزوين أبداً - فكان الطريق يمتد أربعين كيلومترا وهو يتولى وسط الإحراج المغلقة يؤمها النمر والحيوان المفترس ومن أعجب ما رأيت فيها الكروم البرية التي كانت تنمو في كل أرجائها ومنها نقلت كروم أوربا. اخذ الشجر ينضمر ويندر كلما قاربنا البحر ثم انعدم، وأضحت السهول تكسى ببساط من خضرة إلى البحر، وكانت بيوت القوم أخصاصا من الأعواد والخشب يكسوه القش الثقيل في شكل مخروطي أو متحدر السقوف، كأنها مساكن الغابات الاستوائية على ضاف فكتوريا نيانزا. والقوم يستأصلون الاحراج في مسافات يزرعونها من الأرز والطباق والقطن والكتان، والعمل يقع كله على السيدات اللاتي كن يظهرن في ملاءات بيضاء ناصعة وقد استرعى جمالهن نظري، فهو مخالف للسحن الفارسية البحتة ويظهر أن اختلاط الروس بالفرس هناك اكسب أولئك جمالا عالج كبر الأنف الفارسي، وأشرب اللون الفارسي الأبيض بعض الحمرة الروسية الجذابة، والناس في تلك الناحية يمونون أنفسهم بكل شيء من عمل أيديهم حتى الملابس ينسجونها من القطن والكتان والحرير - وهم يربون دود القز بكثرة
دخلنا بهلوي فكانت بيوت الفقراء اخصاصا، على نمط تلك التي في الغابات، يحفها سور من غاب، وعلى البحر أقيمت الميناء بروافعها وبواخرها وزوارقها، وتلك الناحية يسمونها (غازيان) وإذا ركبت البحر أقبلت على شبه جزيرة تبدو عليها المباني الفاخرة والشطآن المنسقة، وهذه هي بهلوي أو أنزيلى القديمة، ركبت البحر إليها في ربع ساعة، وإذا بها آية في التنسيق والنظافة، بيوت فخمة، وطرق مرصوفة، ومتنزهات عدة، وقد مدت على شواطئ البحر الحدائق والمقاهي، فكنت وأني في إحدى مدن الرفييرا تماما. وفي الحق أن تلك الناحية من فارس فريدة، تختلف عن سائر جهات فارس في كل شيء: في طبيعة الأرض، وفي الجو، وفي النبت، وحتى في أهلها فهم أكثر نشاطا وجمالا. أما الناحية الخلقية فهي هنا أكثر فساداً، ولا شك إن للإباحية الروسية أثراً كبيرا في هذا
ولقد حققت حلما طالما جال بخاطري هو أن أركب بحرر الخزر - بحر طبرستان قديما - وأطوف بسواحله ذات الطبيعة المختلفة من غابات كثيفة تغص بها سواحله الجنوبية، إلى غابات جبلية في غربة، إلى كلأ وعشب صحراوي في شرقه، إلى أرض ملحة مهملة في شماله. لكن الشبح الروسي لم يتح لي التجوال كاملا فلبثت اليوم كله أجول في مياهه الفارسية، وقد كان ماؤه هادئا، على أنه إبان العواصف يعلو موجه ويضطرب، وقد تذوقنا ماؤه فإذا به نارد الملح على خلاف ما عهدت، فخلنا أن ذلك راجع إلى قرب المصاب العذبة. لكن القوم يعرفونه أميل إلى العذوبة في كل أرجائه وأيدوا رأيهم بكثرة أسماكه نوعا وعدداً. ولذلك كانت مصائده هامة للدولتين الفارسية والروسية، حتى أضحى السمك الغذاء الرئيسي، فهو والأرز عماد الطعام، وقد كان لهما أثر حسن في أجسام الأهلين، فهي ممتلئة ولم أعثر على القامات الطويلة والأجساد السمينة إلى في تلك الناحية من فارس كلها
اصحبنا يوم الجمعة والجو جميل، والسماء تنتثر بالغيوم بعد أن أمضينا ليلتنا في نزل (سافوى) في الرشت، وهو يطل على ميدان البلدية، تمتد منه الطرق المستحدثة، تزينه المتنزهات، والمنظر من شرفه النزل رائع: السماء تنقشها السحب، والخضرة تمتد إلى الآفاق، والمباني حولنا أنيقة، وجماهير الناس في أنظف ثيابهم - لأن يوم الجمعة يوم الراحة القومية. يروحون ويغدون في كثرة تسترعي النظر ولا يخلو الجمع من طائفتين الغانيات في ازرهن السوداء المهفهفة والمتسولين الذين يمسكون بتلابيبك ويصيحون في نغمة البائس المستميت، واكّفهم مبسوطة وكثير منهم من يظهر في هندام نظيف ووجه مشرق، يدل على أنهم على شيء من اليسار، لكن التسول أضحى في القوم عادة متأصلة ذميمة. وكثير من مباني الرشت وبهلوي بالخشب لكثرة الغابات حولهما، لذلك ترى في كل برجاً عالياً يظل فيه الرقيب صباح مساء لينذر بالحريق إذا ما بدا دخانه أو لهيبه في أية ناحية من البلدة.
قمنا مودعين تلك المنطقة البديعة التي تصلح للراحة في الربيع والخريف. وأخذت سيارتنا تشق الخضرة التي زادت كثافتها تدريجا، وبعد ثلاثين كيلومتراً بدت جبال البرز، أعني أن السهول تمتد إلى بحر الخزر سبعين كيلومترا؛ وكانت الأشجار الكثيفة تغطى الجبال إلى أعلى ذراها، والربى تبدو مدرجة الواحدة وراء الأخرى، وسحاب السماء يكاد يلامسها وإن لم يبد للثلج فوقها من أثر. وكانت طيات الوديان بمائها الشحيح تختفى وراء النجاد تارة ثم لا تلبث أن تتكشف في مباغتة تقر لها العين. وكان المنظر العام ونحن وافدون من الرشت أروع منه لمن يدخل البلدة قادماً من طهران. وظل جلال الغابات حولنا زهاء خمسة وعشرين كيلومتراً، ثم ندر الشجر وانعدم فجأة، وأضحت عقد الجبال قاحلة منفرة مسافة ذرعها سبعون كيلومترا، كان الطريق فوقها طيات قاسية رهيبة، خصوصا في ضوء القمر الشاحب، وفي سكون الليل الرهيبة.