مجلة الرسالة/العدد 349/من وراء المنظار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 349/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1940



مجلس ظريف

شهدت من كثب ذلك المجلس في مقهى، ومن عجب أن تقع عيناي على مجلس ظريف في مثل ذلك المكان. أقول ذلك وإن عجب القارئ لقولي؛ على أني أرجو منه المعذرة، فأنا أكره المقاهي حتى ما أطيق الجلوس فيها إلا لضرورة. ولئن أنكرت وجود مجلس ظريف في أحدها فمرد ذلك إلى جهلي بها لا ريب في ذلك. . . ولست أدري لم أسأل نفسي أبداً كلما مررت بمقهى: أيتفرج الجالسون فيه على السابلة، أم هم أنفسهم صنف من المعروضات يتفرج عليهم المارة فيما يتفرجون عليه من معروضات الشارع؟ أما عن نفسي فأنا أتفرج دائماً على هؤلاء الجلوس ضاحكا؛ وكم يذهب خيالي في تصويرهم لي مذاهب لن أطاوع قلمي في ذكرها

ذهبت في المساء أطلب في أحد أطراف المدينة فملت إلى مقهى هناك كاد يكون خالياً، وقد اجتذبني ما بدا لي من هدوئه. وجلست وحدي في ركن من أركانه أمني النفس بجلسة تعيد لي خيال منعزلي في القرية؛ ولكني لم أكد أستشعر الهدوء حتى أقبل جماعة لم أشك أنهم من طالبي الهدوء مثلي. وآية ذلك أنهم كانوا يضحكون في جلبة شديدة، ويقطع بعضهم على بعض الحديث قبل أن يأخذوا أماكنهم! ورأيتهم جلسوا في نصف دائرة أمام واحد منهم جعلوا له الصدارة، وقد دل مظهره على إنه جدير بهذه الصدارة. والحق لقد كان في مجموع شكله يخيل إلي إنه نكتة تمثلت بشراً!

وبدأ الحديث أو قل استمر، فهم لم يمسكوا منذ رأيتهم مقبلين. وكأنما اعتزم هؤلاء أن يضحكوا أكثر ما يستطيعون من الضحك كما لو كانوا واثقين أن هذه آخر فرصة للضحك في حياتهم!

كانوا إلا واحداً أو أثنين قد جاوزوا الأربعين بقليل كما تراءى لي. أما كبيرهم فأحسبه كان يحبو للخمسين من عمره المبارك، وكانوا جميعاً يشتركون في صفة واحدة؛ ذلك أن عليهم طابع الديوان، فما تلبث العين - ولو بغير منظار - أن ترى فيهم نفراً من هؤلاء الذين يتربعون أمام المكاتب أثناء النهار وقد ارتسمت على وجوههم إمارات الجاه واتضحت دلائل الحكومة ودار حديثهم أول ما دار حول (عزومة) كانوا خارجين منها لتوهم، فلم أسمع إلا النكتة تتلو النكتة. ولقد غابت عني لسوء حظي أكثر هاتيك النكات فيما كان ينطلق من أفواههم من قهقهات عالية متواصلة! ورأيتهم يرسلون ضحكاتهم العريضة قبل النكتة وبعدها، فما تنفرج شفتا زعيمهم حتى تنبعث الضحكات مجلجلة من بين شفاههم، وإن لم يسمعوا ما يقول. فلقد كان يضحك الواحد منهم أحياناً ملء شدقيه، ثم يميل على جاره يسأله: ماذا كانت النكتة؟ وكانت تسمج بعض النكات، ولكن الضحك يظل على حاله من الشدة، حتى لا أدري أيحمل هنا على المجاملة أم أن سخف النكتة إذا اشتد قد يكون في ذاته باعثاً من بواعث الضحك منها؟ على أنني رأيت للمجاملة هنا شأناً كبيراً، فكل من هؤلاء يضحك لكي يضحك لقوله الآخرون بدورهم، وإن جاوز في السخف أبعد حدوده. . .

ومن غريب أمر هؤلاء الظرفاء أنهم لم يتورعوا عن ذكر اسم مضيفهم المسكين أكثر من مرة، ولم يتركوا شيئاً مما قدم لهم من الطعام، ولا مما رأوه من متاع بيته إلا جعلوه موضعاً لظرفهم وقلبوه على أوضاعه جميعاً، فهذا زفت مجسم سمي (بالكفتة)؛ وهذه (الفتة) كان ينقص أن تقدم في طست الغسيل؛ وهذا الصنف جيء به من (المسمط)، وهذا الخبز سيسأل عن تقديمه لهم بين يدي الله، أو ذلك البرتقال من (سوق الكانتو) وتلك الأطباق والملاعق لاشك وقف عزيز من أوقاف المرحوم جده. . . وأنه إذا أراد أن ينتقم غداً من الرئيس فلان فليس أبلغ في الانتقام منه من أن يدعوه إلى مثل هذه (الأكلة). . .

وليتهم استمروا فيما هم فيه، ولم يخرجوا منه إلى استعراض الكثير غيره من أعراض الناس في مجلسهم الظريف، وللحديث شجون كما يقولون، وليس يبالي هؤلاء القوم في ساعة (حظهم) إلى من يتطرق الحديث، ولا أي موضع يتناول

وشبعت نفسي مما طلبت من هدوء، فانصرفت مسروراً برؤيتي هذا المجلس الظريف؛ وأنا أقول في نفسي كم يوجد من أشباه هذا المجلس الظريف ونظائره في الطبقات الأخرى من المجتمع وفي غير أركان المقاهي من النواحي، فما تلك المجالس إلا براهين قاطعة على أننا قد بدأنا نأخذ أنفسنا بالجد من الأمور، وأننا إذا لهونا فإنما نحسن اللهو كما نحسن الجد في هذه الحياة.

(عين)