مجلة الرسالة/العدد 349/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 349/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1940



نهاية الطريق

للكاتب المعروف دي فيرستاكبول

للأستاذ محمد بدر الدين

في سنة 1913 كنت أجول في أنحاء إيطاليا، أطوف بمواطن الروعة والجمال فيها. . .

وكنت أستقبل فصل الخريف، حين خلفت روما ورائي، وسرت نحو جبال الأبنين، دون أن أحمل من المتاع سوى حقيبة صغيرة، ودون أن أترك عنواني لأحد، كيلا أدع الفرصة لشخص يراسلني، فمن الخير أن تطوف وحيداً، إذا أردت أن تشاهد بلداً من البلدان أو أن تدرسه خير دراسة

انطلقت في طريقي وحيداً لا ترافقني غير مزارع الكروم والحقول المخضوضرة النضرة، والسماء الزرقاء، و. . . فلاحي إيطاليا ذوي البشرة السمراء، لوحتها أشعة الشمس الحامية. فاستطعت أن أرى إيطاليا تتكشف أمامي على حقيقتها، وإذا بها رغم الطرق الحديدية التي تخترق أرجاءها، ورغم مخترعات ماركوني المنبثة في بقاعها، لا تزال نفس إيطاليا القديمة، التي كانت في عهد آل بورجيا

وفي ذات أصيل، أفضت بي الطريق إلى فندق قام في معزل إلى اليمين، لا يلوح إلى جواره منزل أو بناء، وكأنما أقيم في مكانه هذا ليرحب بالقادمين الذين أنهكهم المسير، وليغريهم على التماس الراحة، وعلى استعادة النشاط في كأس مترعة من الشراب. . .

أغراني الفندق المنفرد في عزلته، والذي بدت لي عند بابه حروف زرقاء باهتة ألهبها شواظ الشمس، تعلن عن اسمه. . . (أوستريا ديل سولي) فتقدمت، فإذا بكهل يجلس إلى يمين المدخل، على مقعد طويل، يمتع النفس بشمس الأصيل. وقد استلقت إلى جواره قطة سوداء. وما لبثت أن عرفت فيه صاحب النزل الذي قدم نفسه إليّ باسم (الفريدو باولي). . . وسرعان ما كنا نجلس في غمرة الأشعة الدافئة، نتجاذب أطراف الحديث، ونحن نجرع خلاله كؤوس (الكيانتي) الذي قدمه الرجل إكراماً وترحيباً. . .

تكلمنا عن إيطاليا، وعن محصول الكروم، وعن الضرائب، وعن ذكرى غاريبلدي. . .

الذكرى التي عادت بالرجل إلى سني عمره الباكرة. وما لبثت أن عرفت أن المدينة التي كنت أسعى إليها، تبعد عن النزل بما يعادل ستة أميال. فاقترح الرجل أن انزل عنده تلك الليلة، وراح يغريني بما سوف أجده في حجراته من نظام وراحة ونظافة، قائلاً:

- إنه ليس بالفندق العادي. . . فنحن هنا لا نرتقب من الضيفان غير الرحالة الذين يدفعهم النصب إلى التماس كأس من الشراب. ولكن حديثك يطيب لي، حتى لقد ملت إليك، فأنت على الرحب والسعة

كان ينبغي لرحالة مثلي يجوب البلاد على قدميه حاملاً معه مالاً، أن يخشى من وراء دعوة كهذه شراً، أو أن يتوقع غيلة من أجل هذا المال الذي يحمله. بيد أنني لم أك بطبيعتي ممن يستسلمون للهواجس والريب، كما أنني لم أر في باولي العجوز، الشخص الذي يستطيع الإقدام على سرقة أو قتل. . .

ومع ذلك فقد سلبني نوم ليلة. . . وقتل راحة كنت أنشدها فما أن قبلت دعوته حتى اضطجع في مجلسه ونادى صائحاً:

- جيوفانا!

فأجابه صوت نسائي من داخل الدار، ظهرت على أثره امرأة رزح ظهرها تحت عبء السنين. فأمرها - والشمس ترسل شعاعها الأخير - أن تعد العشاء، وأن تهيئ الحجرة كما تملي واجبات الضيافة، فتلقت الأوامر صامتة، ثم كرت عائدة إلى الداخل، بينما تحولنا إلى حديثنا عن غاريبلدي نتابعه

فلما فرغنا من تناول العشاء، عدنا إلى مقعدنا خارج الدار ثانية، وراح الكهل يقص عليَّ قصته. . . قصة شبابه التي لم أسمع في حياتي مثلها، ولم أصغ لقصة من قبل أو. . . بعد، إصغائي لها فقد مضى يتكلم كما لو كان يفضي بقصة سواه، وقد لاح كما لو كان الزمن قد حوله إلى كائن يغاير كل مظهر إنساني، تتخلل حديثه حيوية المتفنن الذي يتفانى في عشق فنه، وحرارة الخطيب يحاول أن يأسر بفصاحته وبلاغته ألباب المستمعين. . .

قال: ولدت في بيروجيا، وهي غيرها اليوم، وكان والدي تاجر عاديات، يقوم متجره على ناحية الطريق التي تصل ميدان البابا برحبة واسعة تتراءى خلفها تلال (أومبريان)

ولقد يخيل إليك - لأول وهلة - أن الموقع كان رديئاً. بيد أن والدي لم يكن بالرجل الذي ينصب شراكه في مكان غير ملائم، إذ كان يعرف كيف يجتذب العملاء ويغري الزائرين على الابتياع منه.

وكانت أسرته تتكون من ابنين. . . أنا وأرتورو، وقد كنا توأمين متشابهين كل الشبه. غير أن أرتورو كان ذا روح مغامرة، حببت إليه البحر، فما لبث أن غدا بحاراً، بينما مارست أنا - وكنت أكبره بخمس عشرة دقيقة - تجارة العاديات، فصرت مساعداً لأبي

كانت المهنة - رغم أنها تتطلب دراية تامة بالأشياء وبنفسيات الأشخاص - تعتمد كل الاعتماد على الخبرة التامة بتقدير ثمن السلعة والتأكد من أنها حقيقية غير زائفة، وقد كانت لوالدي هذه الخبرة بالسليقة، إذ أنحدر من سلالة تعشقت هذا الفن، هواية أو احترافا. . . كما كانت لي نفس الخبرة إلى حد ما، فقد كانت إيطاليا القديمة تتمشى في دماء والدي، كما كانت تسري في عروقي بكل ما كان فيها، وبكل ما كانت تتميز به، و. . . بكل ما عرف عنها من عواطف ومن حقد وكراهية. . .

وسارت الحياة سهلة لينة، حتى بلغت العشرين ربيعاً، وإذ ذاك جاء يوم تغيرت فيه حياتي

ففي ذات يوم، قابلت في طريق (دي بونتمبن) فتاة كثيراً ما صادفتها من قبل، وطالما تلاقيت وإياها في بعض المناسبات، إذ كانت تصلها بي قرابة بعيدة. وكانت تسكن في ذلك الميدان الذي يطلق عليه الآن اسم (فيكتور عمانويل). . . ثم كانت تنحدر من أسرة نشأت في جنوا. فأضفى عليها أصلها هذا، جمالاً أشقر رائعاً، تبدى لي في ذلك اليوم في أبهى روعته. . . فقد تمثلت لي يومذاك، فتنة الشباب، وجمال الربيع، في (جيوفانا باتسيتا)، ولاحت لي، مع أنني كنت أعرفها - كما ذكرت - وكأنني لم أرها قبل ذاك اليوم. . .

وبالرغم من أنني كنت أحس جمالها. . . إلا أنه لم يبعث في نفسي يوماً أكثر من إعجاب وقتي، لا يلبث أن يتلاشى. . . أما في ذلك اليوم، فقد لاح لي أكثر فتنة وسحراً. . . فما هي إلا نظرة من عينيها حتى وقعت في شراكها. . .

وحتى هذه اللحظة، لم يبد لي الأمر جدياً يثير اهتمامي، فلو أنني سمعت إذ ذاك نبأ موتها، لما نال مني كثيراً. . .!

لم أقل لها إذ ذاك شيئاً، ولم أنبس ببنت شفة، بل مضيت في سبيلي، كشخص عثر بغتةً على كنز في طريقه، فأسرع يخبئه في ثنايا ردائه، وانطلق بجد في خطاه نحو بيته. . .

حتى إذا كان اليوم التالي، قابلتها مرة أخرى. . . وفي هذه المرة أيضاً، أفضت إلي عيناها بما لم أجرؤ أن أصدقه. .

كنت حديث عهد بالهوى، فلم أدر ما أفعل. . . ولو أنني خلوت بها في مكان ناء لكان في وسعي أن أقدم على تصرف سريع، دون أن أتفوه بحرف واحد. أما وقد كنت في بيروجيا فلم يك أمامي غير أن أزورها حيث تسكن، أو أن أبوح لها بحبي على قارعة الطريق، في جرأة أستمدها من أناة أتذرع بها. . .! وما كنت لأجد في نفسي هذه الجرأة، فما عتمت أن تحولت تاركا الأمور تجري في أعنتها. . . ولكنها لم تلبث أن غادرت المدينة!. . .

لم تك غيبتها هذه إلا نزهة قصيرة ما كانت لتستغرق الشهر أبداً، بيد أنني كدت أقضي حزناً وأسى، إذ أذكى البعاد أوار الحب في قلبي، وأصبحت أرى في البقعة التي كنت أصادفها عندها، قبلة أحج إليها. كما كنت أقف في الأمسيات أمام دارها، وقد غمرني شعاع القمر، والوجد يلهب أحشائي، والأسى يمزقني بأنيابه الحادة القاسية. . . حقاً، إن الحب جنون!. . .

لست أود أن أثقل عليك، ولكنني أحببت أن أريك كيف شاء القدر أن يسعى للقضاء علي. . .

وأمسك الرجل برهة ليفرغ في جوفه بقية كأسه، بينما انبعث صوت العجوز من داخل البيت:

- الفريدو. . . إننا الآن في ساعة متأخرة

فضحك سائلاً إياها أن تدعه وما يشاء، ثم عاد يتابع حديثه:

- برح بي الهوى حتى لم يبق مني غير هيكل بال لرجل ضعيف. فلم أعد أهتم بالعمل، أو آبه للفن حتى لطالما اشتجرت مع والدي إذ أضعت عليه كثيراً من الصفقات المربحة

ولو أن الأمور سارت على هذا المنوال، لغادرت بيروجيا إذ ذاك مطرحا عملي، هاجراً موطني. غير أن الأقدار أشفقت علي، فساقت إلي الشفاء يوماً. فقد عادت جيوفانا إلى المدينة، وقابلتها في الطريق، فلم أتردد في البوح لها بما يعتلج بين جوانحي من غرام. فأطرقت تصغي إلي برهة، ثم تحولت فحدقت في عيني، وابتسمت

عند ذاك، أيقنت أنها أصبحت لي، فصرت رجلاً آخر. . .

كانت ثروتي وفيرة لا بأس بها، وكانت أخلاقي حميدة لا عيب فيها، فلم أجد معارضة من والدي جيوفانا عندما تقدمت لطلب يدها. وصار لنا أن نلتقي كل مساء، فننعم بجولة بديعة خارج المدينة، عند الكروم الغناء. . . ملتقى العاشقين. . .

وقررنا أن يكون الزواج في الصيف. . .

ثم حان عيد (الكرنفال)

كان (الكرنفال) في تلك الأيام الخوالي أكثر مرحاً وبهجة منه الآن. فكان الناس يطرحون عنهم شؤونهم، وينصرفون عن كل شيء، ليندمجوا في ملاهيه وأفراحه

وفي آخر ليالي (الكرنفال) كنت على موعد مع جيوفانا عند بقعة قريبة من (دومو)، وقد حلا لها أن تتنكر في رداء غانية أسبانية، بينما اخترت أنا للباسي حلة مزركشة وقناعاً قرمزياً. ولما كانت صحة والدي معتلة فقد لزم البيت طيلة اليوم بعد أن أخبرته بالأماكن التي أعتزم ارتيادها، وبالمواقيت التي سأكون فيها هناك، حتى يكون في وسعه الاتصال بي، إذا كانت ثمة حاجة لهذا الاتصال

كان موعدي مع جيوفانا في الساعة السادسة إلا عشر دقائق عند (فونتي مادجيوري) على مقربة من (دومو). وقد يخيل إليك أنني كنت هناك قبل الموعد شأن كل عاشق مستهيم. . . بيد أنني في الواقع وصلت إلى مكان الملتقى متأخراً. إذ كان بساعة صديقي مانفريدي الذي قضيت عنده فترة الظهيرة، خلل جعلها تؤخر في الوقت. بينما تعمدت أن أترك ساعتي في البيت خشية أن يسلبنيها اللصوص الذين كانوا يندسون وسط المهرجانات في مثل هذا العيد. . . فلما وصلت إلى فونتي مادجيوري، كانت النواقيس تدق، فلم أكد أصدق سمعي، ولا بصري، عندما ترامت الدقات إلى أذني، ولم أجد جيوفانا. . .

ثم حدست ما وقع. . . فلابد أنها حضرت في الموعد، حتى إذا لم تجدني انصرفت عائدة. ولو أنني فكرت في هذا، لأدركت مدى استحالة بقاء فتاة وحيدة في الانتظار عند فونتي مادجيوري في ليلة العيد، ولأنحيت باللوم على نفسي بدلاً من أن أسمح للغضب أن يطغى فيجتاح قلبي. . .

كنت أعلم أن جيوفانا رغم ليونتها ورقتها، ذات طباع حادة قاسية. فظللت واقفاً أتلفت حولي وهذه الفكرة توحي إلي بما يذكي نيران الغضب ويزيد شعلتها لهيباً. بينما كان القوم يمرون بي في طريقهم إلى الساحة لمشاهدة موكب العيد، وهم في أحاديثهم وضحكهم عني لاهون. . . ثم تحولت إلى حانة، فاتخذت لنفسي فيها مجلساً، وطلبت شراباً قوي التأثير، رحت أحتسيه وأنا غافل عن رجل أسمر، كان يجلس إلى منضدة قريبة. . .

لم أسرف في الشراب قط مثلما أسرفت في تلك الليلة. فقد لاح لي الكحول ساحراً بدد غضبي وأبدل به شيئاً من اليأس، الذي لم يلبث أن تحول إلى شعور من عدم المبالاة. وسرعان ما تناسيت جيوفانا، واندمجت في الحديث مع الرجل الأسمر، الذي عرفني وناداني باسمي، يدعوني إلى مجالسته

كان الرجل أحد تجار التحف في بيزا، وقد رأيته في متجر والدي يومذاك، إذ ذهب - رغم العيد - يسعى وراء صفقة. بيد أنه لم يحظ بفائدة لمرض والدي. وكانت لديه تحف رائعة ثمينة يبتغي بيعها بثمن بخس، إذ حصل عليها في سرقة ارتكبها فوجد أن من الخطر استبقاءها في حوزته في بيزا. وقد أراني منها بوديني - إذ كان هذا اسمه - صليباً من الذهب المرصع ببعض الأحجار الكريمة، وقرطاً، وخنجراً من الخناجر الفلورنتينية ذا مقبض فضي. فعرضت عليه أن أبتاعها منه، غير أنني لم أك أحمل الثمن الذي ابتغاه. فلم يأبه لذلك، إذ كانت معاملاته معنا على ما يرام لذلك تناولت منه هذه الأشياء، فوضعت الصليب في صدر ردائي، ودسست الخنجر - وقد غاب في قرابه - في جيب خفي. . .

وما أن فارقني بوديني، حتى عدت ثانية، نهبة للهواجس وفريسة للهموم. ولما بارحت الحانة، كانت الأضواء تتلألأ مؤتلقة في المدينة وقد تصاعد ضجيج الجماهير المندمجة في مهرجانات (الكرنفال) كهدير الأمواج الصاخبة. فوقفت برهة موزع الخاطر متحيراً، ثم تحولت نحو ساحة الاحتفال، وأنا أسائل نفسي. . . أما كان يحسن بي أن أيمم شطر بيت جيوفانا؟. . .

لاحت لي المدينة كمجنونة اكتسحتها نشوة الفرح التي يبعثها العيد، وقد تراءت كشعلة من النيران، وبدا الناس وهم صرعى نوبة من الخبل المرح، يحيطون بالساحة يشاهدون (مصارعة الثيران) فاندمجت بينهم، وقد تناسيت جيوفانا. حتى إذا انتهى الصراع، وتشتت القوم متفرقين وجدتها أمامي!

كانت في صحبة رجل. . . وقد أولياني ظهريهما فلم يرياني، بينما أحاط الرجل خصرها بذراعه، ومضى يشق لكليهما طريقاً وهما يضحكان في حبور. فدوت ضحكاتهما في مسمعي كقصف الرعد. إذ كان يخيل لي أنني الرجل الوحيد في بيروجيا، الذي اصطفته جيوفانا خليلاً، وتعرفت إليه. . .

وقفز الخنجر من جيبي إلى يدي، فكدت أغمده في ظهر رفيقها لو لم تندفع كوكبة من الخيل إلى الساحة تتسابق، فحالت بيني وبينهما. فلما مضت لم يك ثمة أثر لجيوفانا ورجلها!. . .

ولك أن تتصور موقفي، وقد أعمتني ثورة الغضب، بينما أخذ الخنجر يخز راحة يدي، وضحكات القوم تستثيرني وتوهمني بأنهم جميعاً يعرفون قصتي ويسخرون مني. بيد أن إرادتي كانت قوية فلم ألبث أن أعدت الخنجر إلى جيبي وأنا أحمل النفس على الصبر وأعللها بالأماني. . . واندفعت مع القوم

وما لبثت أن ظفرت بثمرة صبري، إذ عثرت على جيوفانا ورفيقها في طريق (بيكولو امبرتو)، فرحت أقترب منهما حتى بات في وسعي أن أحصي الشعيرات خلف رأسها، أو أن أحل الرباط الذي يثبت القناع على وجه صاحبها. ولكن يدي لم تعد تتحسس الخنجر هذه المرة؛ فقد وجدتني في أهدأ الحالات، أتحين اللحظة الملائمة لإنفاذ انتقامي دون أن أعرض نفسي لأتفه الأخطار تبعتهما في طريق (بيكولو امبرتو) وهما يسيران في عزلة عن القوم لاهين، وقد غابا في غمرة سعيدة أنستهما ما حولهما، حتى أنهما لم يلتفتا نحوي مرة واحدة. . .

ثم. . . لحظة واحدة يا سيدي. . .

وهم باولي من مجلسه فحمل زجاجة الشراب الفارغة، وغاب في المنزل. . . وسمعته يسأل جيوفانا عن مفتاح المخزن، فأجابته بصوت نم عن غضبها لإقلاق راحتها، وكأنما كانت متذمرة لبقائه ساهراً حتى تلك الساعة المتأخرة، في جو الليل الرطب البارد، يتناول الشراب مع شخص أجنبي لم يسبق لهما التعرف إليه. . .

ثم عاد يحمل زجاجة جديدة من الشراب، فاتخذ مجلسه ثانية وتابع حديثه وكأنما لم يقطعه على نفسه. . .

اتبعتهما في الطريق، حتى وصلنا إلى أخرى تفضي إلى بيتها. وقبيل باب الدار، افترقا. . .

لم أصدق عيني وأنا منزو في مخبأ في الطريق. فقد كانت بيروجيا بأسرها - لا الحي وحده - تعرف أنني خطيبها وأننا سنصبح عما قليل زوجين. ومع ذلك، فهاأنذا أراها قبيل الزواج ببضعة أشهر تساير شخصاً غريباً على أثر إهمال بسيط صدر مني عفواً ودون إدراك مني. . . شخصاً التقطته من بين الأفواج المتدفقة في ساحة (الكرنفال)!

وولجت هي بيتها، بينما عاد هو في الطريق يصفر فرحاً جزلان، فما أن ابتعد عني ثلاثين خطوة، حتى تسللت في أثره، وقد قررت - بعد أن رأيت ما بينه وبينها من علاقة - أن أقدم له الجزاء الذي يستحق. . . كان يجب أن يموت، وكان ينبغي أن تموت هي أيضاً، ولكنه الأجدر بالأسبقية في تلقي الجزاء!

كان من السهل أن أغتاله في تلك الطريق ذات الأضواء الضئيلة، التي لا تكاد تقوى على مكافحة الظلام الطاغي. . . ولكن. . . ألا يجوز أن يقبضوا عليّ، فتفلت هي من انتقامي؟. . .

وصمت العجوز مرة أخرى، لينزع عن الزجاجة سدادها، فيملأ الكأسين، بينما كان القمر قد اعتلى كبد السماء، وازداد ضوؤه الفضي تألقاً، حتى تراءى لنا المنظر المحيط بنا، وكأنه يبدو في وضح النهار. حتى إذا أفرغ كأسه في جوفه، عاد يقول متابعاً قصته:

(لعلك تقدر موقفي يا سيدي، فقد كان عليّ أن أحرص على حياتي، حرصي على كنز ثمين، حتى أتم انتقامي كاملاً، وهذا لا يتأتى إلا إذا فرغت من حساب جيوفانا على ما قدمت. . .

ومع ذلك، ظللت أتعقب الرجل!. . .

والظاهر إنه كان قد أختطف ألعوبة (شخشيخة) أحد المهرجين، أثناء المهرجان، فراح طيلة الطريق يهزها يمنة ويسرة ويضرب بها ظهور الناس خلال الزحام، وهو يضحك ساخراً لاهياً في غفلة عن الذي يتعقب خطاه، معداً خنجره للقضاء على حياته

كان يلوح كمن يبتغي اجتذاب أنظار القوم. فكان يسخر من كل فتاة أو شاب يعترض طريقه، ويهزأ بكل عجوز أو كهل يصادفه، مرسلاً قهقهته عالية في الجو. وكأنما هو لم يكتف بما نعم به من سعادة في رفقة جيوفانا، فما لبث أن أوقع في أحبولته فتاة أخرى، أحاطها بذراعه ثم دفعها معه، وقد تبعتها صويحباتها وهو غير مكترث بهن. ولعله كان يحمل نقوداً وفيرة إذ لجأ إلى مشرب راح يبعثرها فيه بغير حساب. . .

ما كنت أرى وجهه، فقد كان ظهره نحوي. بيد أنني كنت أرى إنه قد وفق في أن يغدو الروح الحية التي ظهرت في المشرب فطغت على كل من فيه، ثم. . . تفرق الجميع كل إلى وجهته، فعاد وحيداً يسلك طريق (أندريا دوريا)

وهنا. . . وجدت الفرصة الملائمة!. . .

كانت الطريق مقفرة، ولم يك ثمة من يرانا، وحتى لو وجد هذا فقد كان الظلام الضارب فيما بين المصابيح، لا يدع لأحد الفرصة كي يتأملنا جيداً؛ فلم ألبث أن أمسكت بكتفه، ورحت أنظر إلى وجهه الذي كان شاحباً، تعلوه كآبة تبعث في النفس الرغبة في تهشيمه. . . كنت مجنوناً، وقد أخذت الوقائع التي حدثت في ذلك اليوم تتتابع متزاحمة في رأسي. . . كان هناك حبي لجيوفانا، وغيرتي، وحقدي، ثم. . . مفعول الكحول القوي. . . كل هذا كان يدفعني نحو الجنون، بينما أخذ الشاب يقاومني في نضال، وأحسست بسكين تصيب كتفي الأيسر، ثم هويت إلى الأرض بينما كنت أغمد خنجري في قلبه بكل ما واتاني به الحقد والغيرة من قوة!. . .

سقط الرجل عند قدمي جثة هامدة شاحبة، وما يزال الخنجر مدفوناً في صدره. ولكنني لم آبه لذلك، ولم أسع إلى الفرار. . . ولعل هذا أغرب ما حدث. . . فقد كنت أنوي قتل جيوفانا، ثم أنتحر، ولذا لم أجد ما يبعث على الفرار!

لم أك أدري لكل هذا سبباً. غير أنني أدركت فيما بعد، أن عقل الإنسان لا يطيعه في كل الأحوال، وإنما هو - في المآزق الحرجة والمآسي المروعة - يتمرد عليه ليعمل بإملائه ووحيه. . .

جررت الجثة إلى مدخل المباني القائمة في الطريق فأسندت ظهرها إلى الباب حتى بدا صاحبها تحت ضوء المصباح الغازي الصغير المعلق فوق المدخل، وكأنه ثمل غلبه النعاس. ثم انطلقت في طريقي بعد أن تحققت من المكان الذي تركت فيه جثة غريمي

لم يعد أمامي بعد هذا إلا أن أحاسب جيوفانا، لذلك يممت شطر بيتها، ودققت الباب ثم ولجت. . .

كانت أسرتها ما تزال غائبة في (الكرنفال)، وكانت هي لم تأو بعد إلى فراشها، فما لبثت أن هبطت للقائي. . .

وكنت أقف في الحجرة التي اقتدت إليها عند حضوري، متكأً إلى منضدة في قبالة الباب، عندما قدمت. فما رأتني حتى حدقت في وجهي دهشة وتساءلت:

- لماذا عدت ثانية؟

فأطلقت ضحكة عالية، ولم أنبس ببنت شفة. وإذ ذاك تراجعت وقد لاح على محياها الفزع؛ غير أنني لم أفكر في أن خوفها هذا قد يكون منبعثاً عن غرابة مظهري وعن إخلاصها لي. وإنما خلت أنها فطنت إلى أنني كشفت خيانتها، فكان هذا مصدر جزعها، لذلك صحت بها:

- ما اسمه؟

- اسم من؟

- من!؟ الرجل الذي أوصلك إلى باب هذا المنزل منذ ساعة

- إنني لم ألتق بسواك هذا المساء. . .

لاح لي أنها كانت تنطق عن حقيقة وصدق. فبدأت أفهم الأمر. . . لابد أن ثمة شخصاً أتخذ مظهري وتقدم إليها منتحلاً شخصيتي. فلما أفضيت إليها بما ساورني ضحكت قائلة:

- لقد كنت أنت الذي رافقني، وقد وضعت على وجهك قناعاً زائفاً. . . ثم كان موعدنا وملتقانا عند فونتي مارجيوري، وهذا ما لا يعرفه سوانا. . .

فصحت:

- يا لله!. . . ولكنني لم أقابلك إذ تأخرت عن موعدنا. . .

خيل إليّ أنها ظنتني مجنوناً أو كاذباً. . . وتراءى لي الأمر كحلم، فظللت صامتاً يداخلني الشك في صحة قواي العقلية؛ بل أيقنت أنني مجنون، فرفعت القناع القرمزي عن وجهي وأطرقت إلى الأرض. ثم. . . تذكرت الرجل الذي خلفته مستنداً إلى الباب في تلك الطريق القفرة بعد أن سلبته الحياة. وإذ ذاك خيل إليّ أن ثمة قوى خفية تسيطر عليّ وتدفعني إلى أن أغادر البيت. . البيت الذي دخلته لأقضي على جيوفانا، فخلفته وأنا نصف مجنون، تسوقني قوى خفية - رغم إرادتي - إلى حيث لا أدري. . .

وجدتني أخيراً عند باب بيتي. . . وكان المنزل مظلماً عندما ولجته، فأغلقت الباب خلفي وتقدمت. وإذ ذاك سمعت والدي يصيح متسائلاً عن القادم، إذ كان ملازماً حجرته لمرضه.

فلما وصلت إليه، وجدته جالساً في الفراش، متدثراً بالأغطية، وعلى ركبتيه كتاب مفتوح، والى جانبه المصباح. فما أن رآني حتى بادرني:

- آه، أهذا أنت؟. . . وأين أرتورو؟. . .

والآن. . . لعلك تذكر أنني أخبرتك في بداية القصة، أنه قد كان لي أخ أحب البحر فعمل كملاح. وأنه كان يشبهني كل الشبه، إذ كنا توأمين

صحت بدوري أسأل والدي:

- ماذا تعني؟. . . إن أرتورو في البحر. . .

بيد أنني لم أتم كلماتي حتى خالجني شعور رهيب، كاد قلبي أن يقف له عن الوجيب، بينما سمعت والدي يقول:

- لقد عاد أرتورو اليوم، فانطلق يبحث عنك، بعد أن أخبرته أن في وسعه أن يعثر عليك عند فونتي مادجيوري في الساعة السادسة، إذ أخبرتني أنك ستلقى جيوفانا. . .

وإذ ذاك، شعرت بالأرض تميد بي، فتهالكت على مقعد بجوار فراش أبي، ومضيت أقول دون وعي:

- لقد تأخرت عن الموعد، وسبقني أرتورو إلى هناك، فظنته جيوفانا إياي، وتقدمت إليه، ولما كان يعرف أنها خطيبتي فقد شاء - حباً في المزاح - أن يدعها على اعتقادها، وبعد أن طاف برهة في رفقتها، أوصلها حتى باب دارها ثم ودعها وهو ما يزال منتحلاً شخصيتي. اتخذ طريقه عائداً، يساوره الأمل في أن يلقاني فيضحك معي للفصل الذي أتقن تمثيله. بيد أنه لم يك يدرك أنني أتعقبه طيلة ذلك الوقت، ظاناً أنه شخص غريب سلبني خطيبتي، وأوقد في أعماقي نيران الغيرة

فانتفض والدي بغتة في فراشه، وكأنما أصابته رصاصة، وصاح:

- ماذا تقول؟. . . ما الذي تعنيه؟. . . أين أرتورو؟ فأجبته: لقد مات غيلة بخنجري الذي لا يزال في صدره. . .

فهت بهذه الكلمات وأنا هادئ كل الهدوء، كما لو كنت أنقلها عن شخص آخر كنت لا أستطيع أن أتصور ما فعلت، وأن أعتقد حقاً أنني ارتكبت تلك الجريمة!. . .

أجل يا سيدي، كان هذا عين ما حدث.

وأطرق الرجل برهة، وكأنما غلبه الأسى لتلك الذكرى، ثم ما لبث أن عاد يقول:

- غير أنهم لم يعاقبوني، إذ أخذتهم بي الشفقة عندما رويت لهم قصتي، كما أرويها لك الآن. . .

وما لبثت بعد ذلك أن تزوجت جيوفانا، سافرنا إلى بيزا معاً فاستقر بنا المقام هناك. . .

كان هذا منذ سنوات، وقد مضينا عقب ذلك في الحياة، دون أن نوفق إلى جمع ثروة أو عقار، اللهم إلا هذا الفندق الذي امتلكناه أخيراً. . .

ومع ذلك فإننا في نهاية المرحلة. . . فماذا يهمنا؟. . .

وفرغنا من الشراب، فقادني إلى الغرفة التي أعدت لنومي. وفيما كنت مستلقياً في فراشي، يقظاً أتأمل شعاع القمر، وقد تساقط على جدار حجرتي، وأنصت إلى حفيف أشجار الزيتون، يداعب أغصانها نسيم الهزيع الأخير سمعت جيوفانا تقول ساخطة

- هل أويت إلى فراشك أخيراً؟. . . جميل حقاً، أن تدعني يقظة حتى الآن في انتظارك!!. . .

محمد بدر الدين