مجلة الرسالة/العدد 348/باسمك اللهم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 348/باسمك اللهم

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



للأستاذ محمد سعيد العريان

اليوم هلال المحرم من السنة السابعة بعد البعثة

وقد وقف أبو الحكم إبن هشام المخزومي موقفه من نادى قومه، واجتمع إليه قبائل من أشراف مكة وذوي الرأي من قريش يسمعون مقالته؛ وما منهم أحد إلا كان له بلاء في إيذاء محمد وصحابته حتى بلغوا في الكيد لهم ما بلغوا ولم ينالوا منهم منالاً؛ فإن أبا الحكم وأصحابه اليوم لفي هم ناصب وأمر عظيم. . .

إن أمرهم ليوشك أن يفلت من أيديهم، وهم أعلى قريش منزلة ومكانة بين سائر العرب، من الساحل إلى أطراف البادية. وهذا محمد وإنه لرجل فرد ليس له منعة من أهل ولا عصبية من دم ولا جاه من غنى، وإنه على ذلك ليحاول أمراً يفرق جماعتهم ويقبل رأيهم ويلحد في آلهتهم وما يعبدون؛ حتى ليوشك لو خلوا سبيله أن يكون هو صاحب الرأي والسلطان في العرب جميعا. . . وأين هو من هؤلاء وأنى يبلغ؟

ولقد افتنَّت قريش في حربه ومناهضة دعوته والكيد له ولأصحابه ما بلغ بهم الجهد، ليصرفوه عن وجهه ويفضوا صحابته من حوله؛ فما بلغوا شيئا مما أرادوا، وإن دعوته لتنتشر وتذيع حتى يتسامع بها العرب، وإن أصحابه ليزيدون ويكثرون، وإن قبائل العرب من قريب ومن بعيد لتسمع عنه وتعرف من خبره ما لا يريد أبو الحكم بن هشام وحزبه أن يعرف أحد؛ بلى، وإن هذه الدعوة لتطوى البيداء وتجتاز البحر من ساحل إلى ساحل حتى تجد الطمأنينة والسلام في بلد المسيحية من مملكة النجاشي!

يا للعاقبة لو بلغ محمد ما أراد!

. . . واجتمع وجوه قريش وأصحاب الرأي في مكة يتشاورون ليدبروا لهم أمراً. . .

وقال أبو الحكم بن هشام:

(يا قوم، أما إنه ليوشك أن يكون أمر شديد! وإن هذا الرجل ليبالغ فيما يدعو إليه حتى كان ما كان من أمره؛ فإن لم يكن قتله واستئصال خضرائه حتى يذهب بدعوته وتذهب به، فليكن تدبير جديد. . .)

وتطاولت الأعناق تترقب ما يكون من تدبير أبي الحكم في جهاد محمد وأصحابه، واسترسل يقول:

(. . . ألا إن هذا الحي من بني عبد مناف هو منا ومنكم حيث علمتم؛ وإنهم ليطلبون غاية ليس إليها سبيل، أفنتركهم وما يحاولون حتى يئول أمرهم إلى أمر؟. . .

(. . . وهذا أبو طالب بن عبد المطلب يمنع ابن أخيه أن يخلص إليه ما يكره، فما لنا سبيل عليه بعد، فليجتمع أمرهم على ما يريدون وليجتمع أمرنا؛ ولتكن براءة قاطعة بيننا وبين هذا الحي من قريش: لا معونة بيننا وبينهم في أمر؛ فلا نبيعهم شيئا، ولا نبتاع منهم، ولا نخالطهم في شيء؛ وكل رحم بيننا مقطوعة حتى يفيئوا إلى أمرنا؛ فإنهم يوشكون إن بلغت هذه القطيعة أن تجف خضراؤهم فيموتوا جوعاً وعطشاً وعرياً، أو يعودوا إلينا مغلوبين وما تجرد سيف من غمده ولا أريق دم!

(يا قوم، فإن رأيتم فهذه يدي، وليكن بيننا عهد مكتوب نعلقه في جوف الكعبة توكيدا لما تقاسمنا عليه. . . وإن أبيتم. . .)

وصاح صائح من أقصى المجلس: (رضينا يا أبا الحكم!)

وجاء كاتبهم منصور بن عكرمة فأملى عليه:

(باسمك اللهم. . .

(هذا ما تعاهد عليه أشراف مكة وذوو الرأي من قريش: أبو الحكم بن هشام، وأبو لهب بن عبد المطلب، ومنصور إبن عبد شرحبيل، وبغيض بن عامر. . . أنهم براء من بني هاشم وبني المطلب، لا يبيعونهم شيئاً، ولا يبتاعون منهم، ولا يخالطونهم في شيء، وكل رحم بينهم مقطوعة، حتى يفيئوا. . .)

وتناول أبو الحكم الصحيفة فطواها، ثم علقها في جوف الكعبة، ليشهد الله أمرهم وأمر بني عبد مناف!

وأوى محمد وأصحابه إلى شعب أبي طالب من شعاب مكة، حتى يقضي الله أمراً بينهم وبين بني عمهم من قريش، ليس لهم مطمع إلا فيما بين أيديهم من طعام ولباس وشراب، ولا يعرفون إلى كم يمتد الحصار المضروب عليهم في هذا الشعب الضيق ليس له إلا باب واحد يقف الأعداء بمرصد قريب منه يمنعون أن يدخل إليهم داخل بشيء من الزاد أو الميرة. . .

وتتابعت الشهور شهرا في أذيال شهر، والمسلمون في معتقلهم من شعب أبي طالب، لا يجدون ما يغني من جوع ولا من اللباس ما يدفئ من قر، إلا ما يتسلل إليهم في جنح الليل من شيء ليس فيه غناء يرسله إليهم من يرسل من أبناء عمومتهم على حذر ورقبة!

وجاء الموسم، وأَمّ الحجيج من قبائل العرب سوق مكة يسوقون الإبل قد أوقرت طعاماً وبزاً ليبيعوا ويشتروا ويتعوضوا

وطمع المسلمون أن يكن لهم من أولئك شيء؛ فإن هؤلاء التجار العرب في حل مما تعاقد عليه بطون قريش، فإن لهم أن يبيعوا أبناء عبد مناف ما يشاءون من بضاعتهم يداً بيدٍ؛ فما كان لهم في تلك (الصحيفة) الظالمة رأي ولا عقد

ويخرج من يخرج من المسلمين ليشتري زاداً من زاد القوم ويبيعهم مما عنده، ويقف على صُبرة من قمح يهم أن يشتريها، ويبصر به أبو لهب فيقوم في السوق مناديا:

(يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد غلمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم!)

ويسمع التجار ما قال أبو لهب، فيزيدون على المسلمين في السلعة قيمتها أضعافاً، فيرجع المسلمون إلى أهليهم وما باعوا ولا اشتروا وليس في يدهم شيء يطمعون به؛ ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما معهم من الطعام واللباس!

ومضى عام وعام وأوشك ثالث، والمسلمون حيث حصرهم أبناء عمومتهم من قريش، حتى جهدوا وأشفت نفوسهم على التلف جوعاً وعريا. . .

ويرى محمد ما أصاب أصحابه في سبيل الله، فيثبتهم ويربط على قلوبهم، ويقول:

(لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه؛ ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله!)

فتهدأ نفوسهم مطمئنين إلى العاقبة!

ويبلغ بهم الجهد، حتى يأكلوا ما يسقط على الأرض من ورق الشجر، وحتى يصنعوا ما تصنع الشاة: لا تجد أكلاً إلا ما تتقمَّم من خشاش الأرض ومن بارض النبت في مسايل الِّلوَى. . .

ويشد سعد بن أبي وقاص على بطنه من ألم الجوع حتى يكاد يلتصق بظهره؛ وينال منه الجوع حتى يخرج في سواد الليل يلتمس رمقه، فيطأ على شيء رطب، فيضعه في فمه فيبتلعه، لا يدري ما هو، ولا يجد له في فمه مذاقا!!

ويتضاغَى أطفال المسلمين من الجوع، وتسمع أصواتهم من وراء الشعب صائحين من السغب والمتربة!

والمسلمون على ما بهم: لم ينل منهم الكفار منالاً بما صنعوا لأنهم وهبوا نفوسهم لله؛ فلا عليهم أن يموتوا جوعاً أو يموتوا مجاهدين في سبيل الله!. . .

وتسامع المشركون بما نال محمداً وأصحابه من الجهد والمسغبة فمنهم من سرّه ذلك، ومنهم من ساءَه. . .

ويفرح أبو الحكم بن هشام بما نال المسلمين من الجهد والمسغبة، ويستخفه الفرح حتى يأمل أملاً. . .

ويغضب من يغضب من قريش لما نال إخوانهم وأبناء عمومتهم من بني عبد مناف، وإن كانوا على دين محمد!

ويشفق هشام بن عمرو بن ربيعة على ما نال أخاه لأمه نضلةَ ابن هشام بن عبد مناف، وكان مع المسلمين في شعب أبي طالب، فيأتي ببعيره قد أوقره طعاماً وبزاً. . . فيقبل به فم الشعب ليلاً وقريش في غفلاتها، ثم يخلع خِطامَه ويضرب على جنبيه فيدخل الشعب عليهم ليقتسموا ما يحمل من طعام وبز. . . وماذا يغني بعير واحد والمسلمون كثرة يكاد يقتلها الجوع والعرى؟. . .

ويقول أبو طالب لابن أخيه: (لقد بلغ الجهد منا ما ترى، وإن رجالاً من قريش قد استشعروا الندم على ما تعاقدوا عليه، لولا شرف السمعة وتهمة الخيانة لأحلوا أنفسهم مما ارتبطوا به من عهد الصحيفة!)

وابتسم محمد بن عبد الله، وقال: (يا عم، إن الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش؛ فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان!). . .

ويفرح أبو طالب ويقول: (أربك أخبرك بهذا؟)

قال: (نعم!) وخرج أبو طالب إلى قريش في ناديهم ليتحدث إليهم في أمر. . .

ويصعب على هشام بن عمرو ما يلقى أخوه نضلة والمسلمون معه، فيمشي إلى جماعة من أشراف قريش لهم في بني عبد مناف صهر وخئولة؛ فيحرضهم على نقض الصحيفة، رعاية لحرمات النسب وحفاظاً على حق الدم، فيجتمع على رأيه بضعة نفر، فيتوافقون على ميعادهم إلى حيث كان وجوه قريش مجتمعين في ناديهم من الحجر؛ ويقدمهم زهير بن أمية (وأمه عاتكة بنت عبد المطلب) فيطوف بالكعبة سبعا ثم يقبل على الناس فيقول:

(يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة!)

ويرتاع أبو جهل بن هشام لما يسمع، فلا يكاد يرد رأيه حتى تأخذه الأصوات من كل جانب: (مزقوا الصحيفة، لا نرضى ما كتب فيها ونبرأ إلى الله منه!)

تلك كانت أصوات هشام بن عمرو وأصحابه الأربعة: المطعم إبن عدي بن عبد مناف، وزهير بن أمية بن المغيرة، والعاص ابن هشام، وزمعة بن الأسود

ويبلغ الغيظ بابي جهل وأصحابه ما يبلغ، أن رأوا ما أجمعوا عليه يحاول أن يخرج من أيديهم حين ظنوا أنهم من الغاية التي يهدفون إليها على خطوات، وأن محمداً وأصحابه يوشكون أن يفيئوا. . .!

وقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وما أحسبكم إلا دبرتموها في غير هذا المكان!

ويقدم أبو طالب بن عبد المطلب في جماعة من بني أبيه قد لبسوا أحسن ما يجدون من الثياب؛ فما إن يسمعون ما يقول أبو جهل حتى يبتدره أبو طالب: (بل هو أمر قد قضاه رب محمد)

والتفت أهل الندى إلى حيث كان أبو طالب في أهله، لا يدرون ما يعني مما يقول!

وتقصف الناس على أبي طالب يستثبتونه عما قال، ومضى في حديثه:

(. . . بلى، وإن بيننا وبينكم هذا العهد المكتوب في الصحيفة، فإن ابن أخي أخبرني من أمرها. . . فهلم إلى صحيفتكم؛ فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها؛ وإن كان كاذبا دفعته إليكم فما شئتم فافعلوا به!)

ووثب المطعم بن عدي إلى حيث كانت الصحيفة في جوف الكعبة، وفض غلافها، ونظر، ونظر القراء؛ فإذا الأرضة قد لحستها لم تترك فيها من شيء يقرأ إلا (باسمك اللهم. . .)

وخرج المسلمون من شعب أبي طالب إلى فضاء مكة كعهدهم يوم كانوا؛ وانفك الحصار الذي كان مضروباً عليهم ثلاث سنين لا يبيعون ولا يباعون؛ وإن كانوا من عداوة المشركين لهم وائتمارهم بهم في أمنع وأبلغ؛ ولكن شيئا من ذلك لم ينل من نفوسهم ولم يوهن عزائمهم

ومضت أربع سنوات أخر؛ ثم انطلق المسلمون من الحصار المضروب عليهم حول مكة كلها مهاجرين إلى حيث يؤلف محمد وصحابته حكومتهم في دار الهجرة؛ ولا تمضي إلا سنوات من بعد، حتى يكون محمد وأصحابه في طريقهم إلى مكة يقودون الجحفل اللجب ليحاصروا مكة كلها ويسلم إليهم أهلها صاغرين!

ودار الفلك دورته؛ فإذا تلك القلة من بني عبد مناف وجيرانهم الذين كانوا بالأمس محصورين في شعب من شعاب مكة لا يجدون ما يأكلون - قد وثبوا أكبر وثبة عرفها التاريخ، فإذا منهم القادة والسادة والأمراء، يضعون يدهم على مفاتيح خزائن الدنيا، ويبشرون بدين الله في أربعة أقطار الأرض. ورفرفت الراية الإسلامية على قلاع فارس والروم وأوربا؛ ومضى جنود المسلمين من أبنائهم وحفدتهم يطئون العروش ويقتحمون الممالك وهتافهم يدوّي حيث كانوا: (باسمك اللهم! باسمك اللهم!)

محمدي سعيد العريان