مجلة الرسالة/العدد 347/في أرجاء سيناء
مجلة الرسالة/العدد 347/في أرجاء سيناء
1 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
من السويس إلى أبي زنيمة
تواعَد السّفْرُ ميدانَ إبراهيم صباح الأحد حادي عشر ذي الحجة سنة 1358 - (21 يناير سنة 1940)، ووقفنا على مصر الجديدة ريثما يركب الرفقاء الذين يقطنون هناك. ثم سار ركبنا في سيارات ست يؤم السويس، وليس في طريق السويس ما يتحدث عنه إلا بقايا المنارات التي كانت على طريق البريد.
ولما بلغنا السويس تواعدنا أن نلتقي عند منتهى الترعة الإسماعيلية بعد أن تتزود السيارات وسائقوها بما يحتاجون إليه من المدينة. وكان السائقون كلهم من هذه المدينة وممن خبروا طرق سيناء.
فارقنا المدينة ظهراً، فوقفنا بعد قليل عند معبر القناة ريثما قدمنا الأوراق والصور التي تبين أشخاصنا ووجهتنا، ثم عبرنا. وكان الغداء قد حان، فرأينا أن نتزود للبيداء فتفرقنا يأكل كل واحد زاده. . . ولست أقول قول أبي العتاهية:
قد رمى المهدي ظبياً ... شق بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما كل ... امرئ يأكل زاده
وهي الوجبة الواحدة التي لم يجتمع عليها السفر. وكنا استثنيناها تعجلاً للمسير، فاتفقنا على أن يأتي كل مسافر بالغداء في اليوم الأول.
وكان في اختلاف الأطعمة مثار لأسئلة: ماذا عندك يا فلان؟ وماذا تأكل يا فلان؟ وكان أكثر الناس تطلعاً إلى السؤال بعض رجال التاريخ. وذكرني هذا قول أبي الطيب:
وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من ردّه تعليل
تهيأنا للمسير، وصفر دليل الركب الدكتور حزين إيذاناً بالسير فلم نهيب إقدامنا على مجاهل سيناء وسلوك طريق بني إسرائيل، لأن الطريق مطروقة، والأمن شامل، والزاد موفور، والسيارات ضمينة بإبلاغنا غايتنا قبل الغروب. . .
سرنا صوب الجنوب فسايرنا القناة حيناً، ثم خليج السويس حتى حالت بيننا وبينه التلال.
وبعد نصف ساعة مررنا بعيون موسى، وهي على 24 كيلاً من معبر القناة. ولم نعرج على العيون إلا في رجوعنا، وكنت رأيتها مرة من قبل. وهي ينابيع متفرقة متقاربة، يرى المتأمل فيها فوران الماء من قاعها إلى سطحها، وكل ينبوع بركة يفيض ماؤها في الرمل فلا يجري، وحولها نخيل وأشجار من الطرفاء؛ وهي اثنتا عشرة عيناً، وقد ذكرت في القرآن الكريم: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم. كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وذكرت في التوراة باسم إيليم. ففي سفر الخروج (الإصحاح 16): (ثم جاءوا إلى إيليم، وهناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة، فنزلوا هناك عند الماء)
وقد نقلت الحكومة إليها سمكا لمنع حمى الملاريا
مضت السيارات في أرض مقفرة قليلة النبات، ثم تغير مرأى البيداء، ولاحت أشجار كثيرة من الطرفاء، جاوزناها إلى أرض غير مشجرة يسم وجهها نبات متفرق من العيثران والرتم والسلة وأعشاب مختلفة. ثم دخلنا وادي الطيبة بين جبال عالية مختلفة الألوان والأشكال؛ فتكاثرت الأشجار البرية متفرقة، وبدت على وجه الأرض إمارات الحياة حتى انعطف الوادي إلى اليمين تلقاء البحر، فإذا غيضة يترقرق الماء فيها، ويلتف فيها الطرفاء والنخيل؛ وهو منظر يوحي إلى المسافر الروح والسرور بعد المناظر القاحلة التي طال سيره فيها. وبعد ثلاثة كيلات من هذه الغيضة بلغنا شاطئ الخليج - خليج السويس - بعد أن قطعنا من القناة مائة وعشرين كيلاً
هناك تبعد الجبال عن البحر قليلاً فتترك بينها وبينه أرضاً رملية مستوية، وعلى الشاطئ شركة إنكليزية تستخرج المنغنيز وهو حجر مسود حديدي يستعمل في صناعة الصلب أو الفولاذ. وهناك مبان للشركة ومساكن للعمال وهم زهاء ألف من المصريين، وسكة حديد لنقل المنغنيز إلى الميناء، وميناء لإرساء السفن
سألنا عن منزل الحكومة (استراحة) فسار معنا خادم موكل به، فرأينا بناء جميلاً طبقة واحدة فيها خمس غرف ومرافقها وأمامها طُنُف واسع. وهذا المنزل بني حينما عزم الملك فؤاد رحمه الله على زيارة سيناء. فهو من آثار عنايته بالصحارى المصرية نزلنا هناك بعد الغروب فأمضينا ليلة سعيدة في هواء منعش معتدل يحيط بنا مشاهد رائعة من الجبال والبحر أضفت عليها القمراء نورها وبهجتها. ولا أنسى مطلع الشمس هناك بين قنن الجبال القريبة ومغربها على ساحل الخليج الغربي عند جبال الزعفرانة تلوح على بعد كأنها قطع السحاب أو الضباب
إن في هذه الأمكنة وما يشابهها لَمَراداً للمصريين يستجمون من عناء العمل، ويمتعون الروح والجسم بين الهواء والماء، وحرية الصحراء والمرائي الجميلة، ويعرفون مجاهل وطنهم وما فيها من معادن ونبات
وأصبحنا يوم الاثنين مزمعين التجوال في البرية ورؤية معادن المنغنيز وآثاراً مصرية قديمة في مكان يسمى سراية الخادم فاستمعنا من الدكتور حزين كلمة عن سيناء وجبالها ومعادنها. ثم سرنا في وادي الطيبة وملنا ذات اليمين حتى رأينا معادن المنغنيز وهي حفر ساذجة تقطع منها الأحجار لا يكلف قطعها عناء ولا تغلغلاً في بطن الأرض. ثم سرنا نبحث عن الآثار ولقينا في طريقنا بدوياً معه غنمة وجمال تحمل رحله ونساء وصبية، فكلمناه وأخذنا صورته. وسألته عن شجر صغير يكثر في البادية لا جذع له تنبت أغصانه من جذره مستقيمة دقيقة، له ورق مستطيل دقيق. فقال: هذا الرتَم. فذكرت قصة المتنبي حينما خرج من مصر وسلك سيناء وخانه عبيده فضرب واحداً منهم بالسيف فخر على رتمة. وأنشدت قول الراجز:
نظرت والعينُ مبينة الهّم ... إلى سنا نار وقودها الرتَم
شبت بأعلى عاندين من إضم
واسم الرجل مُطير وهو من قبيلة القرارشة
واستأنفنا المسير فبلغنا مكاناً به نخلات وأشجار وزرع قليل، وإذا بئر تسمى بئر النصب ماؤها قريب عذب
تركنا السيارة وسرنا نبحث عن الآثار واستدللنا رجلاً من غير البدو ادعى معرفة المكان فطال سيرنا وبحثنا على غير هدى، ورجعنا وقد استفدنا من المشي، ورأينا من الأودية والجبال والأشجار والعشب ما عزانا عن الآثار المفقودة. ولم نقل: قتل أرضاً عالمها، وقتلت أرض جاهلها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام