مجلة الرسالة/العدد 346/هذه هي. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 346/هذه هي. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1940



للأستاذ كامل محمود حبيب

أحب أبا مروان من أجل تمره=وأعلم أن الجار بالجار أرفق

وأقسم لولا تمره ما حبيتهُ ... وكان عياض منه أدنى ومشرق

(غيلان النهشلي)

أطرق الرجل ساعة، وأنا بازائه أتفرس فيه، وهو زري الهيئة مضطرب الهندام: قد تخدد لحمه، وذوى عوده، وأدبر شبابه. . . وإن في عينيه عبرات مكفوفة يدفعها اليأس ويحبسها الحياء، وعلى شفتيه آهة عميقة لا تجد لها متنفساً. . . وتبدت لي خواطره تصطرع في رأسه، وهو يشرب القهوة في نهم، وينفث دخان سيجارته في لذة. . . فأردت أن أجذبه إلي، فقلت: (ما بالك تكتم عني ذات نفسك، وقد خلا بنا المكان؟) قال: (إن في النفس حديثاً طويلاً، ولكني ألفيتك رجلاً غير من صورتُ في خيالي!). . . ورقت رنات صوته، حتى خيل إلي أن آلام قلبه تعتلج في صدره، فتتحدث هي حديثاً كله أنات، ثم قال: (. . . وأنا لا أستطيع أن أؤمن بأنك أنت صاحب (ذريني)، ومن بعدها (شيطانه تتفلسف)، وكيف يتأتى لك أن تكتب ما قرأت وما في دارك إلا الأمر والطاعة، وإلا الهدوء والطمأنينة، وإلا السعادة و. . .)

قلت: (يا سيدي، أن المرأة لا تجلب السعادة، ولكنها أبداً تنضج الشقاء!)

قال: (كأنك تعني أن نصف العالم خلق شقاء للنصف الأخر)

قلت: (ولم لا؟)

قال: (وبماذا رمتك المرأة فتتهدم عليها بمثل كلامك هذا؟)

قلت: (يا عجباً! أفلا ترى أن المرأة كالماء الآسن حين تنعكس عليه أشعة الشمس الذهبية، فيبدو جميلاً صافياً خلاباً، فإذا اغتمرت فيه اغتمرت في النتن والوحل معاً؟)

قال: (وهذا معنى آخر مما يضطرب في نفسك، فهل لك أن تسمع قصة عذابي علك تجد فيها مادة!)

قلت: (هات!) قال: (أما انا، فقد نالني من المرأة عنت كبير. . . كنا - أنا وهي - زوجين في رغد من العيش، ودعة من الزمان ورخاء في البال؛ وأنا موظف في الحكومة يغل عليّ عملي ما يكفي عدداً، وفي القناعة والرضا، وهي لا تبسط يدها كل البسط؛ وتصرمت الأيام، وأنا أجد فيها سلوه عن الابن، وقد ضنت به الأيام، وعزاء عن الام، وقد سلبتها مني يد القدر. . .)

ثم غدر بي الدهر غدرة واحدة، فقذف بي بين براثن المرض لا أبرأ ولا أستقل. . . وانطوت الأشهر وأنا بين الطبيب والدواء والحكومة في مرض آخر: فالطبيب شره لا يطفئ السيل غلته، والدواء لا يشفي ولا ينقطع، والحكومة من ورائهما تضع من راتبي قليلاً قليلاً. وأحسست بالهاوية التي أنحدر إليها رويداً رويداً. . . فأشفقت على زوجتي أن تجد لذع الفقر وقد أشفيت عليه، أو أن ينسرب إلى قلبها الملل وقد طالت علتي، وفي رأيي أن أسرحها لتنطلق إلى متعة قلبها ولذة نفسها، وهي شابة فيها عقل المرأة ونزعات الأنوثة. . .

ونشرت على عيني أمها حديث نفسي، فراحت العجوز إلى ابنتها توسوس. . . وجاءت الزوجة - وفي عينيها عبرات تترقرق - تزور حديثاً: (كيف أتخلى عنك الآن؟ أفأعيش إلى جانبك سنوات لا أستشعر منك إلا الشهامة والكرم، وإلا الرجولة والتضحية؛ ثم أفزع عنك وأنت بين المرض والعوز، لأكون معولاً آخر يهدم بقية فيك نترجاها؟)

واطمأنت نفسي إلى حديثها، فاستقرت

لقد كانت فكرة ابرة، غير أنها بعثرت حياتها، فانبعثت هي تكشف لي عن أدران نفسها

ألحت علي الحاجة فتحولت عن داري إلى حجرات ضيقة وضيعة، ومكرت هي بي فحملت أثاثها إلى دار أبيها إلا حاجات عبث بها البلى، وجاءت أمها تريد أن تعينني على علتي بكلام يتوثب من أضعافه الصلف والزهو، فأبت كبريائي أن تذل لها، على حين تعصرني الفاقة ويثقلني الدين، وليس لي من أفزع إليه سوى أخي، وهو بين أولاده وزوجته ورقة حاله في هموم. . .

وأحسست من الزوجة الشابة الإغضاء والإهمال، فهي تنفلت من لدني - بين الحين والحين - في تطريتها وزينتها، تزعم أنها تزور أهلها وصاحباتها، وهي تنطوي عني ساعات من النهار؛ وأنا بين الشك واليقين لا أستطيع أن أمسكها فتجد مس الضيق والملل، ولا أن أرسلها فأذوق مرارة الوحدة وعذاب المرض معاً

وضاق بي صدر الحكومة فلفظتني، وللحكومة قانون يحكم على المرض بالإعدام. وظلت زوجتي تداجيني وتفتن في مرضاتي حتى أرسلت الحكومة إلي مكافأة مالية لا ترد عادية ولا تدفع فقراً، غير أن قطرة منها تروي حِزَّني. . . أرسلتها الحكومة فأخذتها الزوجة وطارت. . . طارت أحوج ما أكون إليها، لتذرني وحيداً على فراش المرض والضيق، لا أجد إلى جانبي سوى خادم صغيرة لا تستطيع شيئاً).

وسكت سكتة طويلة حين اضطربت الكلمات على شفتيه، وتدفقت العبرات من محجريه لا يستطيع كبتها. فقلت: (لا بأس عليك، يا صاحبي؟) قال: (هذا ضعفي، ولعمري لقد كنت أضن به أن يبدو أمام الناس، وهانذا أريقه على عينيك!) قلت: (لا ضير، لقد طارت فلا تدعها تنفث فيك من هموم الحياة، لقد طارت فماذا كان. . .؟)

قال: (وجاء أخي يرفه عني بكلمات. . . على حين قد حضرني بثي

ثم تماثلت للشفاء وأنا أرزح تحت عبء الدين وشدة الصدمة، وتحدثت إلي رجولتي ساعة من زمان، فإذا زوجتي غريبة عني

وترامى إليها الخير، فهبت تحدثني بلغة المحاكم الشرعية، وللمحاكم الشرعية لغة هي عقل المرأة انتقام وتنكيل، وفي عقل القاضي ثأر واقتصاص، وفي رأى الزوج مثله وعبرة، وفي عيني العزب زجر وعظة. ثم هي - دائماُ - تقول للزوج (أيها الأحمق، لم تزوجت؟) وللعزب (أيها العاقل، إياك إياك!)

وعشت سنة لا أبرح السجن إلا ريثما أعود إلى غيابته، وما في يدي ما أستطيع أن أدفع به تهم الزوجة ولا غفلة القاضي)

ثم اطرق وقد نفث حديثه في روح الأسى والحزن، وإن في نفسي غيظاً يحتدم. . . ثم قلت: (وهي؟) قال: (أما هي فقضت أيام محنتي بين ذراعي حبها الجديد، ثم مكرت به - بعد أن عصفت بي - فإذا هو زوجها) قلت: (يا الله! ويل للرجل من المرأة)

فقال في هدوء: (من النساء غل قمل يقذفها الله في عنق من يشاء ثم لا يخرجها إلا هو)

قلت: (صدق رسول الله، فعلام إذن تذهب نفسك حسرات، وأنت ما تفتأ في شبابك؟) قال: (لا بأس، فلقد قرّ رأيي على أن أطوي الماضي لأكون رجلاً غيري)

قلت: (نعم ولتكون رجلاً. . . رجلاً فيك الرجولة)

كامل محمود حبيب