مجلة الرسالة/العدد 345/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 345/رسالة الفن
من لوازم الفن
لو أكلت الشجرة أثمارها!
(إلى الذين يريدون مني أن أكون مؤدباً)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- مالك مقطب الجبين؟
- بعض الذين أحبهم ساخطون علي
- من طول لسانك. تعلم الصمت. . . دارِ الناس. . . تأدب تجدهم يحبونك. . .
- إذا فعلت كذلك كرهت نفسي
- عجباً! ألا تحب نفسك إلا إذا كنت شتاما؟
- لست أشتم أحداً، لكن أرى، وافهم، وأصف. والله يعلم أني لا أقصد من وراء ذلك شيئاً. . .
- هذا أنكى وأمر. فقد كنت أحسب أنك تقصد من وراء ذلك إصلاح الذين تذكر عيوبهم
- ربما كان ذلك يجول بخاطري أحياناً. ولكن عندما تحتد بي الحكمة أشهد على نفسي بأني عاجز عن هذا الإصلاح. فلهذا الكون إله يديره، وهو قد رضى عن ناس فهداهم، وهو قد أضل ناساً لم يرض عنهم، وقد أنبأ الله رسوله المحمد بأنه لن يهدي من أضل الله، ومن أنا إلى جانب الرسول حتى أزعم أني أهدي وأرشد؟!
- إذن فما لك لا تسكت؟
- لأن الله خلقني ناطقاً، فإذا لم أنطق عطلت رغبة من رغبات إلهي، وأعدمت بيدي مبرر وجودي، وكنت بعد ذلك جديراً بالفناء، فليس لي في هذه الدنيا عمل إلا أن أقول. . .
- تستطيع أن تعمل شيئا غير ذلك. . . ألست إنساناً عاقلاً؟
إنك تزعم أنك عاقل، وإني أرى أكثر اهتمامك متجهاً إلى التأمل في الناس ودراسة نفوسهم، ولا أكتمك إعجابي بكثير من دراساتك هذى، فلماذا لا تستغل قدرتك هذه على الإلمام بالناس ونفوسهم، في السيطرة عليهم واستغلالهم؟. . . لماذا تصدمني بذكر عيوبي مجسد مكبرة مهولة، وأنت تستطيع أن تسيطر على وإن تعبث بعقلي ما دمت تعرف مواطن الضعف فيه. . .؟
- هذا الذي تطلبينه يصنعه التاجر، ويصنعه رجل السلك السياسي، ويصنعه الجاسوس، وتصنعه المرأة؛ ولكن لا يصنعه الكاتب، ولا الرسام، ولا الشاعر. . . ألم تقرئي تاريخ المتنبي؟ أو لم تقرئي شعره؟ هل رأيت في الناس من هو أحكم منه، ومن هو أشد خبرة بالنقوش منه؟ إلا تظنين أن المتنبي كان يستطيع العبث بكل ملك من أولئك الملوك الذين قربوه وفضلوه على غيره من المقربين؟ إلا تظنين أنه كان يستطيع أن يبيع سيف الدولة وإن يشتري الإخشيدي؟ أنه كان من غير شك يستطيع، فلماذا لم يفعل؟!
- لأنه كان سخيفاً؟
- قولي أنه كان سخيفاً في هذه، وقولي أنه كان مجنوناً، ولكنني أقلوا أنه كان أميناً.
- أميناً لمن؟ ما كان أميناً لنفسه، فلو كان كذلك لأفاد نفسه، وما كان أميناً لسادته أو أصحابه، فلو كان كذلك لما سبهم وذكر عيوبهم. . .
- كان المتنبي أمينا لك أنت، وكان أميناً لي أنا، وكان أميناً لكل الذين عاشوا بعده وقرءوا شعره، فقد كشف لنا المتنبي عن حقيقة ربما كنا سنظل نجهلها لو لم يقفنا عليها، ولكنه صرح بها، وذكرها وقال لنا: يا خلق الله لا تشتروا العبد إلا والعصا معه، أن العبيد لأنجاس مناكيد. . .
- أو لم يكن المتنبي يعرف أن العبيد أنجاس مناكيد قبل أن تضطره الظروف إلى أن يقول هذا؟
- صدقي أني أكره في المتنبي احتماله الطويل لكافور قبل أن يصفه هذا الوصف، وصدقي أني لا أغفر هذا الاحتمال للمتنبي إلا بهذه الثورة التي ثارها على كافور آخر الأمر، وصدقي أني لو كنت مكان المتنبي ما كنت تقربت من كافور ولا من غيره، لأني رأيت أصحاب السلطان يعتزون بسلطانهم، كما يعتز أصحاب المال بأموالهم، وكما يعتز أصحاب الفكر بأفكارهم، ولا يمكن أن يعاشر معتز معتزاً إلا إذا كان أساس العلاقة بينهما استغناء كل منهما عن الآخر، وكان المتنبي يستطيع أن يستغني كما استغنى أبو العلاء، ولكن أطماعه ثقلت على نفسه فسوأت بعض تاريخه، وإن كانت أطماعه هذه هانت عليه أحياناً عندما استعصت فانقلب عليها مستهجناً ولكن كما يغضب الطفل على مشتهاه إن قصرت عنه يداه.
- فالمتنبي عندك رجل سوء.
- لا. ولا يمكن أن يكون كذلك. فالرجل الذي يغاضب أصحاب السلطة حين يشعر أن كرامته مست لا يمكن أن يكون رجل سوء. وإنما رجل السوء الذي تمس كرامته كل يوم فيرضى، والذي تهون عليه الإساءة بما يأكل من السمن والعسل. . . هبي المتنبي احتمل سيف الدولة، وطأطأ الرأس لغضبه، وهبيه لأن الكافور واستمسك بعشرته وتعلق بنعمائه. . . أفما كان يستلزم منه هذا أن يسكت عن الإفاضة بما يشعر به من وخز الألم، أو أن يفيض بالذي لا يشعر به من الراحة والسعادة؟ وهبيه قد فعل هذا. . . أفما كنا نخسر هذه الثروة الفنية التي خلفها لنا غضبه والتي بعثتها ثورته؟ ثم ألم يكن المتنبي مضطراً في المجاملة أن يقول شعراً كذباً ككل شعر كذب قيل في عصره فمات ولم يخلد غير شعر المتنبي. . .؟
- ولكن المتنبي قال شعراً كذباً
- أي شعر هذا الكذب الذي قاله؟
- مدحه الأول لكافور. . . أفكان كافور يستحق أن يمدحه شاعر كالمتنبي. . .؟
- ولم لا؟ ألم يمدح الشعراء الحيوانات؟ كافور رجل أحسن الظن بالمتنبي في البدء، وأحسن على هذا استقباله، وأحسن بعد هذا تكريمه، وكل هذا جدير بأن يبعث في نفس الشاعر الراحة وهذه الراحة تبعث في نفسه حب جالبها، وهذا الحب يبعث المدح. . . على أنك إذا قرأت مدح المتنبي لكافور رأيت فيه تحوطاً ملحوظاً، ورأيت المتنبي يقول وكأنه يحس أن مدحه أكبر من ممدوحه، ويكفيك هذا - فيما أظن - تصويراً صادقاً لإحساس هذا الفنان الذي رأى رجلاً هو يعرف النقص فيه ومع هذا فهو يحبه لتكريمه إياه. . .
- إذن فالمسألة تدخل فيها الاعتبارات وليست مجردة منها، والمتنبي كان يحب الذين يعطونه لا الذين يستحقون حب الإنسانية الخالصة. . .
- هذا عيب كان في المتنبي، وأنت تلحظين هذا العيب وتذكرينه، وأنا أوافقك على ذكره وأعده من مساوئ المتنبي لا من حسناته، وأزيد على ذلك فأقول لك أن هذا العيب هو الذي قضي على حياة المتنبي بعد أن قضى على كرامته أيضاً، فأنت تذكرين أنه هوجم في الطريق فأراد أن يهرب، ولكن غلامه ذكره بكلام ينسب له لنفسه فيه الشجاعة، فارتد ونازل مهاجمه حتى لاقى حتفه. . . فلو لم يكن المتنبي يتهاون في الحق أحياناً لما فخر بشجاعته وهو يعلم أنه غير شجاع، ولو كان قد أظهر نفسه على حقيقتها في شعره لما اضطر إلى أن يقف في آخر ساعة من ساعات حياته هذا الموقف المضطرب الذي مات فيه. . إن المتنبي لم ينته هذه النهاية إلا لأنه اضطرب بين فنه وأطماعه. . . بين بيت الشعر الذي يفخر فيه بشجاعته وبين حبه للنجاة ورغبته في مواصلة التجوال بين أرباب العروش. . .
- فإذا كنت أنت في موقفه فماذا كنت تصنع؟
- أما أنا فإني لا أفخر إلا بالذي أتحلى به من الفضائل أن كانت في فضائل، وإني لا أذكرها على سبيل الفخر، وإنما أسردها سرداً كما أسرد كل ما في من العيوب، ولعلك تقرين بأني أكثر من رأيت من الناس إظهاراً لعيوبهم، وهذا من غير شك هو انتقام الطبيعة إلى سلطتني على عيوب الناس ومحامدهم أذكرها وأرددها، فأنا مع نفسي مثلما أنا مع الناس، وما دمت غير شجاع فلا يمكنني أن أقول أني شجاع ومقاتل، وهذا هو الذي كان يمكنني من الهرب عند هجوم العدو لو أني كنت المتنبي. . .
- وما الذي يمنعك ما دمت تعترف بأن لك عيوباً من إصلاح هذه العيوب؟
- لا شيء. ولا ريب أن من ذكر عيوبه كان هذا دليلاً منه على نية إصلاحها، وهو من غير شك ينصلح قليلاً قليلاً، ويتخلص من نواحي الضعف فيه شيئاً فشيئاً، ومهما يكن فإن الصدق الذي يميزه ليس شيئاً هيناً. . .
- أنا لا أوافق على أن يكون هذا الصدق مبرراً يستبقي الإنسان به عيوبه، ويفضح به عيوب الناس. أن هذا صدق قبيح يجب أن يزول. . .
- أما أنه قبيح فانه يكون قبيحاً. . . ولكن هذا لا يعنيني ولا يعنيه، ولا يحط من قدره، فليس بعيب الصبر أنه مر، ولا يعيب الليمون أنه حامض، وإنما الصبر المعيب هو الذي فقد مرارته، والليمون المعيب هو الذي عطب فذهبت حموضته. . .
- يا لباقتك! أما تستطيع أن تحبس هذه اللباقة لنفسك وإن تنتفع بها. . .؟ - يا أنانيتك! أي زهرة في الدنيا تحبس أريجها عن الحياة؟ أنها لا تستطيع ذلك لأنها وجدت للوجود لا لنفسها. . . إن الكون ينادي في الخلائق ما منحها. . . الثمرة تنضج فتقفز من غصنها إلى الأرض إذا لم تقطفها يد، وأنت تريدين مني أن تنضج الفكرة في رأسها وإن أزدردها لنفسي؟ كنت أستطيع هذا لو أكلت الشجرة أثمارها!. . .
- إذن فأنت تطلب من يأكلك. . .
- الذي يأكلني هو الذي يسمعني. . .
- وقد يمقتك من يسمعك فيقتلك. . .
- فلتكن إرادة الله، ولست أجهل أن الله خلق من يأكل ومن يؤكل، ومن يقتل ومن يقتل، وكم مات أصحاب الفكر في إيمانهم
- ستعود فتكسو نفسك بطولة لست أنت أهلها، وأنت وقعت الآن فيما عبت على المتنبي الوقوع فيه. . .
- لا يا هذه، إني لم أقل إني مقاتل مغوار، وإنما قلت إني مؤمن بالله وقضائه، وإني لازم رأيي، وإن شاء الله قضاءه. . . وأما المقاومة، وأما هذه الشجاعة البدنية فإني أعجز الناس عنها. . . إنما أنا كالجرذ أعرف أن لي في الحياة حقا آخذه، وأحاول أن آخذ هذا الحق، ولا يمنعني من هذا علمي بأن في الدنيا قططاً وسنانير هي أقوى مني. ولست أفكر إن لاقيت القط أن أقاومه لأنه لا جرذ يقاوم قطا، وإنما هو يحاول الهرب إذا كان للهرب سبيل، أما إذا فاجأه القط استسلم له، وربما هفا إليه. . . تلك هي الطبيعة، والكائنات - كما قلت لك - تتنادى و (تتهاتف) ويفنى بعضها في بعض ولا يبقى غير وجه الله الكريم. والكائنات تطاوع هذا القانون ولا تتكبر عليه، وحق الإنسان أن يكون انصياعه له أكثر واظهر من انصياع غيره مما لم يميزه الله بنعمة العقل، ولعلك ترين أن أهل الفن وحدهم والصالحين هم الذين يستسلمون لهذا القانون وأن غيرهم من الناس ينتكسون بعقولهم على أنفسهم، ويلحظون في حياتهم من الاعتبارات ما لا تقيم له الطبيعة وزناً. . . مثلما فعل المتنبي. . .
- وهلا تريد أن تحسب المتنبي بين الفنانين؟. . . هذا الشاعر المجيد الخالد؟
- إنه فنان من غير شك، ولكنه - غفر الله له - كان يتذبذب كما قلت لك بين الفن وبين أطماعه في الدنيا، وكان يستطيع أن ينقى من هذا، وأن يصقل في نفسه كبرياءه بأن يحرم عليها الترجي في الخلق دون الله، ولكنه ضعف أمام بهارج الدنيا فاختل. . .
- كيف تقول إنه اختل، مع أنك قلت إنه كان حكيما أو كما قلت أحكم الناس؟
- كان حكيما لأنه كان يراقب الناس، وكان إذا راقب تيقظ عقله ووقف على الحق والباطل من أمثالهم وأقوالهم، وكان مختلاً لأنه لم يكن يراقب نفسه، بل إنه لم يكن يعرف فيم يعيش، فهو يقول عن نفسه: إنه عاقل، وإنه ذكي، وإنه عالم، وإنه حساس، وإنه فصيح، وإنه أهل لكل جاه وكل سلطان؛ ثم لا يفعل شيئاً أكثر من أن يسأل الناس أن يعطوه، فإذا أعطوه فهم فضلاء، وإذا لم يعطوه فهو أهل لهجائه. . . وليس بعد هذا خلل وليس بعده اضطراب.
- وماذا كنت تحسبه يستطيع أن يفعل، والحكمة لا سوق لها ولا ربح وراءها؟
- كان يستطيع أن يرتزق من صناعة أو من عمل، وإلا فكان يستطيع أن يصبر على فاقة الحكمة. . . وأن يسعد بنعمائها.
عزيز أحمد فهمي