انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 344/الأدب في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 344/الأدب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1940



الغذاء العقلي والروحي للشباب

ألقى الدكتور طه حسين في قاعة الجامعة الأمريكية كلمة أريد عليها، كما قال في أول كلامه، فاستغرقت هذه الكلمة من الوقت ساعة أو أشفّ قليلاً، افتتحت بالتصفيق الشديد للدكتور طه حسن خرج على الناس ليتكلم!!

ولستُ هنا في مقام التلخيص لهذه الكلمة، ولكني بالمكان الذي يجب عليَّ فيه أن أشقّ للقراءِ موضع الرأي الذي ينبغي لهم أن يشغلوا أفكارهم به ولو ساعةً من نهارٍ، كما شغل الدكتور طه سامعيه ساعةً من ليل يوم الاثنين 29 يناير سنة 1940. وليس في القراء الذين يعرفون الدكتور طه من يجهلُ أن أولّ ما يتكلم به الدكتور إِنْ هو إلا أن يجعل مَردّ كل شيء إلى (يونان) ومدن يونان. . . فلاشك إذن في أن أول نظام عرف للغذاء العقليّ والروحي للشباب، إنما كان في المدن اليونانية والحضارة اليونانية والعقلية اليونانية!! فهذا شيءٌ مفروغٌ منه قد جعله الدكتور طه مذهباً لا يحيدُ عنه، وأسلوباً لا يسُلك غيرَه، ولا بأس بذلك. . . فأنا أعتقد أن اختلاط المدنيات المتعاقبة على الأزمان المتقادمة، قد جعلت لصاحب الرأي سعةً يذهبُ فيها حيث يشاء. فلو قلت أنا مثلاً: إن أول نظامٍ عرفه التاريخ لتنظيم الغذاء الروحي والعقلي للشباب، إنما كان بالصين، وقد فصّله لنا ما بقي من آثار (كونفوشيوس) فيلسوف الصين الأكبر، لوجدت من الدليل ما أستطيع أن أقيم بها عوِجَ الرأي، وأردُّ به على مخالفيّ رد إِلزامٍ وخضوغٍ. . . وكيف لا أستطيع ذلك وفي كل كلمةٍ من كلام هذا الفيلسوف العظيم توجيهٌ لقوى الشاب الصينيّ إلى الخير المحض، وهو الذي يقول: (من حق الشاب أن ننظر إليه بعين الاحترام، فما يدرينا أن علمه في المستقبل سيكون فوق علمنا في الحاضر؟ أمّا من أسند في الأربعين أو الخمسين من عمره ولم يشتهر بعلمٍ من العلوم، فلا يستحق أن ننظر إليه بعين الاحترام). وقد جَعَل كل جهده في تدبير شؤون الدولة الصينية؛ يقول: (إن الاضطراب قد مزّق البلاد بالفوضى، فمن الذي يُعيدُ نظامها)، (لا يمكن أن أعاشر الطيور والوحوش. . . وإذا أنا لم أعاشر هذه الأمة، فمن أعاشر؟ لو كانت البلاد تحت سياسة عادلة لما كنت في حاجة إلى أن أُحاول إعادة نظامها). . .

هذا وغيره من تاريخ الأمة الصينية وتاريخ فيلسوفها يعلمنا أن أول نظام كما إنما كان بالصين؛ فإن شئت أن أقول الهند وأسوق الدليل فعلت. فأنت ترى أن المذهب يتسع في الحضارات القديمة لكل رأي يحتمل به صاحبه إن شاء. واليونان من الأمم القديمة ذاتِ الحضارات القديمة، وإنما نفَعَها وجعَلَها مثابة لبحثِ كلُّ باحثٍ يريدُ أن يردّ إليها مذهباً من المذاهب، بقاءُ كثير من آثارها، ثم قيام أوربا الحديثة بإحياء ما ظمّ عليه الزمن من مدنيتها، وأخفى أمر الحضارات الأخرى ضياع أكثر آثارها أو بقاؤها في قبر من الإهمال والنسيان، وهمود النشاط في البلاد الشرقية التي هي أحق بإحياء آثارها. هذا قليل من كثير يمكن أن يقال في مثل هذا الأمر من أمور التاريخ القديم

وبعد هذه المقدمة، ساق الدكتور طه حديثه ببراعته التي لا يستعصي عليها غامض ولا بعيد ولا متشامخ. وأنا وإن كنت أظن أن الدكتور طه لم يوفق في كلمته كل التوفيق ولم يمس أغراضها إلا مسَّاً رفيقاً غامضاً بعيداً، فإني أعترف بأنه قد استطاع بحسن تحدُّره في المعاني أن يثير من الآراء ما يجبُ أن يُثَار في أفكار هذا الجيل، حتى يمكن بعد ذلك أن نستصلح من أمورنا ما أفسده طغيان الجهل واستبداد الحاكمين، وتوالي المصائب المرهقة على شعب نائم لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أسبابها، ولا أن يذُودَ الوحوش الضاربة التي فَرَضتْ عليه بالاستعباد أقسى ما يمكن أن تبتدعه من ضروب الفتك والعدوان

الدولة والثقافة

فأهم ما تناوله الدكتور في حديثه هذا هو بيانُ موقف الحكومة من الأمة التي رضيتها أن تقبضَ على زمام الأمر فيها تصرفه بما ينفع الناس ويزيدهم قوة على قوتهم. فالأمم كلها قد أسلمت إلى حكوماتها أمر القيام على الثقافة والتعليم، وأعطتها من حُرِّ مالها ما تستطيع أن تنشئ به نظاماً كاملاً للتعليم يكون فيه رضي الشعب وحياطته وتوفير أسباب النهوض العقلي له، وحماية أفراده من أمراض الجهل وأوبئته التي تهد قوى الشعوب وتفتك بالعقول التي خلقها الله لتعمل في تدبير الحياة الإنسانية للوصول بها إلى الكمال الممكن على هذه الأرض

وإذا كانت الحكومة - أو الحكومات - تأخذ من الشعب الأموال المتوافرة الكثيرة بالضرائب التي تفرضها عليه في كثير من مرافق حياته كتجارته وزراعته، لتتخذ هذه الأموال في تدبير الجيش وإعداده وتسليحه وتقويته ليدفع عن الأمة شر المطامع الأجنبية التي لا تلبث أن تغزو البلاد إذا وجدت منه ثغراً مُضاعاً تنفذ إليه منه؛ فمن العبث أن تهمل شأن الفرد الذي يقوم به معنى الجيش، والذي هو المدد الأول للجيش بروحه وعقيدته وفكره وقوته. فالجيش الذي يتكون ويتجمع من شعب جاهل معذب بالجهل محطم بالضعف العقلي والخلقي، لا يمكن أن يكون جيشاً مؤتمناً على ثغور البلاد يحميها من غوائل الحروب

الأغنياء والفقراء

وإذا كانت الحكومات جميعاً لا تفرِّقُ في إمداد الجيش بين طبقات الشعب كلها ناظرة إلى الغنى والفقر، فمن الخطل الذي ليس بعده خطلٌ أن يقوم نظام تعليم هذا الشعب على التفريق بين الغني والفقير؛ فكلاهما قد فرض عليه أن يبذل دمه وماله وقوته وجهده في الدفاع عن أوطانه التي تحكمها هذه الحكومة؛ فمن حقه على الحكومة أن تمده بالأسباب التي يستطيع أن يدافع بها عن هذا الوطن. والأسلحة المختلفة هي بعض أدوات الدفاع، ولكن الأداة الكبرى في الدفاع إنما هي الرجل الذي يحمل هذه الأسلحة، فيجب أن ينصرف أعظم هَمِّها إلى أحياء الرجل في طبقات الشعب غنيها وفقيرها على السواء بالحرص على إعطاء الشعب غذاءه كاملاً من الألوان المختلفة من الثقافات المتعددة، كلٌّ على قدر طاقته ورغبته واستعداده، مكفولاً له الحرية في الاختيار مع التسديد والحياطة والنصح

والحكومة حين تنظر إلى قوى الدفاع تفرض الضرائب على نسبة الأموال التي يملكها الشعب غير مفرقة بين الغني والفقير في نسبة الضريبة التي تتقاضاها منه اقتساراً وفريضة، فكذلك يشترك الغني والفقير على السواء في تحمل واجبات الحرب. فأولى إذن أن يشترك الغني والفقير معاً في القيام بأعباء التعليم والثقافة ونشرهما والمساواة في منحهما للغني والفقير على المساواة بغير تفريق. وليست تفرق الحكومات على الحقيقة بين الغني والفقير بقانون موضوع، وإنما هي تفرق بما هو أعظم خطراً من القانون الوضعي لأنه قانون الطبيعة وقانون القدر. فالغني يستطيع أن يدخل أبناءه جميعاً بيوت العلم من الابتدائي إلى العالي مستعيناً على ذلك بماله الذي استخلفه الله عليه، والفقير لا يستطيع أن يفعل مثل ذلك فيبقي أبناءه طعاماً للجهل الضاري وبقايا من فرائس الفقر المتوحش ومن العجيب الذي لا يعجب إلا منه أن يكون في أمة من الأمم رجل تفضي إليه ثلاثة آلاف جنيه في العام، وليس له من الولد إلا ثلاثة أو أربعة يتكلف في تعليمهم ما لا يزيد عن مائة جنيه في العام كله، ورجل آخر يكون مالاً يدخل عليه مائتا جنيه في العام وله من الولد مثل الذي للأول فهو يدفع مائة مثل مائته أي نصف دخله! فما بالك إذن بالذين ينصبّ عليهم من الأموال ما لا يستطيعون التصرف فيه إلا أن يسفكوه على اللذات والمنكرات من النساء والخمر والقمار وحالقات المال والخُلُق وليس لهم ولدٌ، ثم يكون في الأمة آلاف مركومة من الإنسانية إلى ملايين تنسل وتلد وتمد الأمة بأسباب حياتها من الأبناء والبنات ولا يملك أحدهم ما يقوت به نفسه فضلاً عما يقوت به ولده، فضلاً عما يدفعه لوزارة المعارف أجراً للتعليم. . .! إذن فواجب الأمة أن تحمل الحكومات على تغيير نظام التعليم ونظام الضرائب، فتحصل الضرائب من الشعب كله على نسبة رأس المال والدخل، ليستخدم هذا المال المجموع من الضريبة في تعليم الشعب كله على المساواة بين غنيه وفقيره، ويلغى من وزارة المعارف نظام التحصيل، (تحصيل المصروفات المدرسية من أولياء أمور التلاميذ)! ويكون التعليم كله من أوله إلى نهايته مجاناً مبذولاً معرضاً لكل مستطيع وطالب وراغب بغير تفريق

وأحب أن أقول للدكتور طه، ولغيره من كتابنا، إنه حقٌّ عليهم أن يقوموا بالدعوة، وبالكتابة في مثل هذا الغرض النبيل الذي ينفع الناس ويرفع عن أعناقهم نِير العبودية التي يفرضها الجهل مرة والفقر مرات كثيرة. فإن كلمة الدكتور طه التي ألقاها، إنما سمعها عدد من الناس - أكبر الظن فيهم انهم قد طرحوا عبء التفكير فيها حين خرجوا من باب (قاعة يورت التذكارية)، كما تطرح الأعباء المثقلة. وليس شيء يحمل الحكومة على الجادة وعلى سواء السبيل كالصحافة وكتابها إذا أخلصت وتطهرت من الغرض والهوى والحقد والبغي والعدوان. . . فهل يمكن أن يكون هذا في مصر؟

فإن تسألينا: كيف نحن؟ فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحَّرِ

عناصر الثقافة المصرية

وقد حدد الدكتور طه ألوان الغذاء الروحي والعقلي الذي يجب أن يقدم للشباب، فجعله مركباً من ثلاثة عناصر: العنصر المتحدرُ من تاريخ مصر القديم - الفرعوني - وهو الفن؛ والعنصر المتغلغل في مصر الإسلامية، وهو الدين والأدب والفن العربي الإسلامي؛ والعنصر المتلبس بحياتنا الحاضرة منذ اتصلنا بغيرنا من الأمم التي نتعاون معها أو ننافسها، وهو العنصر الأوربي الجديد، وسترى بعد ما هو عند الدكتور طه

أما العنصر الأول، وهو الفن الفرعوني القديم، فأنا أدعه للكلمة الآتية، فإن اللَّبس كثير فيه، وقد زلّ على مزالقه أكثر أصحابنا ممن فُتنوا به عن صواب الرأي. وأنا أحب أن أتناوله بالبيان الذي يدفع عن مصر شرّاً كثيراً ويحقق لها ما نتمناه جميعاً من الخير

وأما العنصر الإسلامي من الدين والأدب والفن، فقد أجاد الدكتور طه في الدعوة إلى العناية به لأنه أصل المدنية، ومن جَهِل في بلاد مصر - أو بلاد العربية على اختلافها - تاريخ الإسلام فقد حطّ في مَهوىً ينقطع به حبله الذي يصله إلى قومه وإلى حضارته وإلى مستقبل هذه الحضارة التي سوف تنبعث بنورها مرة ثانية في جنبات الشرق فيما أرى. ولكن الدكتور طه بعد أن تكلم عن الاجتماع العربي أو الإسلامي الذي عاشت عليه الأمة المصرية هذه الأجيال ولم تجد به بأساً - كما يقول - عاد فاستدرك عليه بقوله: (بشرط أن يتابع تطور المدنية الحديثة). فأنا والدكتور طه وكل عربي قد درِب بالحضارة وجرَّبها يعرف أن البناء الاجتماعي هو أصل المدينة، وأن الاجتماع إذا صلح استطاعت كل القوى أن تعمل في بناء الحضارة بعقائدها وآرائها وإيمانها وفلسفتها؛ فإذا أردنا أن نجعل النظام الاجتماعي الإسلامي في العمل والتشريع والسياسة هو النظام فمن الخطأ الذاهب في الفساد أن نخضعه لتطور مدنية أخرى قد بُني اجتماعها على المسيحية في التشريع والسياسة والأخلاق. فمصر والشرق الإسلامي إذا أراد أن ينهض فلا بد له - كما قال الدكتور طه - أن يستمد نهضته من أصول الاجتماع الذي يربطه به التاريخ والدم والوطن واللسان والدين والوراثة، وإذا ساير فإنما يساير في فكرة مطلقة وهي (النهضة والحضارة والمدنية الإنسانية) على الطريق الذي يوافق طبيعة هذا الاجتماع. أما المدنية الحديثة فقد بنيت على غير ذلك وقد تطورت على أصوله؛ وليس بعد خطبة الملك جورج ملك الإنجليز ما يدع موضعاً للشك، فقد خطب الملك يوم 25 ديسمبر سنة 1939 في الاحتفال بعيد ميلاد المسيح - صلوات الله عليه - فذكر الاتحاد الإنجليزي الفرنسي للحرب ضد ألمانيا النازية فكان مما جاء في خطبته (ترجمة الأهرام): (إني أومن من أعماق قلبي بأن القضية التي تربط شعوبي معاً، وتربطنا بحلفائنا المخلصين الأمجاد هي (قضية المدنية المسيحية). وليس ثمة قاعدة أخرى يمكن أن تبنى عليها مدنية صحيحة)

ونحن ننظر إلى المدنية الأوربية هذا النظر، وكلام الملك جورج هو من أدق التصوير لحقيقة الحضارة الأوربية في نظر كل باحث نصراني أو يهودي أو مسلم. فإذا أردنا أن نتابع تطوّر هذا الضرب من المدنية بتبديل اجتماعنا - الذي دعا إليه الدكتور طه في حديثه - ليطابقه؛ فكأنما ندعو إلى (تنصير الإسلام). وما أظن الدكتور طه يرضى أن نصير هذا المصير!

والعجيب بعد ذلك أن يذكر الدكتور طه العنصر الثالث وهو الحضارة الحديثة الأوربية، فلا يدعو إلى الأخذ بشيء مما فيها دعوة صريحة إلا في الذي يتصل بالخلق ليكون عندنا الرجل الصريح الذي يتحرى ألا يكذب نفسه قبل اجتنابه الكذب على الناس، والرجل الذي يستطيع أن يقول: (لا) أو (نعم) حين يريد أن يقولها، لا حين يكره عليها!!

ألا إن أخلاق المدنية الأوربية قد استعلنت جميعها في هذا البغي المتفجر في الحرب التي لا يعلم خَبْأها إلا عالم الغيب والشهادة، وإن أردنا أن نأخذ - أي نقلد - فلنأخذ من تاريخنا، من ديننا، من أخلاق رجالنا. . . من الذين استطاع أحدهم أن ينكر على عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ويقول له: (أتق الله يا عمر) فيقوم رجل يستأذن عمر في أن يأمره فيه بأمره، فينهاه عمر ويقول: (دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم). فالرجولة هنا ليست أن يقول الرجل، ولكن أن يتقبل صاحب السلطان هذا القول بالخضوع والرضا؛ فهل فينا من يقبلها يا دكتور طه. . .؟

أو في النفاق الأوربي المتلبس بالرجولة طبقاً للمنافع في أكثر أمره إلا مَنْ عصم الله. . .؟ لا أدري

محمود محمد شاكر