مجلة الرسالة/العدد 343/جائزة هذا العام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 343/جائزة هذا العام

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 01 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

في اعتقادنا أن المحكمين في جائزة نوبل الأدبية والسلمية يلاحظون القضايا العالمية عند اختيار صاحب الجائزة، إذا لم يكن لها مرشح من طراز برناردشو وأناتول فرانس مترلنك ونظرائهم الذين يستحقونها بشهادة العالم قبل شهادة المحكمين

فقد كانت الجائزة من نصيب الكاتبة الأمريكية بيرل بك لأن القضية التي كانت تشغل الأذهان في السنة الماضية هي قضية الصين، وقد اشتهرت الكاتبة الأمريكية برواياتها الصينية العديدة حتى أوشكت أن تقصر على موضوعات الصين كل ما كتبت من الروايات والقصص والمقالات

وكانت الجائزة من نصيب (إيفان بونين) الروسي المهاجر إلى باريس هرباً من طغيان الشيوعيين يوم كانت قضية اليوم هي قضية الحرب بين الحرية والشيوعية وبين عقائد النور وعقائد الظلام في روسيا الحمراء

وقد أصابت الجائزة هذا العام أديباً فنلندياً لم يظهر شأنه قبل ذاك في أمم أوربا الغربية على الخصوص لأن قضية فنلندة هي قضية السلم والحرية وقضية الجهاد النبيل في هذه الأوقات

ومن السهل أن نقرن قبل ذلك بين أصحاب الجوائز وبين القضايا الإنسانية التي نجمت في الهند أو في أيرلندة أو في إيطاليا أو في بولونيا أو في ألمانيا، ولا سيما جائزة السلم التي أصابت كارل فون أوسيتزكي ولم تصل إليه، لأنه كان في قبضة النازيين

ولا غبار عندنا على هذا الميزان وإن لم يكن من موازين الأدب الخالص والنقد المجرد، لأن الجائزة المبذولة إنما هي قبل كل شيء جائزة السلم والمروءة، ولا ضير في الجمع بها بين الاعتراف للأديب الذي ينالها والاعتراف للقضية التي يرتبط بها ذلك الأديب إما ارتباط الموطن أو ارتباط المذهب أو ارتباط العقيدة الاجتماعية

وعلى هذا المعنى لا نرى في هذا العام من هو أحق بها من أدب فنلندة (فراتز إبميل سيلانبا) إذا اجتمع استحقاقه إلى استحقاق أمته للتنويه والتشجيع

ونقول هذا لأننا لم نقرأ للكاتب الفنلندي شيئاً من الكتب والروايات قبل ذيوع اسمه لتلك المناسبة. وليس في وسعنا أن نحكم على أدبه أو على استحقاقه الفني بمعزل عن استحقاق بلاده، فحسبه شهادة وتزكية انه أديب تلك البلاد التي ارتفعت إلى الذروة العليا من مقاوم البسالة والاستشهاد

لم نقرأ له ولكننا قرأنا عنه فذكرنا ما كتبناه في العام الماضي حين قلنا إن المحكمين يختارون لجوائزهم واحداً من اثنين: (فإما أديب من الأعلام البارزين طبقت شهرته الآفاق وحكم العالم له قبل حكم المجمع ونقاده. . . وإما أديب يخدم الطيبة والمروءة ويشيع بين الناس أواصر المودة والرحمة)

فإن لم يكن (سيلانبا) من الأولين فهو ولا ريب - على حسب أوصاف عارفيه - من الآخرين

ويبدو لنا أن هذا الكاتب الفنلندي قد استطاع ما لا يستطاع في كثير من الأحيان:

استطاع أن يوفق بين معيشته ومعيشة أبطال رواياته ومعيشة أبناء وطنه ومعيشة الإنسان في كل زمان بمعزل عن الأوقات والأوطان

فالأبطال الذين يصورهم في رواياته هم فلاحون فنلنديون، وهم مع ذلك أناسيّ صادقون، وهم مع هذا وذاك صدى ما في عيشه هو وعيش أسرته جميعاً من البساطة والسهولة والطيبة وقلة التعقيد

والظاهر أن سيلانبا قد استمد البساطة من نشأته ومن تعليمه على السواء

فهو بنشأته فلاح. وهو بتعليمه (بيولوجي) من تلاميذ داروين المعجبين بذلك العلامة العظيم. وليس في الدنيا شيء يعلم المفكر البساطة والسداد في النظر إلى الحياة والأحياء إن لم يتعلمهما من أخلاق داروين وعقل داروين وطريقة داروين في الملاحظة والاستقراء

وقد أبدع سيلانبا في الرواية الفنلندية نمطاً جديداً غير النمط الذي كان شائعاً في وطنه بين كتاب الروايات والأقاصيص

فقد كان الولع بالحبكة والتشويق والإطناب غالباً على الكثيرين منهم، وكان فن الحكاية عندهم غالباً على فن الحياة أو فن الملاحظة الصادقة عن كثب

ولعلهم وقعوا في غلطة الأكثرين من أدبائنا الشرقيين الذين حسبوا أن القريب لا يستحق البحث عنه لمجرد أنه قريب، وأن البعيد خليق بالسعي إليه لا لشيء إلا أنه بعيد. فتركوا البساطة والقرب وأوغلوا وراء الشذوذ والتعسف، ودلوا من حيث لا يقصدون على صعوبة المطلب القريب واستعصائه على غير العباقرة الملهمين

وجاء سيلانبا فعوّد القراء الفنلنديين كيف يسيغون قصة تقوم على مراقبة أم ووليدها الصغير، أو مراقبة الشيخوخة التي تتشابه فيها الأوقات والخواطر والأعمال، أو مراقبة الأفراد الذين لا يخلقون التاريخ ولا يأتون بالعجائب ولا يخرجون من الغمار، ولكنهم هم الطبعة الشائعة من كتاب الحياة الباقية، وفي هذه الطبعة ولا شك يقرأها من يفتش عن معناها الأصيل

وهو يحسب أن الأفضل الأكمل من مؤلفاته هو ما جاد به عفو البداهة وسخاء الساعة، ومن هنا إيثاره لقصة صغيرة اسمها (هلتووراجنار) وقوله إنها كتبت في سهولة وفيض سريع، وهكذا تكتب أحسن الآثار

لكنه كثير المراجعة لمعظم ما يكتب، فقلما يتركه بغير تنقيح وتصحيح على الهامش. ثم يعاد إليه من المطبعة فيزيد عليه ويحذف منه ولا يستريح إليه إلا بعد تبديل كثير

وأشهر رواياته (سيلجا) وهي كما قال قد ظفرت بالحصة الدنيا من التنقيح والتبديل

رأيت صورته فإذا هي تنم على تركيب بنية الفلاح الضليع المستنير.

ورأيت صورته بين أبنائه وزوجته الأولى فإذا هي تنم على رب الأسرة القرير العين بمعيشته البيتية وحمايته الأبوية

وقرأت تلخيص كتاباته فعلمت أنه جدير بأن يكتب مثله، لأنها من معدنه وهو من معدنها

زاره الكاتب الإنجليزي إيفور بنسون وكان في هلسنكي عاصمة فنلندا يوم إعلان نبأ الجائزة فقال:

لبثت أنتظره بعد الموعد نحو خمس دقائق أو ست. ثم اندفع إلى الحجرة وعلى شفتيه ابتسامة عريضة وفي إحدى يديه زجاجة من الجعة، وفي اليد الأخرى كوب ملآن إلى نصفه، وبادر معتذراً يقول:

(لقد تأخرت لأنني عنيت بالحلاقة الجيدة قبل غد لولا علمي أنني سألقى اليوم إنجليزياً فلا مناص من (عملها) اليوم. . . إذ يقال إن الإنجليزي يحكم على من يلقاه بأشياء ثلاثة: أولها حالة ذقنه، ومر بيده على ذقنه مرور الواثق المطمئن؛ ثم لمس رباط رقبته وعلى وجهه ظل من التوجس ولمحة عصبية ظريفة تشف عن الشك وقلة الوثوق ومضى يقول: أيا كانت الحال فليست هي بالرديئة، وقد أجوز بها الامتحان!

(أما الشيء الثالث فهو الحذاء، ثم جلس على مقعد وسحب بيني وبينه كرسياً يحجب قدميه وقال: ولا أخاله ينجح في هذا الامتحان، ولكنك لا تراه!)

قال إيفور بنسون ما فحواه: إن سيلانبا طفق يتحدث إلي بين الاستحياء والتدفق الصاخب حديث الصاحب الذي قد عرفني طوال حياته، وذكر لي أن الذي يعجبه من التحدث إلى الإنجليز أن جرح شعورهم عسير، وأن معاكستهم مأمونة كل الأمان. وكان يلوح عليه أنه كان يفكر تلك اللحظة فيما يفاجأ به أحياناً من ألم يساوره كلما ظهر له أنه قد أتى بإساءة مستغربة على غير قصد منه

وجملة ما يقال في وصفه أنه رجل بين بساطة الفطرة وتثقيف العلم والحضارة، وأنه في أدبه وفنه وأسلوبه على هذا المثال

عباس محمود العقاد