مجلة الرسالة/العدد 342/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 342/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1940



كتاب (الإمتاع والمؤانسة)

- 2 -

تحدثنا في مقال سابق عن أمثلة من نقد الدكتور بشر فارس لتصحيح كتاب (الإمتاع والمؤانسة) وبيَّناً تفاهة هذا النقد وقلة جدواه. أما نقد صاحبه الدكتور زكي مبارك لتصحيح هذا الكتاب فهو أقل جدوى وأبعد عن الجادة وأكثر تحكما وأشد تعسفاً وتكلفا ًمن نقد صاحبه

وشئ آخر يمتاز به الدكتور زكي على صاحبه أنه يمسك بخناق الكلمة الصحيحة، ويظل يضرب فيها بعصا غليظة من التأويل البعيد ليجبرها على أن تحكم على نفسها بالغلط. فإذا لم تجبه الكلمة إلى ما أراد حكم عليها هو بالغلط، ولا يكلفه ذلك إلا أن يكتب حرف الغين واللام والطاء

وتلك أمثلة من نقده مع ردنا عليها ليتبين القارئ صدق ما نقول وأن هذا النقد كله لا يستند إلى شيء من الحق:

روى أبو حيان في كتابه الذي نحن بصدده مناظرة طويلة بين أبي سعيد السيرافي ومتّى بن يوسف المنطقي، وفيها سؤال نحوي وجهه السيرافي إلى متى، فلم يستطيع متي الإجابة عليه، وطلب إلى السيرافي أن يفيده عن ذلك. فقال السيرافي: (لو حضرْت الحلْقةَ استفدتَ)

وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (الحلقة) ما يفيد أن في الأصل (المختلفة) مكان قوله: الحلقة وهو تحريف

ويقول الدكتور زكي: إن قوله (المختِلفة) ليس فيها تحريف وإنها صحيحة لاشك فيها؛ وفسر قوله: (المختلفة) بأن معناها الطلبة الذين يختلفون إلى المعلم

ونقول: إن قوله (المختلفة) تحريف لاشك فيه كما رأى المصححان الفاضلان، وأن الصواب (الحلقة) كما رأيا، فإن المعلم لا يقول: (إذا حضرت الطلبة استفدت) وإنما يقول: (إذا حضرت مع الطلبة). أو يقول: (إذا حضرت الحلقة) أي حلقة الدرس؛ فهذا أقرب إلى الأحاديث العادية، وأشبه بأسلوب أبي حيان والسيرافي وغيرهما من الأئمة

أما أن يقول المعّلم لإنسان ما: (إذا حضرتَ الطلَبَةَ استفدتَ) فهي عبارة ركيكة لا تلتئم مع أساليب الكتّاب العاديّين فضلاً عن أعلام الكتابة كأبي حيان. ودليل ذلك قوله بعد هذه العبارة: (فليس هنا مكان التدريس)؛ وهذه عبارة تنادي بصواب ما أثبته المصححان الفاضلان

روى أبو حيان في هذه المناظرة السابقة من كلام أبي سعيد السيرافي الذي وجّهه إلى متي بن يونس المنطقيّ يعنّفه ويلومه، قال: (وإنما يودِّكم أن تشغَلوا جاهلاً وتستذلّوا عزيزاً)

وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (بودّكم) ما يفيد أن في الأصل: (قولكم)؛ وهو تحريف

ويقول الناقد: (إن لفظ الأصل صحيح لاشك فيه، فلا موجب لتغييره بكلمة أخرى)

ونقول: إن الصواب ما فعله المصححان الفاضلان: فإن قوله: (وإنما قولكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزاً) حسب عبارة الأصل، غير سائغ في أي أسلوب مهما انحط في درجات الكتابة؛ فهي عبارة ممزّقة النسج، فاسدة المعنى، فإن كون المناطقة يشغلون الجاهل ويستذلون العزيز ليس قولاً، وإنما ذلك قصد وإرادة، بدليل قوله بعد: (غايتكم أن تهوِّلوا بالجنس والنوع)

وإذن فالملائم لسياق الكلام أن يقول: وإنما بودكم أن تفعلوا كذا، وغايتكم أن تفعلوا كذا. . .

ومنها ما رواه أبو حيان في هذه المناظرة أيضاً من كلام متي ابن يونس المنطقي، يقول: (لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب. . . إلا بما حوَيْناه من المنطق، وملكْناه من القيام به)

وقد كتب المصححان الفاضلان على قوله: (حويناه) ما يفيد أنه في الأصل: (جربناه) مكان قوله: (حويناه)؛ وهو تحريف ويقول الناقد: أن قوله (جربناه) صحيح لا تحريف فيه

ونقول ردا عليه: إن فعله مصححا الكتاب هو الصواب بعينه؛ وقوله (جرَّبناه) في هذا الموضع تحريف لاشك فيه ولا معنى له؛ فإن قول المؤلف بعد: (وملكناه من القيام به) ينادي بصحة ما أثبت مصححا الكتاب، فإن (حويناه) و (ملكناه) بمعنى واحد وإن اختلفا في اللفظ، كما هو ظاهر

ومنها ما قاله السيرافيّ أيضاً موجها الخطاب إلى متّي يعرّفه فضل اللغة العربية، قال: (وإذا لم يكن لك بُدٌّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة)

وقد كتب مصححا الكتاب على قوله: (الترجمة) ما يفيد أن في الأصل: (التجربة) مكان قوله: (الترجمة) وهو تحريف

ويقول الناقد: إن لفظ الأصل صحيح

ونقول: إنه تحريف كما رأى مصححا الكتاب، إذ لا معنى لقوله: (التجربة) في هذا الموضع؛ وإلا فما معنى أنه محتاج إلى قليل اللغة لأجل التجربة؟ وما المراد بالتجربة هنا؟

إنها على هذا الوجه عبارة غير مفهوم المراد منها. على أن سياق الكلام يدل على أن الصواب كلمة (الترجمة) كما رآه المصححان الفاضلان

وأنا أروي لك هذه الجملة والجمل التي بعدها ليتبين لك أن السياق يقتضي لفظ (الترجمة) لا (التجربة). قال: (وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة) (يريد الترجمة من اليونانية إلى العربية)

ومنها ما رواه التوحيدي من كلام السيرافي أيضاً الذي وجهه إلى متى المنطقيِّ يقول له ما نصه: (ثم أنتم في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة) أه ومعنى قوله: (لا تفون بالكتب) أنهم لا يقومون بحقها وما يجب لها من الشروح والتعليقات، فهي كتب ناقصة غير مستوفاة

وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (لا تفون بالكتب ما يفيد أن في الأصل: (لا تقولون)؛ وهو تحريف أه

ويقول الدكتور مبارك: إن كلمة الأصل صحيحة وإن عمل المصححين لا موجب له

ونقول: ما معنى أن المناطقة لا يقولون بالكتب - كما يرى الناقد -؟ الحق أنها عبارة فاسدة، لأن المناطقة يقولون بالكتب ويؤلفونها ويقرءونها؛ وأن ما فعله المصححان الفاضلان هو الصواب بعينه، بدليل قول المؤلف بعد: (ولا هي مشروحة) فإن هذه العبارة تدل دلالة واضحة على أن السيرافيّ يريد أن المناطقة لا يفون بالكتب وأن كتبهم ناقصة

ومن أمثلة هذا النقد التافه أيضاً قول الناقد في عبارة التوحيدي ونصها: (بل الأشياء منها ما يوزَن، ومنها ما يُكال، ومنها ما يُذرع، ومنها ما يُمْسح، ومنها ما يُحزَر) وقد كتب المصححان الفاضلان على قوله: (ومنها ما يحزر) وهي العبارة الأخيرة ما يفيد أن في الأصل: (ومنها ما يمسح ويحزر) بسقوط كلمة (ومنها ما) قبل قوله: (يحزر) وأنهما قد زادا هذه الكلمة كما يقتضيه سياق الكلام، فإن المؤلف قد عبر في كل ما سبقها بقوله: (ومنها ما)

ويقول الناقد: (انه لا موجب لزيادة (ومنها ما) وإن الصواب ترك العبارة هكذا: (ومنها ما يمسح ويحزر) كما هي عبارة الأصل أه

ففي أي لغة يسوغ هذا الكلام؟ إن ما يمسَحُ يا دكتور زكي غير ما يحزر، فإن الحذر هو تقديرك الشيء بالحدس والتخمين كما تفعل في نقدك، وما يُمسح معروف

وإذا كان المؤلف قد قال: (منها ما يكال ومنها ما يوزن) الخ ألا يقول: (ومنها ما يمسح ومنها ما يحزر)؟

وقد كان بودّنا أن نترك عبارة المؤلف تردّ بنفسها على الدكتور زكي مبارك دون أن نعلْق عليها هذا التعليق الطويل

تلك أمثلة من نقد هذين الكاتبين الدكتور زكي مبارك وبشر فارس قد أتينا بها ليعلم القراء قيمة ما نقدا به هذا الكتاب القيم في تصحيحه ومادته

ولا نريد أن نقف أمام كل ملاحظة من ملاحظاتهما موقف الرد والمناقشة فشرح ذلك يطول، ولا تتسع الصحف لمثل هذه الفضول. وإن أتفه الأمور المناقشة في توافه الأمور

ولنا عودة إلى الحديث عن قيمة هذا الكتاب من ناحية مادته، وما أودَعَه فيه مؤلفه من علم غزير وأدب جمّ

ع. ص