مجلة الرسالة/العدد 341/من مذكراتي اليومية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 341/من مذكراتي اليومية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1940


من عادتي كلما ثقل على الحاضر وضاقت بي الحال أن أعود إلى ماضيَّ فأنشر عهوده وأَجْترَّ ذكرياته. وسبيلي إلى ذلك استغراق الفكر فيما سجلت صحائف الصبي من حوادث، أو العيش مع إخواني الذاهبين فيما كتبت وكتبوا من رسائل، أو الرجوع إلى ما دوَّنتُ في مذكراتي اليومية من خواطر. وكان ليناير من دون الشهور نوطة شديدة بالقلب وأثر بالغ في الذاكرة؛ فوقع في نفسي وأنا أهم بالكتابة فيما أوحاه إلىَّ أسبوعه الثاني، أن أتصفح مذكراتي لأقرأ ما كتبته فيه سنة من السنين.

فتناولت جزءاً من أجزائها المتروكة وفتحته على موضوع هذا الشهر منه فإذا بي أقرأ في يومه الرابع عشر ما أنقله إليك بحرفه:

يوم الجمعة 14 يناير سنة 1938

في مثل هذا اليوم من سنة 1932 وُلد لي ولدان: طفل وكتاب. اذكر هذا كل الذكر، لأنني في ذلك اليوم المقرور عدت في مُتوع الضحى من دار المعلمين بالكرخ إلى داري بالرصافة، فلزمتها جالساً أمام المدفأة الموقدة أكتب الفصل الأخير من كتابي؛ (العراق كما رأيته). ثم جاءني النبأ من مصر بعد ذلك بأن (رجاء) ولد في هذا اليوم نفسه. وكان طفلي وكتابي أعز شيء عليّ؛ لأن ابن نفسي كان نتيجة أربعين سنة من خير عمري، وأبن فكري كان نتيجة ثلاث سنين من خير عملي

أجل، قضيت ثلاث سنين في تأليف (العراق كما رأيته)! جمعت مادته من الآثار والأسفار والأساطير والكتب والمناظر والأحاديث في سنتين، ثم حررته وأنشأته ببغداد في سنة؛ فلم أكتب منه في القاهرة إلا رحلتي إلى كردستان والموصل وجبال عبدة الشيطان، وإلا عودتي إلى سورية عن طريق دير الزور وحلب. ثم وجهت عزيمتي إلى نشره فهيأته للطبع وتربصت به مواتاة الفرصة. ولكن اثاقلت حتى وفد إلى مصر صديق من رجالات العراق له بصر وخطر، فرغب أن يقرأ فيه ما كتبت عن بعض الناس وما علقت على بعض الحوادث، فحملته إليه في (الكنتننتال) فحبس نفسه عليه نصف نهار لم يبرح فيه الفندق. ثم رده إلى في المساء وهو يقول في سمته الرزين ومنطقه المتئد: (أشهد أن كتابك أول ما كتب عن العراق في صراحة ولباقة وإخلاص وصدق. ولقد طويت عني ما قلته فيَّ، ولكنني بعد أن قرأت ما قلته في غيري أكاد أعرفه بالاستنتاج والحدس. ولع الخير لنا ولك أن تؤخر نشر القسم السياسي منه إلى حين. إما قسمه الأدبي والاجتماعي فستكثر حولهما الأحاديث، ولكنهما في الأدب والنقد والتاريخ نصر وفتح)

نزلت على رأي الصديق العظيم وعدت بالمخطوط الغالي إلى موضعه من المكتب. ثم أعلنت أني سأنشر بعض صوره الأدبية في (الرسالة)، وقد نشرت بالفعل منه فيها صورتين أو ثلاثاً رفَّت لها الآذان وأصغت إليها الأفئدة

ولكني وا أسفاه! لم يعد للطفل الحبيب نفَس ينسم على نفسي ببرد الجنة، ولم يبق من الكتاب العزيز سطر يشعب فؤادي بذكرى العراق!

وا لهفتاه على ولدي الذي أبدعه الله، وعلى أخيه الذي أبدعته! جاءا معاً في الشتاء، فلم أجد لوجودهما برداً ولا عبوساً ولا كآبة؛ وذهبا معاً في الربيع، فلم أحس لفقدهما دفئاً ولا طلاقة ولا بهجة. أودي بهما القدر العابث خداعاً وغيلة، فسلب العين الكلوء ريبة الحذر، وجرد الدفاع اليقظ من فرصة الحيلة. دب للطفل الموت الوحيُّ في وعكة خفيفة من البرد ظنها الطبيب زكاماً عارضاً فإذا هي الخناق القاتل. ومشى للكتاب القدر المحتوم في ركام من الورق المتروك فذهب به خلسة إلى النار المبيدة!

أخذت ذلك الكتاب ذات يوم من درج المكتب لأختار منه فصلاً للرسالة، ثم جلست في البهو على كنبهُ بعثرت من فوقها وأمامها تجارب المجلة وأصول المقالات، فاخترت من المخطوط قطعة أدبية ثم ألقيته إلى جانبي، وأخذت أصحح (الملازم) وأطرح (الأصول) حتى فرغت من ملزمتين فدفعتهما إلى غلام المطبعة، وخرجت من البهو لا في يدي ولا في جيبي لأترك هذا الورق المهمل لخادم البيت تكنسه من هنا وهنا، ثم تطرحه على عادتها كل يوم في صندوق الكناسة، ويأتي الزبال فيأخذ ما تجمع في الصندوق ويحمله على عادته كل يوم في زنبيله إلى المستوقد!

وهكذا قضى الله أن تذهب إلى العدم خلاصة العمر وعصارة الفكر في فترة ضائعة من فترات الغفلة! وهيهات أن يكون لهما في الحياة عوض، فإن الفلذة إذا اقتطعت من الجسم لا ترجع إليه ولا تتجدد فيه، وسحر المنظر الجديد لا يتكرر أثره في نفس زائره ومجتليه

حولت بصري عن الصفحة ثم أطرقته. ولجّ بي الإطراق والاستغراق حتى سقط الدفتر من يدي، وتلاشى الحاضر من نفسي، ووثب الماضي إلى خاطري، ووقفت أما الفاجعتين وجهاً لوجه، فكأنما لبث من الزمن واقفاً حيث كان، وظل الجرح نازفاً حيث طُعن، وبقى القلب واقداً حيث اشتعل؛ وكأنما أسلمني كل ضعف إلى الجزع، وخذلتني كل قوة حتى الأيمان!

تفصد جبيني بالعرق، ثم أخضل جفني بالدموع، فأخذت نفسي تثوب رويداً إليّ، وتحركت يدي في فتور فتناولت الدفتر ثم جعلت أصحفه، فعثرت في ثناياه على ورقة بالية من مسودات كتابي الفقيد؛ فنشرتها بين يدي ثم أقبلت على قراءتها لهيف القلب زائغ البصر فقرأت:

(. . . هذه القهوة الضّحيانة التي رقدت على صدر دجلة النابض، واستغرقت في الدفء والضوء والسكون، كانت أحب القهوات إلى القلب العميد والخيال الشاعر. وكنت كثيراً ما أغشاها بُعيد الغداء فأجد جماعة أو جماعتين يلعبون الورق هنا، وفتى أو فتيين يتساقطان الحديث هناك، وبائع (الأبيض والبيض والعَنْبا) يسرق خطاه بين هؤلاء وأولئك فيذكر بندائه الخافت البطون التي شغلها عن طلب الطعام سكرة القمار أو نشوة المنادمة، فأجعل ظهري إلى أحلاس القهوة، ووجهي إلى وجه دجلة، وعيني إلى جسر مود، ثم أشاهد فلماً عجيب الألوان من الناس والأجناس والصور: فهذا قطيع من الغنم يعبر إلى جسر المجزرة في حمى راعيه، وهو مستسلم لصوته ومنقاد لعصاه استسلام الأمة للطاغية يقودها إلى الحرب، وانقياد الخليقة للقدر يسوقها إلى الموت! وهذا الملك فيصل يعود من قصر العرش إلى قصر الزهور من غير حرس ولا جلبة، فيقف في غمرة الناس على فم الجسر ينتظر أن يعبر القطيع وراعيه! وهنالك تلاقى راع وراع، وتقابل قطيع وقطيع! ولكل إنسان في دنياه مملكة ينفذ فيها حكمه، ودائرة ينعقد عليها افقه. . .) ثم حاولت أن أقرأ بقية الورقة الذابلة الحائلة فلم استطع!

احمد حسن الزيات