مجلة الرسالة/العدد 341/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 341/رسالة الفن
دراسات في الفن
هشْت. . .!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هشت!
-. . . ما قلة الحياء هذه؟ أنداء هذا تنادينني به في الشارع؟
- وماذا أيضاً في هذه النداء يغضبك؟ إنه النداء الذي كان لابد أن تلبيه. وقد لبيته
- ومن أين جاءك هذا التأكيد؟ هل جاءك أني تسميت أخيراً (هشت)؟ أليس لي أسم تنادينني به؟
- ومن أين جاءك هذا الاسم؟
- سماني به أبي. . . ثقلت عليك الثواقل. . . ألست تعرف أن لي اسماً؟
- أعرف أنهم يطلقون عليك لفظاً يعلمونك به بين سائر الناس، وأعرف أيضاً أنك رضيت بهذا الاسم وسكت عنه ولم تعارضي فيه، ولكنني لا أذكر أنك أخذت رأيي في هذا الاسم وفي مدى صلاحه لك، وفي قيمة المؤثرات التي أنتجته، وفي تحديد ما كان من هذه المؤثرات طبيعياً، وما كان منها مصطنعاً متكلفاً. . .
- يا دين النبي! أتريد أن نعقد المفاوضات في هذا كله، ثم نتفق على هذا كله قبل أن تناديني باسمي؟ من يدريك أننا قد نقضي العمر في هذه المناقشات قبل أن نتفق على أسم كل منا، فإذا فرغنا من هذا كنا قد أفرغنا قوانا فيه فلا نستطيع بعد ذلك أن نتحدث في موضوع ما، فإذا اجتمعنا بعد ذلك قلت لك وأنا ألهث من متاعب اسمي واسمك: تشرفنا يا من الله أعلم باسمك، فتقول لي: (حفظتم)، ومن يدري فلعلك تسألني: (ومن أين جاءك أننا تشرفنا)؟
- هو هذا. فالاسم إذا لم يكن تعبيراً صادقاً عن المسمى كان اسماً كاذباً، وقد اعتاد الناس أن يسموا أبناهم عند ولادتهم وهم لا يعلمون من أمرهم شيئاً ولا من صفاتهم شيئاً فيسمون (عفيفاً) من قدر الله له أن يكون (دنيئاً) ويسمون مؤمناً من قدر الله له أن يكون (كافراً). . .
ويسمون ما يشاءون، ولله في عبده أسماء وعلامات قد تتفق مع أسمائهم، وقد لا تتفق وكان يمكن للأسماء جميعاً أن تتفق مع مسمياتها ولو في الظاهر، إذا لم يتعجل الناس ويسموا أبناءهم، وإذا تريثوا حتى يقضي كل فرد حياته المقسومة له في الدنيا فينظروا فيها ويستخلصوا منها الوصف الذي غلب عليه فيسموه به. . . هذا هو ما كان يجب أن يحدث ولكن الناس متعجلون، وقد رأوا أن الله وهب لهم ميزة النطق فاستغلوها بالحق وبالباطل، وأعملوا فيها عقولهم، وراحوا يخترعون الألفاظ والكلمات ليقضوا بها حاجاتهم العاجلة، ونسوا أن القدر الذي هيأ لهم النطق قد هيأ لهم اللغة. . . أو هم قد حسبوا أن أمر اللغة هذا موكول لهم فحرروا تصرفهم فيه، ولم يقيدوه إلا بإرادتهم، وإرادتهم كانت في البدء سليمة، ولكنها أخذت تهلهل وتتمزق وتتشعب فأصبحوا يريدون ما لا يصلح أن يكون موضع إرادة، أو متجهاً لرغبة، فبدءوا منذ ذاك الحين يخطئون الكلام، حتى تفرقوا شعوباً لكل شعب إرادة، فتبلنات ألسنتهم وأصبح لكل شعب لسان، ويا ما في هذه الألسنة جميعاً من كلام ما أنزل الله به من سلطان. . .
- يخيل إلى أنك كنت تفضل أن يكون الإنسان حيواناً صامتاً
- بل كنت أفضل أن يتكلم الناس كلهم لغة واحدة. . .
فقد خلقهم الله ناطقين وليس عليهم أن يصمتوا بينما أراد الله بهم أن يسبحوه بكرة وعشياً. . .
- ولماذا لا تدعوه إلى الاسبرانتو. . . مادمت تريد أن يتكلم الناس جميعاً لغة واحدة. . .
- الاسبرانتو لا يمكن أن يتعلمها الناس إلا بالتلقين في المدارس، أما اللغة التي أطلبها فلغة ينطق بها الناس أينما كانوا من تلقاء أنفسهم بلا معلم، ويفهمها الناس أينما كانوا من أنفسهم بلا معلم أيضاً. . .
- وهل هذا ممكن؟ أو أنت لم يعد يريحك إلا أن تشرأب إلى المستحيل؟
- أن الذي أطلبه ممكن وممكن؛ بل أنه أكثر إمكاناً من الممكن، فهو كائن وحادث
- في أي عالم كائن هذا وحادث؟ في أي دنيا وفي أي أرض؟
- في أرضنا ودنيانا هذه، ولكن ليس في عالم البشر، وإنما هو عالم الحمير، وفي عالم الخراف، وفي عالم القطط، وفي عالم الكلاب. . . في هؤلاء العالمين وفي غيرهم. هات قطاً من أمريكا، وهات قطاً من أفريقيا، وهات قطاً من أوربا، وهات قطاً من حيثما شئت، واجمعيها في صعيد وانظريها واسمعيها وهي تموء وتقول (نو) ثم قولي لي بعد ذلك أرأيت أنها تتفاهم أم لم ترى؟
أما أنا فأقول لك أن كلا منهما يفهم صاحبه، ويعرف ما الذي يريد وما الذي ينزع إليه. . .
- أن كل قط يراقب حركات صاحبه فيعرف منها الذي يريده
- أخفى القط عن صاحبه ترى أنهما لا يزالان يتفاهمان
- بأي شيء يتفاهمان؟
- بلغة القطط
- وهل للقطط لغة؟ أنا لم أسمع قطاً يقول غير (نو) فإذا فرضنا أنها لفظة فهل يمكن أن يقال عن اللفظة الواحدة إنها لغة؟
- إنها لغة، وإنها لغة كاملة، والقطط في الحياة الطبيعية تقضي حاجاتها جميعها بها، وهي على هذا الفقر والجدب الذي ترينه تحتفظ بمكانة لا بأس بها بين لغات الأرض، فالنسبة بينها وبين اللغة الصينية كالنسبة ما بين 1، 3000 أو 6000 وهو أقصى إحصاء لاقاني للغة الصينية. . . وهذه نسبة تذكر من غير شك وتستحق التأمل من غير شك. . . فليس هيناً أن يكون شعب من الشعوب عتيقاً مثل الشعب الصيني، ولا تتباعد النسبة بين لغته ولغة القطط أكثر من هذا البعد الطفيف. والنظرة التي أنظر بها أنا إلى الشعب الصيني هي نظرة إجلال وإكبار، فأنا مؤمن بأنه شعب مغرم بالقداسة والطهر والاتجاه بالنفس إلى إرضاء سنن الطبيعة المتطورة المرتقية التي سنها الله، وهذه هو السبب في أن اللغة الصينية لا تزال قليلة الكلمات إلى جانب غيرها من اللغات، فإن أهلها لا يحبون الثرثرة ويستغرقون في التأمل طويلاً، يبحثون عن أنفسهم، وهم لا يتكلمون إلا في الضروري من الحاجات، وضرورياتهم الخاطئة قليلة إلى جانب ضروريات غيرهم الخاطئة العاجلة. . .
- إذا وافقتك على أن الميل إلى الصمت والاستغراق في التأمل هما السبب في قلة الألفاظ عند الصينيين فلا أظن أني أستطيع موافقتك على أن التأمل هو السبب في قلة الألفاظ عند الحيوان. . .
- لماذا لا يكون هذا هو السبب. . . أتنكرين على الحيوان أنه يتأمل وأنه يتفكر؟. . . من التعسف الشديد أن نقول هذا، فالحيوان يتأمل ويتفكر، ويبدو عليه ذلك، وإن للحمار والحصان إطراقة بينة ولها معان، وقد أحس بعض الشعراء والأدباء والفنانين الصادقين هذه المعاني فناجوا الحيوان. . . أفكان هؤلاء مجانين فنانين أصحاب خيال؟ طيب، وما رأيك في سيدنا سليمان الذي كان يكلم الطير والدابة. . . أفكان هذا نبياً وكانت هذه معجزة؟ طيب، وما رأيك في مدربي شركات السينما الذين عملوا رن تن تن وغيره من النجوم الحيوانات التمثيل؟ أليس هؤلاء ممن يتفاهمون مع الحيوان؟ إن التفاهم مع الحيوانات ممكن، وإن للطبيعة لغة! وإن من المخلوقات ما لا ينطق إلا ما توحيه الطبيعة من الكلمات والألفاظ وأن منها ما يثرثر، وليته يثرثر فيما ينفع. . .
ثقي أن الإنسان لو كان قد صبر حتى تعلمه الطبيعة الكلام لكان قد اهتدى إلى ألفاظ ينادي بها الجماد فيلبيه
- الجماد الجماد؟
- الجماد وما هو اجمد. ألم يقل الله في قرآنه أن هذا القرآن لو قرء على جبل لاندك؟
- والقرآن عربي
- وهل قلت لك إنه لاتيني أو يوناني. . . ولكن أذهبي وأقرئيه على جبل وانظري أيندك أم تندكين أنت؟ أن الذي يدك الجبل هو القرآن العربي لو قرىء بالروح والإرادة
- ولكن اللغة التي كنا نتحدث عنها لغة قلت لي إن لها ألفاظاً
- وهل أنكرت أنا أن هذه الألفاظ عربية؟! إنما الذي أنكره هو أننا ننطق هذه الألفاظ من أعماقنا. . . أقول لك هذا وأذكرك بأن في القرآن ألفاظاً لم يعرفها العرب قبل القرآن
- تريد السندس والإستبرق وما إلى ذلك؟
- لا. فهذه من صنع الناس أيضاً. . . وإنما أريد (كهيعص)، و (حم)، و (يس)، و (طه)، و (الر) وما إلى ذلك. . . هل تعرفين معاني هذه الألفاظ؟
- لقد اختلفوا فيها أيما اختلاف. . . فهل اهتديت أنت إلى معانيها. . .
- ليتني أعرف معنى إحداها، من يبيعني (يس) بليسانس الآداب ودبلوم التربية؟! هاتين الهباءتين اللتين لا تشهدان على شيء إلا على الاطلاع على ما قال القبعثري وما قالت مونتسوري! هف! أريد أن أتكلم يا رب. . . ولكني أحرك شدقي وأصوت فيتعثر لساني في حروف صفها أجدادي بعضها إلى جانب بعض.
هل سمعت حيواناً يتلعثم؟ هل سمعت يوماً ثوراً أراد أن يقول (بع) فقال (كع) او قال (سع) ولكن الناس يتلعثمون فلماذا يتلعثمون؟ ولماذا لا يتلعثمون إلا عندما يلتفتون إلى أرواحهم وأنفسهم عند التدبر أو عند الحذر؟ أليس ذلك لأن هذه الألفاظ التي نصطنعها ليست من الطبيعة في شيء وأنها تفلت منا ما لم نوجه إليها انتباهاً خاصاً؟ أليس كذلك؟. . .
- إن هذا سبب لا يمكنك أن تقطع بأنه السبب
- أني أعلم هذا، وأعلم أيضاً أن كل ما قلته لك لا يمكنني أن أقطع به، كما أعلم أن القطع به يحتاج إلى تجنيد علماء النفس، وعلماء اللغات، وعلماء كثيرين غير هؤلاء يتقصون ويدرسون ويشاهدون ويجربون ويقضون في بحثهم هذا السنين، وربما القرون. وقد ينتهون إلى تكذيب هذا الكلام وتسخيفه، ولكن ليس معنى هذا أن أحداً من الناس يستطيع منذ الآن أن يرفض هذا الكلام، فرفضه يحتاج إلى تفكير مثلما يحتاج إلى التفكير قبوله، وأن معي من القرائن والأدلة ما يحتاج إلى جهد قبل تحطيمه. . .
- علىّ منها بدليل وقرينة
- أما دليلي على أن للطبيعة لغة تعلمها للناس فإجماع الأطفال في الدنيا كلها على نداء الأب بقولهم (بابا) وعلى نداء الأم بقولهم (ماما). . . ولا تزال اللغات تحتفظ بالباء أو ما يشبهها فيما أطلقت على (الأب) من أسماء كما لا تزال تحتفظ بالميم وما يشبهها فيما أطلقت على (الأم) من أسماء. وأما القرينة. .
- أن الأطفال يقولون بابا وماما لأن الباء والميم حرفان مفرقعان من حروف الشفتين، وحروف الشفتين هي أسهل الحروف وأسرعها إلى الخضوع والانسياق للإنسان
- طيب، ولماذا لا يخطئ طفل فيقول لأمه (بابا) ولأبيه (ماما)؟ هل يعلمه أحد هذا؟ الطبيعة تعلمه إياه.
وفي لفظة (ماما) ما يشبه حركة الامتصاص والرضاعة، وإن في لفظة (بابا) ما يشبه الاستنجاد بقوة الأب. . .
- صحيح أو كأنه صحيح. . . وكنت تريد أن تستشهد بقرينة. . .
- نعم. أن الأرض في اللغة العربية أسمها (أرض)، وفي اللغة الإنجليزية أسمها تنطق إرث و (الإرث) في اللغة العربية ما يورث، والإرث في الأديان جميعاً هو الأرض أورثها الله للإنسان. . . واللغة العربية بعيدة كل البعد عن اللغة الإنجليزية، وعلماء اللغات يوسعون الشقة بينهما، فلا بد أن تكون كلمة الأرض علمته الطبيعة للناس اسماً للأرض، لأن هذه التشابه لا يحدث إلا في هذه الحالة، أو في حالة أخرى، وهي أن تكون لغة من هاتين اللغتين قد أخذت هذه الكلمة من اللغة الأخرى وهذا يستبعد أن يحدث في أسم الأرض التي هي أم الناس جميعاً والتي يعرفها الناس جميعاً، والتي لا يمكن أن يظل شعب من الشعوب غافلاً أو عاجزاً عن تسميتها، حتى يأخذ أسمها عن غيره
- وماذا أيضاً؟. . .
- ليس علىّ أن أصل بك إلى نهاية الطريق، بل يكفيني معك أن أشير إليه، فأسعى إذا شئت، ولكل إنسان ما سعى.
- وهبنا وصلنا إلى هذه اللغة الطبيعية التي تقول عنها. فماذا نصنع بها أكثر مما نحن صانعون بلغاتنا. . .
- أول ما يحدث أن ينمحي من الدنيا الكذب، فكلمات الطبيعة لا يلفظها إلا الطبع. . . عندئذ يستطيع الإنسان أن يستمع إلى صاحبه بإذنه فقط، وألا يتفرس في وجهه بعينيه، ليرى مدى ما ينطق كلامه على ما يختلج في نفسه. . . عندئذ سنكشف الأنفس وتخاطب الضمائر الضمائر. . . فإذا قلت لك (هشت). . .
- قلت لك (كش). . .
- فقلت لك (هم). . .
عزيز أحمد فهمي