مجلة الرسالة/العدد 340/الأدب في سير أعلامه
مجلة الرسالة/العدد 340/الأدب في سير أعلامه
بيرون
ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية
للأستاذ محمود الخفيف
نشأته وطفولته
ستمضي السنون ويبقى بيرون في الغرب كالمتنبي في الشرق يحمل النفوس على الإعجاب به، من أحبه ومن لم يحبه في ذلك سواء. وستظل عبقرية هذا الشاعر الشاب كالشعلة تنتقل من جيل إلى جيل فلا تزداد على الأجيال إلا تألقاً وإيماضاً. وما كان لشعر كذلك الذي جاشت به تلك النفس المتوثبة الثائرة، وغنت به تلك القيثارة الملهمة الساحرة، أن تذهب الأيام بروعته وسحره، مهما تغيرت فنون القول واختلفت ضروب البيان
وما عرفت إنجلترة، بل وما عرفت أوربا كلها شاعراً كاللورد بيرون بلغ في مثل سنه مبلغه من نباهة الاسم وبعد الصيت في القارة جميعاً. وما عرف تاريخ الآداب رجلاً هز عصره هزاً متوالياً عنيفاً كما هز عصره ذلك الشاعر الذي تمرد على كل شيء حتى على نفسه. وما لقي بيرون من الإعجاب الشديد والسخط الشديد. ثم ما أختلف النقاد في رجل اختلافهم في ذلك الذي كانت شخصيته الفذة مجموعة عجيبة من المتناقضات، ذلك الذي بلغ قمة المجد الأدبي وهو في الرابعة والعشرين ثم غيب في لحده ولم يتجاوز السادسة والثلاثين
ولد جورج بيرون في لندن عام 1788، أي قبل أن تنبعث الثورة الكبرى في فرنسا بعام واحد، كأنما أراد القدر أن تستقبل هذه النفس الثائرة الحياة في عصر كانت تعصف فيه أنواء تلك الثورة العاتية بأوربا كلها. وكانت الأسرة التي انحدر منها ذلك الشاعر من أعرق الأسر في إنجلترة كلها، فلقد جاء رأسها مع وليم الفاتح عند الفتح النورمندي في القرن الحادي عشر؛ وكان بيرون يفخر أشد الفخر بانتمائه إلى تلك الأسرة حتى لقد قيل إنه كان يزهى بحسبه هذا أكثر مما كان يزهي بأنه مؤلف تشايلد هارولد ومن على أن الشاعر قد ورث من بعض أفراد أسرته هذه بعض ما لا يحمد من الصفات؛ فكان سيئ الحظ من هذه الوجهة بانتمائه إلى هؤلاء. وحسبنا أن نشير منهم إلى اللورد الخامس في هذه الأسرة، ذلك الذي كان ينعت باللورد التعس، فقد كان شاذاً إلى حد يقرب به من الجنون، فهو يبعثر أمواله وهو يحتجب عن الناس، وهو لا يهدأ ذات ليلة حتى يقتل قريباً له في مبارزة دعاه إليها على ضوء شمعة في غرفة مغلقة على أثر خلاف نشأ بينهما وهو يأتي من ضروب اللعب والعبث مالا يفترق به عن الصبية!
وكان لهذا اللورد التعس أخ يعمل في البحرية وقد وصل بجده إلى مرتبة الأدميرال ولكنه كان يعرف بين زملائه ومرءوسيه باسم (الجو العاصف) لأنه ما ركب البحر إلا هبت في إثره عاصفة، وأنجب هذا الأدميرال ولدين كان كبيرهما قسيم المحيا وجيه الطلعة حسن السمت، وقد انتظم في سلك الجندية وهو في سن اليفاعة وخاض غمار الحرب الأمريكية فيمن خاضوا، ثم عاد إلى انجلترة وهو في العشرين من عمره، فكانت وجاهته تحصر الإحداق فيه، إلا إنه عرف بحدة عواطفه وعدم مبالاته وجرأته أكثر مما عرف بجماله، حتى لقد حمل هو أيضاً بدوره لقباً، ذلك هو جاك المجنون
وفتن جمال جاك إحدى الحسان وكانت زوج أحد اللوردات حتى هامت به. ولم تتردد حينما مات أبوها وخلف لها أربعة آلاف من الجنيهات كل عام أن تهرب معه إلى فرنسا، حيث خملت منه ثم وضعت بنتاً، ولكن هذه المرأة المسكينة ما لبثت أن قضت نحبها إثر مرض كما يقول بعض الناس أو من جراء سوء معاملة زوجها إياها كما يقول آخرون
على أن جاك ما لبث أن أوقع في حبائله سيدة اسكتلندية إلا تكن جميلة كسابقتها فقد كانت ترث عن أبيها ثروة قدرها ثلاثة وعشرون ألفاً من الجنيهات، وقد شغفها حباً ذلك الشاب الغريب الأطوار ثم بنى بها فأنجبت له بعد أربعة أعوام طفلاً هو الشاعر الذي نحدثك عنه
كانت هذه السيدة الاسكتلندية تدعى كاترين جوردون، وكانت تزهي هي أيضاً أشد الزهو بالأسرة التي تنتمي أليها، فقد كانت تجري في عروق أفرادها دماء من أسرة استيوارت الملكية؛ ولكن هذه الأسرة لم تكن في تاريخها أسعد حضاً من أسرة بيرون، فقد قتل بعض أفرادها، وأعدم البعض، وانتحر آخرون في عدة حوادث، وكان آخر هؤلاء والد كاترين الذي انتحر غرقاً وخلف تلك الثروة لأبنته. وطالما كان رجال هذه الأسرة مصدر رعب للإسكتلنديين، إذ كانوا يلاقون على أيديهم كثيراً من البطش والانتقام. . .
عاشت كاترين مع زوجها أول الأمر في اسكتلندا وما لبثت أن هالها منه إسرافه وعبثه بثروتها، وقد كان لا ينقطع عن المقامرة، ولا يكاد يفيق من سكره. ثم رحلت معه إلى فرنسا حين ضاقت باحتقار الناس إياها وزوجها المستهتر الماجن؛ وراح زوجها يبعثر الأموال في باريس بغير حساب، وهو لا يسد ديناً إلا وقع في دين. وانتقل الزوجان إلى لندن بعد ذلك، ولكن جاك ترك زوجه هناك وعاد إلى باريس، وصار لا يزورها إلا حين يطلب المال. على أنها ظلت على الرغم من ذلك مفتونة به، وقد ازدادت به تعلقاً حينما وضعت ذلك الغلام الجميل الذي سمته جورج جوردون في مستهل عام 1788
وبدد زوجها ثروتها، حتى لم يبق لها منها إلا ثلاثة آلاف من الجنيهات كان دخلها منها مائة وخمسين كل عام، واضطرت المرأة المسكينة أن تعيش بهذا القدر من المال، ومعها طفلها وخادمتان له، وأخذت نفسها بالاقتصاد الشديد. ورحلت السيدة إلى أبردين، وجاء زوجها فاختار له مسكناً بقربها، وصارا يتزاوران من حين إلى حين، ولكنهما بقيا منفصلين. وطلب الرجل يومئذ ثلاثمائة من الجنيهات فاستدانها وصارت تدفع رباها من دخلها حتى أصبح ما تعيش به مائة وخمسة وثلاثين، ولكنها ظلت حتى بعد ذلك تحب هذا الرجل حباً شديداً، ولم ينقص من ذلك الحب أنه عاد ثانية إلى فرنسا وتركها وابنها في ابردين، على أنها لم تره بعد ذلك، فقد لقي حتفه منتحراً كما أشيع، وابنه في الثالثة من عمره
وعاش الطفل مع أمه وخادمتيه، وكان شذوذ هذه الأم في كثير من سلوكها لا يقل عن شذوذ أبيه؛ كانت تحنو عليه أحياناً أشد الحنو، وتقسو عليه أحياناً أشد القسوة، حتى لتضربه ضرباً شديداً. ولقد قذفته ذات يوم بملقط النار وهو محمي فكادت تقتله؛ وكثيراً ما رآها في ساعات غضبها تقذف الخادمة بالأطباق فإن لم تجد أمامها أحداً مزقت ثيابها ولطمت وجهها وحطمت قبعتها كأن بها جنة. وينظر الطفل إلى أمه فيعتلج في نفسه الصغيرة الألم والرثاء والإشفاق، وقبل ذلك رأى أباه ورأى مواقفه من أمه ومواقف أمه منه، فكان يتساءل عما يرى مندهشاً لا يقتنع بما تجيبه به خادمته
وكان الطفل جميلاً كأبيه، ولكنه ولد وفي إحدى قدميه عاهة فكان لا يستطيع أن يطأ بها الأرض إلا على أطراف أصابعها، ولذلك كان في مشيته عرج ظاهر وكان يتألم من ذلك أشد الألم، وما كان أشد الألم حينما كانت أمه تعيره بهذا إذ ترميه بالسيل الذي لا ينقطع من شتائمها، ولكنه كان يكظم غيظه وإن نفسه لتنطوي على ثورة صامتة، ولم يتمالك نفسه ذات يوم، حينما دعته بالأعرج، أن يجيبها قائلاً: (هكذا ولدت يا أماه!) وفي هذا الرد نلمس نغمة الشاعر المستقبلة حينما يجري الحوار على ألسنة أشخاص قصصه. ولقد أتى بموقف شبيه بهذا في إحدى رواياته فلقد استقرت مواقف الطفولة في نفسه وما برحت بعد ذلك تظهر في آثاره. وما كان الطفل يصبر على أحد غير أمه يشير إلى عرجه؛ لقيته ذات مرة في الطريق إحدى السيدات وهو لم يتجاوز الثالثة فقالت لخادمته: (ما أجمل هذا الطفل لولا أن له وا أسفاه مثل هذه الساق). فبدت على وجهه إمارات الغضب وصاح بها قائلاً: (كفي عن هذا)، ثم ضربها بكرباج لعبته محتجَّاً محنقاً
ويطول بنا الكلام لو رحنا نسرد ما كان يلاقيه الطفل على يد أمه من عذاب؛ وحسبك أنهم انتزعوا منه ذات يوم سكيناً أوشك أن يجريها على عنقه يريد أن يقتل نفسه وقد ضاق بما كان من أمه. على أنه ما كان يفكر في الانتحار وحده فكانت تحدثه نفسه أن أمه تنتوي ذلك. ومما يذكر عنهما أن كليهما ذهب على غير علم من الآخر إلى بائع العقاقير وطلب إليه ألا يبيع الآخر سمَّا إذا هو رغب في شرائه
(يتبع)
الخفيف