مجلة الرسالة/العدد 338/على هامش الفلسفة
مجلة الرسالة/العدد 338/على هامش الفلسفة
للأستاذ محمد يوسف موسى
قرأت كلمة الأستاذ الكبير عباس العقاد بعدد الرسالة رقم 335 التي عنونها (مع أبي العلاء في سجنه) وفيها يتعقب الدكتور طه حسين بك في بعض ما ذكره في بحثه عن شيخ المعرة رهين المحبسين، إذ لا يرضى ما فهم من قول أبي العلاء في بعض فصوله: (يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته. . .) لا يرضى أن فيلسوف المعرة (قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأي من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطراً، وهو إنكار العلة الغائية وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية معينة من هذه الغايات التي نعرفها نحن ونزعم أن الأشياء خلقت لتحقيقها). ويرى - أي الأستاذ العقاد - أن هذا الرأي من الدكتور فيه شئ من الصواب، ولكن (أصوب من هذا أن يقال إن رأي المعري شبيه برأي المعاصرين الذين يقولون: إن الوظيفة تخلق العضو، وإن القوة تسبق الظاهرة).
هذه الكلمة أثارت مني رغبة كامنة في متابعة الكتابة في الرسالة - تحت عنواني الذي اخترته العام الماضي، وهو على هامش الفلسفة - لو إلى ذلك سبيل الآن! ذلك أن البحث الذي أعني بإعداده هذا العام أو بالتحضير له عن ابن رشد ومكانته في الفلسفة الإسلامية يملك عليّ كل أمري ويستأثر بكل وقتي أو لا يدع هذه الرغبة تخرج من القوة للفعل، إلى حين أرجو أن يقصر أمده إن شاء الله تعالى. إلا أن اتصال الموضوع الذي أثاره الأستاذان عن غير قصد بالدراسات التي أحبس نفسي عليها هذه الأيام، جعل من الواجب أن أكتب كلمة قصيرة أبين فيه أن التوفيق أخطئهما كليهما فلم يصيبا المحز. وإلى القارئ البيان:
تشير كلمة أبي العلاء - فيما أرى إن كان قالها جادّاً - إلى مسألة الأسباب والمسببات التي ثار حولها الخلاف الشديد بين الغزالي وبين الفارابي وابن سينا في تهافت الفلاسفة. ثم أثارها بعده ابن رشد في تهافت التهافت الذي كتبه دفاعاً عن الفلسفة والفلاسفة ضد ما وجهه الغزالي من هجمات نالت من الجميع نيلاً كبيراً، ولا تزال الفلسفة متأثرة بها حتى هذا العصر الذي نعيش فيه.
يرى الغزالي، ممثل المتكلمين في عصره، أنه كان من الممكن أن يكون العالم على غير نشاهد الآن، وأن ما نظنه سبباً للإبصار أو الكلام والموت أو الحياة أو ما نعتقده أداة لشيء من هذا ونحوه ليس كذلك في نفسه، بل لأن الله قدره هكذا أزلاً. وفي ذلك يقول: (الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا. . . فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر. مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء. . . وإن اقترانهما لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقهما على التساوق لا لكونه ضرورياً في نفسه. بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات، وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته).
إذاً فعند الغزالي أنه يمكن أن يجعل الله العين أداة وسبباً للشم لا للإبصار، والأذن للشم لا للسمع، وأن يخلق الشبع دون سببه وهو الأكل، والري دون الشرب، وهكذا إلى سائر الأمور التي نعتقدها أسباباً تتلوها حتما مسبباتها.
أما ابن رشد - وقد جعل من نفسه مدافعاً عن الحكمة، وهي كما يقول: صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة - فيرى أن لكل شيء سبباً لا يتخلف عنه، ولكل عضو عملاً لا يعدوه، وأن (العقل ليس هو شيئاً أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها وبه يفترق عن سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وصناعة المنطق تضع وضعاً أن هاهنا أسباباً ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له) ثم يعود إلى تأييد نظريته هذه في موضع آخر فيقول: (ولو ارتفعت الضرورة عن كميات الأشياء المصنوعة وكيفياتها وموادها كما تتوهم الأشعرية مع الخالق لارتفعت الحكمة في الصانع والمخلوقات. . . إلى أن يقول: وهذا كله إبطال للعقل والحكمة).
على أنه لا يجب أن يتبادر للذهن أن ابن رشد، الرجل الدين كان يرى اكتفاء الأسباب بنفسها في خلق مسبباتها. فمن الحق أن نقول إنه يقرر (أنها ليست مكتفية بأنفسها في هذا الفعل بل بفاعل من خارج فعله شرط في فعلها بل في وجودها فضلاً عن فعلها).
أعتقد أن القارئ يرى معي بعد ما سقناه من كلام الغزالي وفيلسوف قرطبة، أن الدكتور طه حسين بك لم يكن مصيباً فيما أكده من أن شيخ المعرة كان يرمي بقولته التي أسلفنا إلى شيء من الفلسفة الأبيقورية، وأن الأستاذ الكبير العقاد لم يكن موفقاً كذلك في التعقيب عليه، وأن المعري لم يقصد بكلمته - إن كان سلك فيها مسلك الجد - إلا الإشارة لفلسفة المتكلمين الذين يدفعون التلازم بين الأسباب والمسببات على النحو الذي ذكرناه عن ممثلهم وزعيمهم في عصره حجة الإسلام الغزالي. وبالله التوفيق.
محمد يوسف موسى