مجلة الرسالة/العدد 338/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 338/التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلي في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
(تتمة)
ود مازيني لو أنه استطاع أن يجعل للأدب من وقته أكثر مما جعل له، ولكن مشاغل السياسة حالت بينه وبين أمنيته؛ وكان منذ عودته إلى لندن بعد ثورة عام 1848 يوجه أكثر همه إلى الأدب الإنجليزي، وقد أكب على دراسة حياة الشاعر الإنجليزي العظيم اللورد بيرون الذي أحبه أشد الحب لأنه الشاعر الذي هز القلوب وأيقظ المشاعر بأناشيد الحرية والقوة، ولأنه ذلك الروح المتمرد على الطغيان والاستبداد، ثم لأنه لم يكن رجل الفن الذي يجلس في معزل عن عصره يتغنى بالجمال ويستغرق في الفن استغراق الصوفي المسحور، بل كان الرجل الذي كانت أغاني قيثارته صدى لآلام عصره وأحلامه، والذي ذهب إلى حيث لاقى الموت في مناقع مسولنجي في سبيل الدفاع عن حرية اليونان.
وجعل مازيني يوحي مبادئه إلى كل من يلاقيهم، يريد بذلك أن يكسب لقضية إيطاليا أكثر ما يستطيع من الأنصار؛ ثم أنشأ عام 1851 جمعية أصدقاء إيطاليا لهذا الغرض وسرعان ما انتظم في صفوفها كثير من ذوي المكانة من الإنجليز، وفتحت لها بعض الجرائد الذائعة أبوابها؛ فكانت من أكبر وسائل مازيني في الدعاية عن قضية وطنه. وكان لهذا الرجل أن يفخر يومئذ بأنه أدى إلى بلاده من جليل الخدمات ما لم يؤد مثله رجل غيره، بل لقد كان له أن يفخر بأنه أدى إلى الجليل كله ما يجعله في مصاف قادته ويسلكه في سجل القلائل الأفذاذ الذين يباهي بهم تاريخ أوربا.
لقد ملأ قلوب المستنيرين في إيطاليا كلها بمعاني الوطنية والحرية ولقنهم مبادئ الديمقراطية وسيادة الشعوب، ونشأ الجيل كله في إلهامه، فما من رجل من رجل السياسة وقادة الرأي في الولايات جميعاً إلا من تأثر بتعاليم هذا المجاهد العظيم؛ ولئن كان فيهم من يخالفه في الوسيلة، فما كانت الغاية التي يعمل على بلوغها إلا أنشودة كل وطني حر.
على أنه وجد البلاد تتأثر بعد فشل حركات سنة 1848 بسياسة بيدمنت، تلك السياسة التي كان يمثلها كافور، ذلك السياسي الفذ الذي يعد في حركة إيطاليا رأسها المفكر؛ وكان كافور ومازيني على طرفي نقيض؛ إذ كان أولهما رجل لعمل الدبلوماسي الرشيد الذي يتحين الفرص ويسير إلى غايته في حذر وبطء، ولكن في وثوق، والذي جعل خطته تقوية بيدمنت أولاً، ثم دفعها إلى الحرب متى آنس فيها القوة ووجد لها الفرصة؛ وكان ثانيهما الزعيم الثائر الذي لا يفتأ يدعو البلاد إلى العصيان والتمرد لتبقى شعلة الجهاد متوهجة، وتظل نار القلوب متأججة، فلا يركن الشعب إلى القعود، فينسى تلك الغاية التي تهيب بالرجال وتشد عزائم الأعزال وتوحي إليهم اليأس والاستبسال. وضاق الرجلان أحدهما بالآخر، وكان كل منهما حرباً على صاحبه؛ وهذا مما نعده على مازيني الذي وضع إصبعيه في أذنيه تلقاء كل دعوة إلى مشايعة أنصار بيدمنت وتعضيدهم، والذي اعتبر كل قاعدة غير الوحدة والاستقلال مروقاً وإلحاداً في مبادئ الوطنية ودين الحرية. . . وليت شعري ماذا كان يضيره لو أنه عضد كل حركة تقرب البلاد من غايتها؛ على أنه لم يقف عند هذا الحد، بل لقد أخذ يدعو إلى الجمهورية ضد الملكية، جاعلاً بمسلكه هذا تلك المسألة الثانوية مقدمة على المسألة الرئيسية مما أضعف دعوته وزاد الناس إقبالاً على كافور وسياسته.
وكذلك أخذ كثير من الناس يعيبون على مازيني اتخاذه الثورات وسيلة إلى تحقيق آماله؛ وعابوا عليه أكثر من ذلك تدبيره مؤامرات الاغتيال، ولكنهم كانوا في ذلك يرمونه بتهمة هو منها براء، وقد رد مازيني على متهميه بأنه يرى الثورات ضد الغاصب المسلح وسيلة شرعية، أما الاغتيال فإنه يعده جريمة إذا أريد به الانتقام أو إذا أدى إلى القضاء على شخص لا يذهب الاستبداد معه إلى القبر؛ وكأنما كان يبرر اغتيال من يموت بموتهم الظلم؛ يتجلى ذلك في رده على اتهام كافور إياه بأنه يدبر مؤامرة لاغتيال الملك فكتور عمانويل، قال مازيني: (إن حياة الملك في مأمن وذلك لسببين أولهما أخذه بقواعد دستورية في حكمه، وثانيهما أنه ليس ثمة من جدوى لهذه الجريمة).
على أن مازيني لم يعبأ بما يقول مخالفوه وما فتئ يترقب الفرص لإثارة الثورات من جديد؛ وما لبث أن جاءته الأنباء عام 1852 عن ثورة تدبر في ميلان ضد النمسا بين صفوف العمال وكان في هؤلاء كثير من شيعته، فخف إليهم متنكراً حتى صار على مقربة منهم، ولكن ثورتهم كان نصيبها الفشل السريع، فاضطر الزعيم إلى العودة إلى إنجلترا وفي نفسه من الألم والحزن والشعور بالخجل ما جاء عبأ جديداً فوق أعبائه؛ ولقد حملت عليه صحافة بيدمنت حملات عنيفة وحملته مسؤولية هذه الحوادث وما ذهب فيها من ضحايا، فازداد بذلك حنقه على الملكيين وتوالت حملاته هو أيضاً على خطتهم وعلى زعيمهم. وظل في إنجلترا يتربص ويتصل بشيعته في وسط إيطاليا وشمالها؛ وقد عقد النية على بعث ثورة كبرى في الوسط والشمال تكون أبلغ رد على الملكيين، وتكون قائمة على أساس وحدة إيطاليا وطرد النمسا وإقامة الحكم الجمهوري في إيطاليا الموحدة؛ واتصلت أسباب المودة بينه وبين قنصل أمريكا في لندن ومناه القنصل بمعونة حكومته أن كان من أكبر دعاة الديموقراطية في أوربا.
وذهب مازيني عام 1854 متنكراً إلى باريس ثم إلى إيطاليا حيث كان يلتقي سراً بأنصاره ويوحي إليهم من خططه ما يوحي، وكان يقضي أكثر وقته في جنوة، وكان تنكره يحير الشرطة ويزعجهم، وهو في الحق يعد من أغرب نواحي كفاح ذلك الرجل الذي قضى في الجهاد إلى ذلك الوقت أكثر من ثلاثين عاماً بين اغتراب وسجن اختياري وتنكر، فما صرفه هذا العذاب عن وجهته وما قعد به الجهد عن غايته، الأمر الذي يكفي وحده لأن يسلك هذا الرجل العظيم في سلك أكبر زعماء الحرية في جميع العصور ويلحقه بالشهداء والقديسين الذين وهبوا أرواحهم لخير الإنسانية.
وبينما كان مازيني يعد العدة لثورته الجديدة كان كافور يمشي إلى غايته بخطى حكيمة تضعه هو أيضاً في صف أعاظم الساسة في تاريخ الأمم؛ انتهت إلى كافور رياسة الحكومة في بيدمنت عام 1852 فجعل أولى خطاه إصلاح مرافق الولاية والنهوض بماليتها وبناء قوتها الحربية على أساس متين، ولما تم له ذلك على خير ما يرجى أخذ يخطو خطاه السياسية وكانت تتجه إلى مكافحة النمسا بالأساليب الدبلوماسية أولاً ثم بالحرب آخر الأمر؛ على أن يكون بدء الحرب من جانب النمسا فتكون هي المعتدية، ويعتبر مسير كافور إلى غايته من أجمل وأقوى الحركات في تاريخ السياسة الدولية.
بدأ أولاً بالتدخل في جانب المضطهدين السياسيين في لمبارديا وفينشيا الذين صادرت النمسا أملاكهم عام 1853، فجعل بيدمنت في ذلك زعيمة المضطهدين في إيطاليا، فولى الأحرار شطرها وجوههم؛ ثم واتته الفرصة في حرب الفرم فأرسل جيوش بيدمنت لمساعدة قضية الحلفاء ضد الروسيا، فلما عقد مؤتمر الصلح في باريس عام 1856، كان لبيدمنت مقعد فيه وهي مزية سياسية لها مغزاها بالنسبة لنفوذ النمسا؛ وشكا كافور إلى رجال المؤتمر وقد كسب مودتهم بمساعدته قضيتهم من مسلك النمسا في إيطاليا فهيأ بذلك الجو الصالح لخطواته في المستقبل.
واتجه كافور بعدها إلى فرنسا، ومال إلى محالفة نابليون الثالث، وكان نابليون يعطف على حركة إيطاليا إذ كان يرى نفسه وريث مبادئ سميه العظيم، كما كان يطمع أن ينقض ما وضعه الساسة عام 1815 عقب هزيمة بونابرت؛ لذلك اتفق كافور ونابليون سراً في بلومبير عام 1858 على أن يساعده نابليون ضد النمسا نظير أن تضم مقاطعة سافوي إلى فرنسا.
وأوحى كافور إلى الملك في بيدمنت أن يستفز النمسا، فكان مما جاء في خطاب العرش الذي ألقاه فكتور عمانويل في تلك السنة: (إننا مع احترامنا جميع المعاهدات لا يمكن أن نصم آذاننا عن صيحات الألم التي تنبعث إلينا من نواح كثيرة في إيطاليا)؛ وسرعان ما توجه الأحرار إلى بيدمنت بآمالهم في انتظار ساعة الخلاص على يديها.
هكذا كسب كافور حليفة قوية وكسب الرأي العام في إيطاليا وبقي أن تعلن النمسا عليه الحرب ليتم رسالته؛ وكان كافور يستعجل هذه الحرب! إذ كان يعلم أن نابليون رجل قلب كثير الأهواء والنزعات، فكان يخشى أن يتخلى عنه؛ وكانت الحكمة تقضي على النمسا أن تتريث حتى ينقضي ما بين كافور ونابليون؛ ولكن رأي الحزب الداعي إلى الحرب فيها تغلب على أولى الحكمة فأعلنت الحرب واحتلت جنودها بيدمنت. ومشت جنود بيدمنت وفرنسا فأوقعت بالنمسا هزائم متلاحقة كانت كبراها في سلفرينو؛ ورأى كافور والفرح يملأ فؤاده أنه من النصر النهائي على قاب قوسين؛ فما هي إلا أيام ثم تطرد النمسا من إيطاليا؛ ولكن شد ما أزعجه وآلم أن يرى نابليون يخذله على حين غفلة فيعقد الصلح مع النمسا في فلافرنكا في يوليو عام 1859.
حنق مازيني على كافور أشد الحنق لانضمامه إلى نابليون؛ إذ كان الزعيم لا يؤمن بغير قوة الشعب، ويخشى كما خشي في أول سني جهاده من الاعتماد على قوة خارجية قد يأتي من جانبها الخذلان بدل النصر؛ وكان الخصام قد بلغ أشده بينه وبين كافور منذ عام 1857، ففي تلك السنة فكر كافور في بعث ثورة في مودنيا وقابل مازيني شخصياً في جنوة لهذا الغرض، ووعده مازيني بالمساعدة؛ وفي العام التالي رأى مازيني أن تكون الثورة في الجنوب أيضاً في صقلية ونابلي، وكان قد أعد عدته لذلك؛ ولكن الحكومة في بيدمنت أساءت فهم أغراض الثوار في جنوة فحسبتهم يعملون لإقامة الجمهورية وإسقاط الملكية، فشتت شملهم وأصدرت ضد مازيني ونفر من أصحابه حكماً غيابياً بالإعدام.
ولما خذل نابليون كافور استقال هذا من منصبه؛ فجاء مازيني إلى إيطاليا وإنه ليرجو أن يبعث الثورات الشعبية في ولايات الوسط والجنوب عسى أن يصل بها إلى تحقيق ما عجز الزعيم السياسي عن تحقيقه، واختفى الزعيم الشعبي الكبير عند حاكم تسكانيا من ولايات الوسط، فقد كان هذا الحاكم يجله ويؤمن مثله بالوحدة وإن لم يأخذ إخذه في الاعتماد على الثورات؛ وحاول مازيني أن يضمه إلى رأيه فلم يفلح.
وأخذ الزعيم في مخبأه يتصل بأعوانه ويحثهم على النضال؛ وكان يرمي إلى اكتساح الولايات البابوية أولاً ثم يسير منها الثوار إلى ولاية نابلي فيتم بذلك توحيد نصف إيطاليا الجنوبي؛ وكان كافور بينه وبين نفسه يعطف على هذه الحركة ويتمنى نجاحها لتكون أجمل رد على النمسا وفرنسا؛ وفرح أن يسمع عن مازيني أنه يدعو إلى ترك الخلاف الحزبي والعمل للوحدة فحسب، بل لقد كان لا يرفض يومئذ ضم الولايات الجنوبية إلى بيدمنت.
ولكن حاكم تسكانيا خاف من بقاء مازيني مختبئاً عنده، ففي تهديد ولايات البابا ما يدعو إلى تدخل النمسا، ولذلك طلب إلى مازيني أن يرحل فلم يسعه إلا الطاعة، وخرج وإنه ليأسف الأسف كله أن يعامل هذه المعاملة من بني وطنه وأن يكون في إيطاليا سجيناً وهو ما يجاهد هذا الجهاد الهائل إلا من أجلها، ولكنه تعود الألم وألف الصبر في هاتيك السنين الطويلة؛ واتخذ الزعيم سبيله إلى إنجلترا من جديد.
ومتى يهدأ هذا الثائر المجاهد؟ إنه لن يعرف الهدوء حتى تتحقق آماله أو يموت، ذلك ما عقد النية عليه من أول الأمر، وذلك ما درجت عليه نفسه الحرة وصمد له قلبه الكبير.
وعاد كافور إلى الحكم واتجه صوب فرنسا من جديد وقدم نيس وسافوي إلى نابليون ليكون ظهيراً له مرة أخرى؛ ولقد حنق مازيني وغاريبلدي على ذلك أشد الحنق. على أن مازيني أخذ من جديد يفكر في بعث ثورة في الجنوب يؤيدها كافور، وصرف إلى ذلك همه وما زال بغاريبلدي حتى حمله أن يسير هو والبواسل الألف من رجاله إلى صقلية، وقد جاء مازيني إلى إيطاليا متنكراً ليكون على مقربة من الأبطال المجاهدين، وحل بجنوة وأقام بها في مخبأ لا يراه أنصاره فيه إلا تحت ستار الليل، وراح يمد غاريبلدي ورجاله بكل ما يصل إلى يده من المال؛ وحالف النصر غاريبلدي فعبر من صقلية إلى نابلي، وطرب الأحرار في إيطاليا كلها لهذه الحركة العجيبة تأتي على يد ذلك البطل العظيم؛ وانتعشت آمال مازيني وذهب إلى نابلي ليستحث المقاتلين وكانت قد سقطت تلك المدينة في يدهم، وأخذ كافور يترقب في حذر على عادته ويخشى أن يعتدي غاريبلدي وجنوده على أملاك البابا فتتدخل أوربا، ولكنه ما لبث أن وجد الفرصة المرجوة فأرسل جيشاً دخل أراضي البابا، ثم تقدم فكتور عمانويل على رأس جيش فدخل نابلي وقابله غاريبلدي وقدم له الطاعة؛ ورأى الأحرار أن الوحدة المرجوة أوشكت أن تتم.
ولما صار مازيني على مقربة من النصر أخذ ينادي بمبادئه الجمهورية من جديد فأدى هذا إلى حنق كثير من الناس عليه حتى لقد ألقيت قنبلة في نابلي تحت نافذة مسكنه، وطلب إليه أصدقاؤه ففعل بعد احتجاج شديد وعاد إلى إنجلترا في نهاية ذلك العام 1860؛ ولكنه عاد هذه المرة مسروراً بما تم تحقيقه من آماله، تطيب نفسه بما يحسه من شعور الناس جميعاً نحوه حتى الملك فقد قال حينما طلب إليه الخروج: (دعوا مازيني حيث هو؛ إذا نحن عجزنا عن بناء إيطاليا فليبنها هو، ويومئذ أكون أول المصفقين له) وإن الملك ليشعر في قرارة نفسه أن ما تم بناؤه حتى ذلك اليوم من هذا الصرح إنما قام أكثره على كاهل ذلك المجاهد الصبور.
لم يبق إلا روما وفينسيا كي تتم الوحدة؛ وذلك ما كان يشغل مازيني بعد عودته إلى لندن. وكان لابد من حرب ضد النمسا كي تضم فينسيا، أما روما فقد كانت بها حامية فرنسية وقد تعهد فكتور عمانويل ألا يمسها بسوء بعد أن رفضت الانضمام إلى بيدمنت.
ولم يكن مازيني بالرجل الذي ينتظر ما عسى أن تفعل حكومة بيدمنت، ولذلك جعل يتصل بغاريبلدي لكي يحل العقدة أو يقطعها. وقد آلمه موت كافور عام 1861 على الرغم مما كان بينهما من خلاف.
وفي سنة 1862 هجم غاريبلدي ورجاله على روما فردته جنود عمانويل وأصيب البطل في هذا الهجوم بجرح بالغ على يد رجل من بني وطنه. وكان مازيني قد حضر إلى لوجانو ليكون على مقربة من هذا الجهاد الجديد، ولقد آلمه ما حل بغاريبلدي وبخاصة عندما علم بإلقاء القبض عليه وسجنه، فراح يندد بالملك وحكومته في حماسة وسخيمة لم يسع الملك إزاءها إلا أن يصدر حكم الإعدام عليه للمرة الثالثة.
ولما فشلت حملة غاريبلدي، عاد مازيني إلى إنجلترا، وكان يومئذ في الثامنة والخمسين، إلا أنه كان لطول ما أبلى وناضل يبدو أكبر سناً. على أنه لم يفقد شيئاً من حميته، وظلت له حرارة قلبه وقوة روحه وحماسة عبارته وسحر نظرته؛ وعاودته الفاقة في غربته، ولكنه ازداد أنصاراً ومحبين. وكان يؤلم نفسه أن يرى عمره يتصرم دون أن يستطيع أن يجعل للأدب ما أراد من خدمة. وكان في تلك السنين يتتبع أخبار الحرب الأهلية في أمريكا، واتصل بجماعة التحرير الإنكليزية في لندن. وكان يبدي إعجابه ببطولة الرئيس لنكولن وجهاده في سبيل الوحدة والتحرير ويتمنى لو كان له مثل ما كان لذلك الرئيس العظيم من النفوذ الرسمي. ولما اغتيل الرئيس لنكولن حزن عليه مازيني أشد الحزن، ولكنه كان يرى الفرق بينهما جلياً، إذ لو حضره الموت الآن لمات قبل أن يرى وحدة بلاده، ولم ينعم بها ساعة كما نعم لنكولن قبل موته.
وحاول ملك بيدمنت أن يستعين بمازيني على بعث ثورة في فنسيا وفاوضه فعلاً في هذا، ولكنه عاد فتركه أمام اعتراض رجال حكومته. وفي سنة 1866 أعلنت حكومة بيدمنت الحرب ضد النمسا منتهزة فرصة انشغالها أمام ألمانيا، ولكن جيوش بيدمنت هزمت في البر والبحر هزائم كانت مخزية للملك ورجال حكومته، ولقد أدت هذه الهزائم إلى نشاط دعوة مازيني من جديد إلى الجمهورية، ولقد لقي في تلك الظروف من الآذان الصاغية إليه أكثر مما لقي من قبل؛ والحق لقد أصبح هذا الأعزل الشيخ رجل إيطاليا كلها. وأي رجل يبلغ منزلته وله من جهاده في سبيلها زهاء أربعين عاماً لم يعرف خلالها إلا الغربة والفاقة والعذاب الشديد؟ إن مخالفيه في الرأي ومؤيديه جميعاً ليرون فيه الروح الذي علم الجيل وأوحى إليه الإيمان والفداء. وهاهي ذي العرائض عليها أكثر من أربعين ألف توقيع ترفع إلى الملك بطلب العفو عن الغريب المجاهد كيلا يغمض عينيه إغماض الأبد في بلد غير إيطاليا التي وهبها حياته، وهاهي ذي ولاية مسينا تختاره أربع مرات متتالية ليمثلها في برلمان إيطاليا كلما أبطلت الحكومة انتخابه عادت الولاية فاختارته.
وبقيت روما لتتم الوحدة وكان قد عاد غاريبلدي عام 1867 بهجوم عليها ولكن الحامية الفرنسية انتصرت عليه فردته عنها. على أن مازيني كان يرجو أن تعلن روما الجمهورية فتكون عاصمة إيطاليا الجمهورية؛ وقد عاد ينشر مبادئه الجمهورية ويأمل أن يبعث آخر ثورة في البلاد تكون هذه المرة ضد ملكية بيدمنت وتكون غايتها إقامة الحكم الجمهوري؛ وقد اتصل مازيني برجل ألمانيا بسمارك ورجا منه المساعدة فماطله بسمارك ثم انقطعت الصلة بينها.
وفي سنة 1870 رحل إلى صقلية ليبدأ الثورة فيها على الرغم من توسل بعض أصدقائه إليه ألا يفعل، وهناك ألقي القبض عليه في بالرمو حيث سيق إلى السجن في جيتا؛ ودخل السجن الزعيم الشيخ وبود حراسة لو لم ينط بهم حبسه. أنظر إلى حارس السجن كيف يدير المفتاح في مدة ثلاث دقائق حتى لا يسمع الزعيم أنه يغلق الباب عليه. . .
ولبث في السجن بضعة أسابيع يقرأ شكسبير وبيرون، ثم أفرج عنه عقب سقوط روما في تلك السنة في بيدمنت وأصدر الملك عفوه عنه ولكنه رفض أن يقبله؛ وشهد الزعيم في أواخر أيامه وحدة إيطاليا، ولكنه كان لا يفتأ يعمل للجمهورية!
وقضى سنتين متنقلاً بين بعض البلاد تحت اسم مستعار حيث زار قبور الشهداء من رجاله وحج إلى قبر أمه في جنوة. وفي مارس من عام 1872 سكت هذا القلب الكبير وانطوت هذه الحياة الحافلة بالجهاد المرير الطويل، وبكت إيطاليا كلها الرجل الذي ظل حتى آخر عمره يكدح ويلاقي صنوف العذاب من أجلها.
(تم البحث)
الخفيف