مجلة الرسالة/العدد 337/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 337/من وراء المنظار
دُبٌ في الترام!. . .
أرى الناس في هذه المركبة أبداً مرهفي الأعصاب، وقل من رأيته فيها مطمئناً هادئاً، وعلى الأخص في الصباح وعند الظهيرة؛ وليس الأمر قاصراً على الراكبين، فقاطع التذاكر عصبي اللفتة عصبي الكلمة عصبي الزمارة؛ والسائق من فرط يقظته، أو من فرط توجسه مما يخبئه له القدر، زائغ البصر، مذعور الوجه والعينين؛ يغضب لأي بادرة، وينفذ صبره - إن كان ثمة لديه من صبر - لأقل سبب أو لغير سبب!. . .
وأمر قاطع التذاكر وصاحبه يمكن أن نرده إلى أسبابه في غير مشقة. . . ولكنني من أمر الراكبين في حيرة! مم تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، حتى لتقع العين منهم على قوم كأنما يساقون على رغمهم إلى ما لا يحبون؟. . . أيكون مرد ذلك إلى أنهم في الصباح مقبلون على عبء اليوم من العمل، فهم متبرمون عابسون، وأنهم في الظهيرة خارجون من أعمالهم فهم مكدودون ساهمون؟ أم يكون ذلك لأنهم يستبطئون هذه المركبة وليس لهم عنها منتدح؟. . .
ومهما يكن من سبب، فتلك ظاهرة أشاهدها في معظم الوجوه كل يوم، ولم أخل أنا منها، ولكنني لا أتبرم من العمل أو يؤودني حمله، وليصدقني القارئ في ذلك أو فليكذبني إذا شاء فليس هذا ما أردته بهذه الكلمة.
وإنما أردت أن أصور له منظراً رأيته جديراً بأن يغضب الراكبين جميعاً ولو كانوا كلهم هادئين: فهذا شاب من شبابنا المثقفين، أو ممن يدعون من الوجهة الرسمية (مثقفين)، انتهت المسافة التي تبلغه إلى نهايتها تَذْكرته؛ فطلب إليه قاطع التذاكر أن يدفع أجراً جديداً إذا شاء أن يستمر راكباً، ولكن صاحبنا أبى ذلك دون أن يبدي أية علة، ثم استكبر أن يجادل الرجل؛ فاتجه ببصره إلى الأمام، ورفع رأسه إلى آخر ما يستطيع حتى كادت تتدلى إلى الخلف!. . .
ونفخ الرجل في زمارته، فوقف الترام، وانتزع السائق مفتاحه، وجاء إلى حيث وقف صاحبه، ووقف خلف هذا الترام خمسة غيره أو ستة، وأخرج معظم الراكبين ساعاتهم، وشاعت في وجوههم إمارات الغضب والقلق والاستنكار. . .
وجاء نفر من هؤلاء العمال، ووقفوا جميعاً ينظرون إلى هذا الذي كان سبباً في هذا التوقف: فرأوا فتى بادي الفتوة، عبل الساعدين، عريض المنكبين، غليظ العنق؛ ورأوه لا يلتفت إليهم، بل لا يعبأ بتلك النظرات التي رشقته من كل ناحية من نواحي العربة - وهو في جلسته - شامخ الرأس، هادئ المحيا كأن لم يجر حوله شيء!. . .
وحار هؤلاء العمال - أول الأمر - ماذا يصنعون، وليس فيهم من عابث من قبل دباً أو قرب منه؟!. . . ثم استجمع أحدهم قوته وقرب من هذا الدب وهو على أهبة أن يقفز إلى الخلف عند أية بادرة منه: ثم رجا منه أن يدفع الأجر حتى لا يتعطل الناس. فرماه الدب بنظرة كانت وحدها كافية لأن ينكمش ويتراجع من فوره!. . .
وازداد الناس ضيقاً وسخطاً وقلقاً، وبلغ حنقي غايته. . . ثم جرؤ أحد الراكبين فاقترب من الدب في هيئة لم يسعني معها إلا أن أضحك على الرغم من غيظي. فقد أخذ هذا الراكب يتلطف ويتظرف، ويحاول أن يبتسم، فلا يستطيع من فرط حنقه. . . فيرفع شفته العليا من إحدى زاويتيها، ويكشف عن أسنانه كأنه يبتسم! ثم يربت على كتف الدب ويقول وهو يلوي عنقه مبالغة منه في التواضع: (ألا ترى أنك بهذا تسبب عطلاً لنا جميعاً؟).
. . . وكأن الدب لم يعبأ به لضعفه فلم يزد على أن قال له في هدوء: (أنت حضرتك عاوز تتفلسف؟). . . وانكمش الرجل ولم يلتفت بعدها إلى الخلف أبداً. . .
وكان في العربة بعض الأجانب، فتخاطبوا بالأحداق، وعلقوا على المنظر بالإيماء والابتسام. . . وكان قاطع التذاكر المسكين قد ذهب ليحضر الشرطي، فعاد وهو في صحبته، وقد بلغ قلق الناس أقصاه! وسمع الشرطي القصة. . . فما كان أشد عجب الناس أن يسمعوه يعنف (الكمساري) ويلومه قائلاً له: (ياعني يا سيدي هم الستة مليم دول اللي حايزودوها؟ اطلع يا شيخ بلا عطلة دي محطتين أو ثلاثة وينزل)!!
وكان خزيي أمام الأجانب وخزي الراكبين جميعاً مما فعل الشرطي أعظم مما فعل ذلك الفتى المدل بقوته. ولعله خاف أن يقرب منه كما خاف غيره، وأمره في ذلك أدهى وأمر. . .
وقلت في نفسي: متى تشيع فينا الآداب الاجتماعية؟ ومتى نحس بالوسط الاجتماعي؟. . . ورجوت أن ينسى هؤلاء الأجانب هذا الحادث وأشباهه إذا حدثوا قومهم عن مبلغ ما وصلنا إليه من المدنية، فبهذا تقاس المدنية الحق، كما رجوت ألا يحكموا على شرطتنا جميعاً بما رأوا من هذا الشرطي.
(عين)