مجلة الرسالة/العدد 337/صاحب المعالي وزير المعارف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 337/صاحب المعالي وزير المعارف

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1939


على ذكر مراقبة الثقافة العامة

عرفك الناس يا صاحب المعالي في جميع أطوار النهضة وأدوار الجهاد رجل جد وعزيمة، وصاحب رأي ونفاذ. ولعلك واحد الزعماء في حب الصمت وكراهية الإعلان وإيثار العمل. ولقد كان توليك أمور المعارف أمنية من أماني النفس المصلحة طالما هفت بقلبك وقلوب رجال الثقافة. فإن داء وزارة التعليم قد استفحل وأعضل حتى استيأس منه الطبيب والعائد، وأنت من الرجال القلال الذين عرفوا أن هذه الزَّمانة التي خزلت هذه الوزارة عن السير في عصر السرعة إنما هي الذبذبة في سياستها والفوضى في ساستها والتواكل في جنودها. وكنت تنظر إليها من بعيد وهي تمشي متخلجة متخلفة فترجو أن يتيح الله لها قوماً غير القوم فينفخوا فيها من روح العصر ونشاطه ما يساعدها على مسايرة النهضة ومواتاة الحاجة.

وهاأنت ذا قد أتاحك لها الله كما رجوت ورجا أنصارك، وقد استقر الأمر واتسق الحكم واستبان الطريق، وعلى رأس الدولة ملك ديمقراطي النزعة عُمَري الإصلاح، يريد أن يكون عهده السعيد عهد مصر الذهبي في العمران والعرفان والسلطان والمنَعة؛ وعلى رآسة الحكومة رجل قوي الإدارة نزيه السياسة حر الضمير، يود أن يكون حكمه حكم الأمة في إشاعة الخير، وتوخي المنفعة، وتعميم العدالة! ولك وكيل منطقي الرأي أصيل الثقافة يتساير هواك وهواه في الطريقة والغاية. فنحن إذن حريون أن نرى وزارة المعارف في عهدك شيئاً آخر يختلف عن هذا الشيء في روحه ونظامه وعمله وغرضه ومداه.

إن مراقبة الثقافة العامة يا معالي الوزير هي الناحية التي ستخرج منها الوزارة عن سياستها الديوانية التقليدية التي انحصرت إلى اليوم بين جدران المكاتب وأبواب المدارس فلم تتصل بالفكر العام اتصالاً مباشراً تغذيه أو تهديه أو تعاونه. في هذه الناحية الجديدة ستلتقي الوزارة بالشعب وترى بعينها أنها فرطت في جانب الثقافة العامة تفريطاً لا يسعها فيه عذر. فالأدب لا يزال ناقصاً في نوعه، قاصراً في بيانه، قليلاً في نتاجه، ضعيفاً في انتشاره. فهو ناقص في نوعه لأنه أنكر قديمه وجهل جديد الناس فلم يُغذِّه ماض ولم ينَمِّه حاضر، فبقي مُخْدَج الخَلْق لا هو ميت ولا هو حي. ولقد كان أدبنا القديم في حدود مراميه اللسان العام لخوالج النفس الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخضَم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت عن مذاهبه الأنهار وجفَّت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة الراكدة المحدودة لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل من حين إلى حين. فالقارئ العربي الحديث لا يجد فيما أثر منه ولا فيما استجد فيه غذاء عقله ولا رضى شعوره، لأن المأثور منه ناقص لانقطاعه عن سير المدنية، والجديد فيه ناقص لخلوه من الآداب الأجنبية. والغريب أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية! فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله؛ ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه ونشرهما على حسابه. فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة. فإن لكل أمة مزيا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم. والمحاكاة والاحتذاء من أقوى العوامل أثراً في الأدب.

والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أقدر كتابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة. ومجمعنا اللغوي ليس في مقدوره بحكم تأليفه وطريقة عمله أن يقدم إلى الناس معجمه العتيد إلا بعد جيل أو جيلين، حين يكون كل شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدّة يومئذ كمعجم لسان العرب اليوم! فلا بد لهذه الحال من علاجك الحاسم يا معالي الوزير، فإن اللغة الناقصة هي نصف البَكم إن لم تكن أكثر الجهل!

والأدب العربي قليل في نتاجه ضعيف في انتشاره، لأن الأدباء ينتج بعضهم ليعض؛ فهم الذين ينشئون وهم الذين يقرءون. أما الخاصة فلجهالتهم لا يفهمونه، والعامة لأميتهم لا يعرفونه. وإذا حرم الأدب تشجيع الخاصة لا يزدهر، وإذا لم ينل إقبال العامة لا ينتشر، وإذا لم يكن حاجة هؤلاء وهؤلاء لا يتنوع. وعلاج ذلك يا معالي الوزير تعويض الأدب من تعضيد الجمهور بالمكافآت والجوائز؛ فإنها تحفز القرائح للعمل، وتضمن الإجادة بالتنافس، وترفع المستوى بانتخاب الأجود. وبضعة آلاف جنيه من الخزانة العامة ينفق أضعافها في تمهيد طريق أو تجميل بناء تخلق في الأمة أدباء عالميين، وتجمع لها من الأدب الصحيح ثروة.

ومِلاك ذلك كله يا معالي الوزير أن تفكر مراقبة الثقافة العامة في أمرين جليلين: أحدهما إنشاء دار للترجمة تنقل الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا تدع نابغة من نوابغ العالم في العلم والأدب والفلسفة إلا نقلت كتبه ونشرتها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية؛ والآخر تأليف مجمع للأدب يقوم على رعايته وتوجيهه وتشجيعه ونشره؛ ثم يكون لقرائح الشباب وهي في أول الشوط مناراً وحمى، ولعبقريات الشيوخ وهي في آخره أمناً ومثابة. والأستاذ المراقب الذي اخترته يا معالي الوزير أقدر من يحقق الرجاء في هذه المراقبة متى ظفر بتسديدك وتأييدك وعطفك.

أحمد حسن الزيات