مجلة الرسالة/العدد 337/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 337/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1939



دراسات في الفن

يا سارية، الجبل!

(مع الإجلال إلى معالي الدكتور هيكل باشا بمناسبة حديثنا

الشفوي عن عمر)

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- قرأت اليوم أن عمر. . . كان يخطب يوم جمعة في مسجد المدينة، وكان للمسلمين جيش في حرب مع بعض أعدائهم عند سفح جبل على حدود فارس، وكان على هذا الجيش قائد اسمه (سارية) وحدث أن كان الأعداء قد بدءوا في تطويق جيش المسلمين بحيث لم تكن له نجاة إلا أن يلجأ إلى الجبل، وحدث أن توقف عمر عن الخطابة وصاح: (يا سارية الجبل)، وحدث أن لجأ سارية إلى الجبل بجيشه، فنجوا، فلما عاد سارية إلى المدينة روى أنه سمع هتافاً يهتف في أذنه صارخاً: (يا سارية الجبل) فلجأ إليه فنجا، فقال له الناس إنه صوت عمر. . . أليست هذه قصة عجيبة؟ وهل تصدقها؟

- ولم لا؟ أو ما يهتف الآن الإنسان في لندن فيسمعونه في طوكيو؟ هذه كتلك.

- ولكنهم الآن يتصل بعضهم ببعض عن طريق التليفون.

- بل لقد اختصروا الآن التليفون، واستغنوا عن أسلاكه وجعلوه (راديو). الناس ارتقوا.

- فليكن. . . ولكن الراديو لا يزال أداة يستعين بها الإنسان على التخاطب من بعد، ولولاها لعجز عنه.

- لا بأس. ولكن الإنسان إذا واصل رقيه العلمي واصل اختصار الراديو والتقليل من أدواته حتى يبلغ من الرقي درجة يستغني بها عن اختراعه هذا واختراعاته كلها. . .

وعندئذ يستطيع أن يخاطب طوكيو وهو في لندن من غير أداة؟

- وأن ينتقل من طوكيو إلى لندن بغير أداة!

- في كم من الزمن؟ - هذا يرجع إلى مقدرته على تحويل الزمن!

- تحويل الزمن؟ وإلى أي شيء يمكن أن يتحول الزمن؟

- إلى أزمنة وإلى غير ذلك مما يعلم الله. ما يخيل إلينا أنه مستحيل الحدوث، يمكن حدوثه، فالله قادر على كل شيء. . . انظري. . . أتصدقين أنني أستطيع أن أمسك هذه الزجاجة الفارغة وأن أقول فيها بعض كلمات ثم أسدها فإذا الزجاجة مصباح مضيء يلقي النور؟

- هذه لم يصنعها حاو، ولا نبي، فتصنعها أنت؟

- ولا أنا أصنعها. . . ولكني أسألك أين وجه الاستحالة فيها؟

- استحالتها في أن تتحول الكلمات إلى نور. . . هذا هو المحال المتعذر لأن الكلمات حروف والنور أشعة.

- وما رأيك في أن هذه الاستحالة قد ذللت واستطاع أهل السينما الناطقة أن يحولوا الكلمات والحروف والأصوات إلى أشعة ونور، بل إنهم يخزنون الصوت والضوء في أشرطة من (الباغة). . . ما رأيك؟

- هذا مفهوم ومعقول لأنهم يستعينون عليه بالآلات.

- أنت لم تقولي في البدء إن المعضلة معضلة آلات، وإنما قلت إنها مسألة استحالة طبيعية، وإنه ليس من شأن الصوت أن يتحول إلى ضوء. . . والآن، وقد رأيت أن الصوت قد تحول إلى ضوء، قلت إن ذلك تيسر بالآلات. . . وأنا أقول لك إن لكل شيخ طريقة وأدوات، فمن الناس من يستعينون بالحديد وبالمغناطيس والكهرباء يستعيرونها من الخارج، ومنهم من له عزم هو الحديد، ونزوع هو المغناطيس، وروح مؤمنة صافية هي الكهرباء؛ وقد كان عمر من هؤلاء، وقد اكتفى بهذا فانطوى له الزمان وانطوى له المكان، وهتف في المدينة فسمعه سارية وهو على حدود فارس. . . وإذا كنا نعيش في هذه الحضارة صماً بكماً عمياً فليس لنا أن نلزم السامعين الناطقين المبصرين بأن يكونوا مثلنا فلا يسمعون ولا يتكلمون ولا يرون إلا بالآلات والأدوات. . . أنا ولله الحمد نظري كامل وإن كان سمعي ناقصاً، أفإذا رأيت النملة في السقف أنكرت أنت علي أن أراها بغير منظار معظم، فإذا سمعت أنت دبيبها أنكرت أنا عليك أن تسمعيه بغير مكبر الأصوات؟ ليس هذا من حقي ولا من حقك، ولا من حق جيل الحديد والزلط الذي يريد أن ينكر على عمر إلقاء الأمر إلى سارية من المدينة وسارية على حدود فارس. وإن نسبة التقى بين عمر البشر وأستاذه الهادي الأمي محمد النبي الرسول ، لتساوي فيما أرى النسبة بين هذه التي حدثت من عمر وبين تلك التي كانت من النبي إذ أسرى الله به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

- آمنت بالله ورسوله. . . إذن فقد انتقل النبي بجسمه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. . .

- انتقل بروحه وبجسمه وبكيانه كاملاً غير منقوص، وليس هذا من الله عجباً، وهو يرويه في القرآن، والقرآن كتابه، وإن كنت تنكرين فاجمعي الإنس والجن وائتوا بسورة من مثله.

- وأنى لي أن أجمع الجن. . . هل تعرفهم أنت وهل تستطيع جمعهم؟

- إني لا أستطيع جمعهم لأني أضعف من ذلك. . .

- ولكنك تعرفهم؟ ولعلك أيضاً تعرف الملائكة؟

- لم يقل لي أحد ما الملائكة، وإن كان أستاذي النائم عبد السلام شهاب قد عرفني بالجن. . .

- ما هذا الاسم العجيب؟ لم أره يكتب لا في الهلال ولا في المقتطف، ولا في الرسالة، ولا في السياسة، ولا في الثقافة. . . فأين تقرأ له.

- إني لا أقرأ له ولكني أسمع منه، وهو يكتفي بأن يقول لي وأن أكتب أنا، وقد قال لي إن الجن ناس، وأسمعني مرة إياهم وأراني مرة بعضهم. ولم يزد على هذا.

- وكيف يمكن هذا؟ أو أن له استعداداً خاصاً؟

- له، وهو مثل كل استعداد غيره يهبه الله لمن يشاء من عباده فيمكنهم به من القيام بما يعجز عنه غيرهم. . . وهو كذلك الاستعداد الذي يستطيع به الفنان أن يلمح طبع الخير في بعض الناس وطبع الشر في بعضهم من غير أن يحتك بهم. . . وهو كذلك الاستعداد الذي يلمح به المهندس العلاقات بين النقط والمستقيمات والمنحنيات فيصل بعضها ببعض ويفرق بعضها عن بعض ويبني على ذلك ما يشاء وما لا يوفق إليه غيره. . . ولقد سمعتهم يطبلون طبلاً رهيباً في ليلة هادئة. . . وهؤلاء لم أرهم. . . أما الذي رأيته فواحد كان يسير في ليلة مظلمة في طريق قفر ضيق وراء بيت (عبد الرزاق) في عابدين.

- ألم يقل لك (بخ)؟

لا. . . وإنما كان يهرول إلى جانب الجدران وقد انشغل كل الانشغال عن الدنيا وكل ما فيها بما لا يمكن أن يكون إلا تسبيحاً؛ فلما قرأ عليه الذي كنت معه السلام رد السلام في خفوت وسرعة ركبت فيها حروف السلام بعضها بعضاً. . .

- إذا كان هذا هو كل ما سمعته وأريته فإني أستطيع أن أقول إن الذين سمعتهم يطبلون الطبل الرهيب بشر، وإن الذي رأيتماه وحياه صاحبك بشر أيضاً. . .

- وعلى الرغم من أنه كان معنا ثالث لم ير شيئاً مم رأيناه. . . ولم يسمع، فأنا لا أقول غير ما تقولين.

- إذن فلا جن ولا عفاريت.

- إنكارك هذا راجع إلى أنك تتصورين الجن من غير الناس بينما هم ناس. وكل ما في الأمر، عندي، أنهم يختلفون عن الإنس بأنهم جنوا بمحبوب، لكل منهم محبوب. وهم ينطلقون إلى هؤلاء بإحساسهم وتفكيرهم وأخلاقهم وأجسامهم وكل كيانهم ولم يعودوا بعد ذلك يأتنسون بغيرهم من الناس، وقد يسندني في هذا أن العرب رووا أقاصيص كثيرة عن الجن وأنهم كانوا يظهرون للناس ويحادثونهم ويعاشرونهم أحياناً، والقرآن الذي نزل بلغة العرب ذكر الجن بلغة العرب وعني الجن الذين يعرفهم العرب. . . زيدي على ذلك أن بعض أئمة المسلمين أباحوا للمسلمين التزوج من الجن المسلمين وأهل الكتاب، ومعنى هذا أن الجن ناس يكونون جناً أحياناً، ويكونون إنسا أحياناً. أو يلزمون حالة الجنة إذا استغرقوا فيها.

- إذا كان هذا ممكناً فإنه ممكن أيضاً أن يتحول الإنسان إلى جن. . . أليس كذلك؟

- كل شيء ممكن. فقد كان إبليس ملكاً وتحول إلى جن بعد أن فسق عن أمر ربه، والملك الذي أرسله الله لمريم يبشرها بعيسى تمثل لها بشراً سوياً. وسئل النبي (ص) كيف يرى جبريل فقال: إنه يراه أحياناً في صورة دحية الكلبي، على ما أذكر، وهو إنسان. وتفسير قول النبي يحتمل فرضين: فإما أن يكون النبي في الخلوة فيحضره جبريل في صورة دحية، وإما أن يكون مع دحية على انفراد أو بين ناس فيستشف النبي في قرارة دحية. . . جبريل. . . وأنا أميل إلى الأخذ بالفرض الثاني، ولا أمنع الفرض الأول. . . وأعلل الرأي الذي أميل إليه بأن حالات من التقي والرحمة والصفاء تحل ببعض الناس، فإذا هم ينقون من نوازع الدنيا ويسمون إلى دعاء الله فهم عندئذ ملائكة. . . يشعرون بالخير والهدى لا يراهم إلا من فتح الله عليه، وهم أنفسهم لا يهدون وإن كانوا يلهمون الهدى لمن قسم له الله أن يُلهم وأن يُهدى بنظرة منهم أو إشارة أو كلمة أو سكتة أو حركة.

- ولكن هذا الذي تقول ليس في شيء من كتب الدين.

- وليس في كتب الدين حديث عن الألغام الممغطسة، وليس في كتب الدين ذكر التلفزيون. ولا تنس أن كثيراً من كتب الدين أحرق بعد سقوط بغداد، وأن ديننا إسلام وتفكير وتدبر، وللمجتهد المخفق فيه ثواب، وللمصيب ثوابان، والله يعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسه. . . وإني سألته التوفيق فلا تقفي في طريقي، أو فمدي لي يد العون يكن لك عند الله الجزاء. . . أو تعرفين أنت الملائك والجن؟

- لا، وإنما أرى وصفك الملائك كأنه الشعر، وأرى وصفك الجن يمكن أن يطبق على ناس كثيرين جداً هم الذين ينصرفون بكيانهم كله إلى هدف ما، ومن هؤلاء من هم خيرون، ومنهم من هم أشرار.

- إني لا أستطيع أن أدافع عن رأيي في الملائك بأكثر مما قلت إلا أن أزيد أني أراك كالملائكة أحياناً. . .

- إذن فرأيك صحيح. . .

- وأما الجن، فلا تتصوري أن وصفي إياهم يمكن أن يطبق على ناس كثيرين جداً كما تقولين، فليس من الميسور للكثيرين أن ينصرفوا بكيانهم كله إلى محبوب واحد يجنون به، ويستولي على جماعهم. . . وإنما أغلب الناس بل جلهم يتشتتون وتتوزع اتجاهاتهم ورغباتهم وأهواؤهم، وينزعون إلى الائتناس بغيرهم كلما استوحشت أنفسهم أهواءهم ورغباتهم واتجاهاتهم.

- ومع هذا القيد فإني لا زلت أستطيع أن أعتبر الإنسان العبقري المنصرف إلى فنه من الجن. . .

- إذا كان لا يأنس بغير فنه، وإذا كان لا يستوحش فنه مطلقاً، وإذا كان لا يشغله غير الفن شاغل. . . وكلما قل فيه هذا كان أقرب إلى الناس.

- واتباعاً لما تقول أيضاً نستطيع أن نعتبر الإنسان الشرير المستغرق في الشر جناً. . .

- إذا كان لا يأنس بغير الشر، وإذا كان لا يستوحش الشر مطلقاً، وإذا كان لا يشغله شاغل غير الشر إذا ترك لنفسه يختار المشاغل، فهو إذا قابل الناس ابتدرهم بالأذى، وهو إذا غفلت عنه الدنيا أحرقها بناره. إنه الجن الشرير غير المسلم.

- ولكن الذين يعنون بهذه الأحاديث يروون عن الجن أنهم قادرون على الاختفاء، فكيف تعلل هذا الاختفاء. . .

- قلت لك إنها قدرة يعطيها الله لمن يشاء فيطوي بها المكان ويطوي بها الزمن، يقابلها في الناحية الأخرى عجز عن الملاحظة.

- لقد سكت عنك حين نسبت هذه الخوارق للإنسان الراقي ولكني لا أظن أنه يحسن السكوت عنك إذا نسبتها أيضاً للإنسان الشرير الذي يؤذي الناس.

- إن هذا الشرير الذي يؤذي الناس إنما ينزل بالناس قضاء الله الذي هم أهله، وإن لله حكمة في كل ما ترين من تصرفات عباده ألم يقتل الخضر طفلاً لحكمه؟

- كان الخضر شريفاً. . . وقوة كقوته إذا أعطيت لشرير كان فيها تشريف للشر.

- ليس التشريف في القوة، وإنما هو في استعمالها. . . كل الناس فيهم القوة التي تمكنهم من الارتقاء والتحول، أو فيهم نواتها، ومع هذا فأقلهم الذين يريدون أن يرقوا وأن يتحولوا. . .

- وهل تريد أنت أن تتحول؟. . . أظنك تريد أن تكون ملكاً؟

- لا. . . إني أريد حقاً أن أرقى، ولكني أريد أن أظل إنساناً فقد فضل الله الناس على خلقه جميعاً. . . ذلك أن الملك منصرف إلى الله يعبده فقط، ولإنسان يستطيع أن يعبد الله وأن يتأمل خلقه أيضاً، وأن يفكر فيه، وأن يتدبر حكمة الله، وأن يتحدث بنعمته، وأن ينشئ بعد ذلك من فنه عبادة ترضي وهي غير عبادة الملائكة. . . وإلا فقولي لي لماذا فضل الله الناس على خلقه جميعاً. . . إلا بالعقل، إن علينا أن نتجه إلى الله بعقولنا. . . كي نحقق أفضليتنا. إن فينا القوة التي تمكننا من التعالي على الملائكة. . . ولكن كم منا استطاع أن يكون ملكاً لا أكثر.

- ألست تقول إنني أحياناً أبدو كالملائكة؟. . .

- لا تؤاخذني فقد نسيت. . . لأنك لا تكونين هكذا إلا نادراً.

- إذا كان عمر وهو عمر لم تحدث منه الخارقة فيما روى من حياته إلا مرة واحدة حسبما قرأت، فهل تظن أن غيره يمكن أن تحدث منه أمثال هذه الخوارق مرات؟

- كان موسى نبياً رسولاً، وقد ساير الخضر وكأنما كان طفلاً معه. . . فالله أعلم كم يستطيع كل إنسان أن يأتي من الخوارق. . . ولكن المؤكد أن الجُنة تصيب بعض الناس في لحظات خاصة يتلخص فيها وجودهم فيقومون بأعمال، أو يقولون كلاماً، ولو سئلوا كيف صدرت عنهم أعمالهم أو أقوالهم هذه عجزوا عن تعليلها، وقال بعضهم إنها إرادة الله، وقال بعضهم وجدت نفسي فعلت أو قلت، وقال بعضهم لا أدري، وقال بعضهم جننت، والحق أنهم جنوا بأهوائهم، وغلبتهم طبائعهم وانطلقوا غير مختارين ولا مقيدين بعقولهم إلى نحو ما كانت تنزع إليه أرواحهم، وما كانت ترتاح إليه أبدانهم تنفيذاً لشيء من قضاء الله سبحانه.

- وقد كان كذلك عمر؟

- كلا. . . إن عمر لم يجن، وإنما عمر رأى، وقال، وسارية سمع. . . فعمر إنسان ممن فضلهم الله على الجن وغير الجن من خلقه. . .

عزيز أحمد فهمي