انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 337/إليك رجعت يا قلبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 337/إليك رجعت يا قلبي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1939



(لكاتب من الكتاب)

ينم عليه أسلوبه

قلبي، ألم يأن لك أن تعفو وتصفح؟

أنت تعرف أني لم اقبل على التحرير والتأليف في شؤون الأدب القديم والحديث إلا طلباً للسلامة من ظلمك وعدوانك، ولم أشغل قلمي بوصف أوهام المجتمع إلا لأصرفه عن الشغل بأحلامك وأوهامك.

فهل تراني مع ذلك نجوت من شرك؟

أنت تعرف أني لا أرى الناس من وقت إلى وقت إلا رغبة في الانصراف عنك، فإن الخلوة إلى نَزَواتك وبدواتك تُشبه الخلوة إلى أوكار الأراقم، وملاعب الجنّ، ومساقط البراكين.

فكيف تريد أن أرجع إليك؟

إن لي عقلاً يعصمني من غيّك، فاصنع ما أنت صانع ألست أنت الذي أغراني بالتطلع إلى مشارق الأقمار والأزهار ومواسم الأفئدة والقلوب؟

ألست أنت الذي حدثني بأن النعمة الصحيحة هي جودة الفهم لأطاليب الوجود؟

فهل تراك صدقت فيما حدثت؟

وهل تراني أحسنت في الاطمئنان إلى وسواسك ونجواك؟

الدنيا في طاعتك ليست إلا مهالك ومعاطب، فكيف فاتني التوفيق فلم أتمرد عليك؟

ما رأيت إنساناً يعيش في سلام وأمان إلا حكمت بأنه يحيا بلا قلب.

ولا رأيت إنساناً مسلوب مَهْدود العافية، إلا عرفت أنه من أرباب القلوب.

فمتى أنجو من شرك يا قلبي؟

إن اشتباك المهلكات والمدمرات في المعارك البرية والبحرية والجوية ليست إلا صورة مصغَّرة لما يقع بيني وبينك حين أخلو إليك فمتى أنجو من شرك يا قلبي؟

وما يضمر الأعداء المتحاربون بعضهم لبعض، وما تضمر الغابة الشَّجراء في ظلام الليل، وما يستتر في جوف المحيط من غَدَرات وفَتَكات، كل أولئك أخفّ وأهون مما تعدّه لمحاربتي أيها القلب!

إن الحرب بين الممالك والشعوب يسبقها النذير ليأخذ الرجال أهبتهم للصراع والقتال، والحرب بيني وبينك لا يسبقها نذير حتى استعد لمصاولتك ومغالبتك. فمن أنت بين المغتالين، أيها القلب؟

وقد دَرج المقاتلون منذ آماد طوال على الترفق بأسرى الحرب وأنت لا تعرف الرفق بأسيرك، أيها القلب!

فمتى ينصرني الله عليك فأجزيك ظلماً بظلم وعدواناً بعدوان؟

أنت الذي جعل إيذاء الصديق للصديق من شرائع الوجود، أيها القلب.

فكيف أعاتب أصدقائي وأنت على قربك أول من أتلقى منه الطعنة الدامية؟

أنت تظلم وتغدر وتفتك، وما أسأت إليك في سر أو علانية، وليس بيني وبينك واش ولا نمّام ولا رقيب.

فكيف ألوم صديقاً يغدر أو يخون وبيني وبينه ألوف من المفسدين والمرجفين؟

عنك تلقيت درساً لن أنساه، أيها القلب، فعدوانك وأنت صديق لا تصل إليه الوشايات والسعايات دليل على أن الدنيا قامت على أساس منخوب لا يصلح للخلود.

لو كانت الدنيا أهلاً للجمال لكان من المستحيل أن تكون الأشواك أطول أعماراً من الأزهار والرياحين.

ولو كانت أهلاً للقوة لما جاز أن يقضي الأسد دهره وهو محموم.

ولو كانت الدنيا أهلاً للرفق والعطف لصار من العسير أن يفسد ما بيني وبينك، أيها القلب.

إن آهة الألم من الحيوان الفاتك هي التي تدل عليه الصائد المغتال حين يطرق الغابة بليل.

وزقزقة العصافير في الظلمات هي التي ترشد الثعابين إلى عشها الأمين.

ورحيق الأزهار هو الذي يسلط عليها خراطيم النحل.

والنور الذي ينبعث من مخدع آمن قد يعرِّض مدينة برمتها إلى غارة جوية.

فما الذي دلَّك عليّ، أيها القلب؟

دلتك القوة؟ دلَّك الرفق؟ دلَّك الضعف؟ دلك الشعر والخيال؟

أنا أعرف أني كتلة جسيمة من الأحلام والأوهام والحقائق والأباطيل، فمن أي جانب نفذت إلي، أيها الغادر المغتال؟

تخلَّقْ مرة واحدة بأخلاق المحاربين الشرفاء، أيها القلب، وحدثني كيف استطعت النفاذ إلى ما أقمتُ من معاقل وحصون؟

أنت قوة خطرة مخوفة، أيها القلب، ومن حقك أن تَبغي وتستطيل، لأني سوّيتك بيدي، وطوفت بك في الشرق والغرب لأمدك بأصول القوة والعنف، وآية هذا العصر هي نكران الجميل، فلا عتب عليك ولا ملام إن بذلتَ في إيذائي كل ما زودتك به من جهد وعافية (ومَن غرس الرياح جنى العواصف)!

كل حرب إلى سلام، وكل شقاق إلى وفاق، إلا ما بيني وبينك، أيها القلب.

سيتعب أعدائي فينسحبون من ميدان القتال، ولن تتعب أيها القلب، لأنك جذوة من العواطف لا تخمُد ولا تبيد.

فهل تراني أتمنى لك الخمود وأنت صديق؟

الناس على دين زمانهم، أيها القلب، وأنت اصطنعت الغدر طاعةً لزمانك، فكيف لا أستبيح الغدر طاعةً لزماني؟

أتراني ألتفت إلى رعاية الجوار؟ وهل رعيت أنت الجوار ومثواك بين ضلوعي؟

المودّات في الدنيا أخذٌ وعطاء، فكيف تنتظر أن يكون أمري كله إليك، ولا يكون لي سلطان عليك؟

كيف تنتظر ألاّ أتقدم أو تأخر إلا بوحي منك وأنت لا تسمع دعائي مرة واحدة فتَصدِف عمن تسقيهم الشهد ويسقونك الصاب؟

أنت الشريك المخالف، أيها القلب، والشريك المخالف تعوّذ منه الآباء والأجداد. فكيف أسلم من شرك ولن يفرِّق بيني وبينك غير الموت؟

إن أمرك لعجيب غريب، أيها القلب، فأنت تغدر بي، ثم تفي لسائر أصدقائك وأصفيائك.

أنت والله لئيم، أيها القلب، فأنت لا ترعى عهدي لأنك وثقت بأمانتي ثقةً أبدية. وأنت تراعي غيري ممن أحببت لأنك تخشى أن ينقلبوا عليك. والاتجار بالصداقة من أخلاق زمانك، وأنت ابن زمانك، فشرِّق في مكايدتي وغرِّب، فسأبقى بجانبك يوم تنكشف لك أخلاق الزمان فتصبح بلا صديق.

أراك انزعجت، أيها القلب.

الحمد لله، فلا يزال في الدنيا إخوان يزعجهم العتاب. وبالرغم مني أن يرقّ الصخر الذي جعلتُه علامة القِبلة في أوقات الصلوات لا تجزع، يا قلبي، فلن أعاتبك في كل يوم، فلست بالصديق الذي يشوك أصدقاءه بالعتب في كل حين.

أراك غضبت.

اتق الله والحب، أيها القلب، فقد صبرتُ على تجنِّيك عدداً من السنين، وما يجوز لك أن تثور على من ينطق بكلمة الحق مرة واحدة بعد أن صبر على كلمة الزُّور ألوف المرات.

كنت أودّ أن ألقاك بالهجر الجميل، أيها القلب، كما تعودت أن ألقاك في الليالي الخوالي، ولكني رأيتك تعدّ سكوتي علامة من علائم العجز أو دلالة من دلائل الشُّبهات، فاسمع صوتي يا جاحد، لتعرف أني أملك الثورة عليك حين أشاء.

ومن العجز أن تظن أن التفريط في حق الصديق يمرّ بلا عقاب، كما مرّت حسنات الصديق بلا ثواب.

تلك أيامٌ خَلَتْ. فأعدّ نفسك العاشق الذي صحا وأفق.

ما هذا؟ ما هذا؟

أراك تبكي وتنتحب أيها القلب.

أمن دعابة وجهتها إليك يتفجر حزنك وأساك؟

فكيف أكون وقد قضيت السنين الطوال في رأب ما يَصدَع الأصدقاء؟

كيف أكون ولي في كل يوم رفيق يغدر، وصديق يخون؟ أنا أثور عليك أيها القلب؟

وكيف وقد صفحت عن ذنوب قوم أسكنتهم في سوادك؟

أنا الأخير بين من تَعمَى عيونهم عن عيوب الصديق، أيها القلب.

وأنا الأخير بين من لا ترى عيونهم غير محاسن الصديق، أيها القلب.

فاغدر كيف شئت، وليغدروا كيف شاءوا، فأنا أحق من (الحجَر الأسود) بِحَمل الذنوب وسَتر العيوب.

ولن أنطق إلا يوم ينطق الحجر الأسود، فإن نطق فسأعتصم بالصمت.

أتراني أمنّ عليك، أيها القلب؟ أنت الذي تمنّ عليّ، لو شئتَ، وأنت تشاء لأن زمانك منّان، ولكني سأعفيك من رذيلة المنّ على الأصدقاء.

أنا أختلق المحاسن لأصدقائي، فكيف أبخل بالثناء عليك بما أنت له أهل؟ وكيف أجاريك في طمس محاسن الصديق وأنا أقوى منك؟

لا تنزعج من كلمة الحق، أيها القلب، فستسمع مني بعد ذلك ما يرضيك. أنا راضٍ عنك مع جهلك، لأن شعرنا يقول:

ولربما اعتصم الحليم بجاهل ... لا خير في يُمنَى بدون يسارِ

وعقلي محتاج إلى جهلك، أيها القلب ... أتذكر ما وقع في صباح اليوم؟

كنت في سيارة عمومية، وصعد زوجان إنجليزيان ومعهما طفل وطفلة، فوثب الطفل إلى صدري يسكن إليه، فنهرته أمه فغضب، وجذبه أبوه من يده فثار وجرى إلى باب السيارة لينزل وهي في جنون السرعة، وخاف والد الطفل فأشار إليه أن يتوجه حيث شاء، فأقبل الطفل على صدري من جديد، وأخذ يشير إلى أخته أن تصنع كما صنع، فقضيت المسافة وأنا أحتضن طفلين عزيزين في رقة الأزهار ونضارة الرياحين.

ونظر الأب والأم إلى هذا المشهد نظرة حنان وهما في عجب عُجاب، فقلت: لا تعجبا يا سيديَّ، فهذان الطفلان يعرفان بوحي الفِطرة أني رجل له قلب. . .

وشاءت ظروف عملي أن أنزل في منتصف الطريق فتشبث الطفل بي وهو دامع العين مكروب، فلثمت جبينه فاستراح، وأوى إلى صدر أبيه وهو جذلان.

وكان ذلك لأنك كنت في صحبتي، أيها القلب.

وأرادت إحدى الغوادر أن تنسى ما صنع قلمي في التشبيب بجمالها الفتَّان فدلت وتاهت، فأصليتها صدّاً بصد وإغضاءً بإغضاء، فهي منذ سبعة أشهر تترضَّاني برسائل تذيب الجلاميد وأنا ألقاها بصمت الأوثان، فهل كان يمكن ذلك إلا لأنك في صحبتي، أيها القلب؟

عندي ألوف من الشواهد على أنك المصدر الأصيل لما أملك من عنفوان القوة والعافية، فإن صح أنك أصل لما قد يساورني من ضعف فذلك دقة النصل في السيف الصقيل.

إليك رجعت يا قلبي، فارجع إليَّ كما رجعتُ إليك:

فاقد يُسعف الجريح أخاهُ ... ويواسي الغريب في الأحزانِ (كاتب من الكتاب)