مجلة الرسالة/العدد 336/الفروق السيكلوجية بين الأفراد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 336/الفروق السيكلوجية بين الأفراد

مجلة الرسالة - العدد 336
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1939



للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

كان كاتل السيكولوجي الأمريكي الشهير معاصراً لجولتن ومن تلاميذه وأتباع مذهبه وقد بحث باستيعاب موضوع الفروق السيكولوجية. درس كاتل في معمل جولتن بلندن، كما درس علم النفس التجريبي على يد فنت الألماني في معمل علم النفس الذي أسسه في ليبزج وتأثر به.

وتعتبر تجارب جولتن وكاتل أول مجهود علمي بذل في موضوع الفروق الفردية. ويحدثنا البرفسور ثورنديك تلميذ كاتل عن أستاذه فيقول (هذب أستاذي كاتل من طرق جولتن التي استعملها في قياس الفروق السيكلوجية بين الأفراد، وحاز اعتراف العلماء بما ابتكره من مقاييس القوى العقلية المختلفة. وبذلك جعل دراسة الفروق السيكلوجية فرعاً مستقلاً من فروع علم النفس. وكانت أبحاثه في الفروق العقلية ومقاييسها أول حلقة من سلسلة حلقات البحوث التي توالت بعد ذلك في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر. وبذلك وضع كاتل مقدمة موضوع السيكلوجية الفردية ويعزى إلى كاتل أنه أول من وضع اصطلاح (المقاييس العقلية) وذلك في سنة 1890 حينما طبع ملخصاً لتجارب مقاييس الذكاء التي أجراها في معمله بجامعة بنسلفانيا

وكانت تجارب كاتل التي أجراها لمعرفة الفروق السيكلوجية منصرفة لقياس الذاكرة، والمخيلة، وحدة البصر والسمع، ومقارنة الألوان والمفاضلة بينها، والدقة في إدراك الأصوات والأوزان، والإدراك الزمني، ودقة إحساس الألم، وسرعة الإدراك الذهني، وسرعة الحركة ودقتها وتكييفها، وزمن الرجع أو رد الفعل

وأهم ما يوجه من انتقاد إلى هذه التجارب التي أجراها كاتل أنها أولاً: إنما تقيس فقط العمليات العقلية البسيطة كالذاكرة مثلاً، أو المخيلة، أو قوة الإدراك. وثانياً: إن الطرق الإحصائية التي استخدمت مع هذه التجارب لم تكن مضبوطة ومطردة بحيث تعطى نتائجها حكماً صحيحاً على ذكاء الأفراد. وإذا فلا يمكن الاعتماد عليها في معرفة الفروق العقلية

أثار كاتل باستخدامه زمن الرجع ضمن مقاييس الذكاء اهتمام معاصريه ومن تبعه من العلماء حتى أصبح زمن الرجع مقياساً لقدرة الفرد على التمييز والاختيار وسرعته فيهما.

وتستعمل لذلك آلة كهربائية خاصة يتصل بها مسجل الزمن ويجلس المختَبر أمام هذه الآلة، ويطلب إليه المختبِر أن يضغط على زر خاص في الآلة إذا رأى علامة خاصة كعلامة أو علامة مثلاً. ويثبت (مسجل الزمن) الفرق بين ظهور هذه العلامة وبين ضغط الزر، أي الزمن الذي استغرقه الفرد من حين رؤية العلامة إلى أن يحدث رد فعل منه (أو رجع) لهذه الرؤية بضغط الزر. ومثل هذه التجربة تجري في قياس زمن الرجع السمعي أو اللمسي، أي الذي تكون فيه العلامة شيئاً يسمع أو يلمس. وقد تكون التجربة أكثر تعقيداً فيطلب من المختبَر مثلاً أن يضغط الزر (1) إذا كانت العلامة المعروضة والزر (ب) إذا كانت العلامة وبذلك يكون على المختبَر أن يميز أولاً العلامة وأن يختار ثانياً الزر المناسب لها.

وبالرغم من شيوع تجارب زمن الرجع وتنوعها وتسجيل نتائجها لم يوجد بينها وبين الذكاء من التلازم الأطرادي إلا القليل بمعنى أنه لا يلزم أن يكون الذكاء أكثر كلما كان زمن الرجع أقصر. والواقع أننا لا نجد الآن بين مقاييس الذكاء الحالية مقاييس زمن الرجع التي استخدمها كاتل.

ويعود كاتل فيعترف بأن مقاييس زمن الرجع، ومقاييس الإدراك الحسي وغيره من الخواص الفردية ما قصد بها في الأصل قياس فروق الذكاء بين الأفراد، وإنما استخدمها لأنها ضمن موضوع علم (طبائع البشر) الذي كان معنياً بدراسته.

وعلى أية حال فقد كان لبحوث كاتل في الفروق الفردية أثر واضح في اتجاه التفكير العلمي. ففي سنة 1895 عينت (الجمعية السيكلوجية الأمريكية) لجنة لتعمل على إيجاد الصلات والتعاون بين معامل علم النفس الأمريكية لكي تجمع المعلومات الممكنة عن الصفات العقلية والجسمية المختلفة للأفراد، وتدرسها درساً علمياً إحصائياً. وكان كاتل عضواً في هذه اللجنة. وكذلك عنيت معاهد التعليم بمعرفة الفرق السيكلوجية بين الطلبة وقياسها ففي سنة 1899 أجرت جامعة شيكاغو تجارب لقياس ذكاء طلبتها وميولهم الخلقية لم تكن دراسة الفروق السيكلوجية بين الأفراد - بطبيعة الحال - قاصرة على إنجلترا وأمريكا، فإنا نجد في فرنسا عدة محاولات لمعرفة أثر كل من البيئة والوراثة في الفرد، كتلك المحاولات التي قام بها جولتن في إنجلترا، فقد ظهر عدد من الكتب حول هذا الموضوع منها كتاب (تاريخ العلم والعلماء خلال القرنين الماضيين) درس فيه المؤلف حياة كل عالم وأسرته وبيئته والعوامل التي أثرت في تكوينه. وكتاب (العلاقة بين الوراثة وانتخاب الأصلح من البشر)، وكتاب (أصل عظماء الرجال، ورجالُ الأدب الفرنسي المعاصرون)

عالج كاتل أيضاً ما عالج من بحوث - أثر البيئة والوراثة في إيجاد الفروق بين الأفراد. ففي سنة 1906 كتب في مجلة (العلوم) موضوعاً تحت عنوان (بحث إحصائي في حياة رجال العلم الأمريكيين) ذكر فيه أماكن ميلاد ألف من العلماء البارزين وأماكن إقامتهم وعوامل الوراثة في حياتهم وعوامل البيئة وإنتاجهم.

وقد أثارت النتائج التي وصل إليها عجب القراء. فقد وجد إن عدد العلماء في ولاية ماساشوستس 108. 8 في كل مليون من السكان، بينما هم 86. 9 في كل مليون في ولاية كونيكتيكوت، و 1. 4 في كل مليون في ولاية لويزيانا، و 1. 3 في ولاية ميسيسبي واستنتج من هذا الإحصاء (أن هذا التوزيع النسبي غير المنتظم لرجال العلم بين الولايات يدل دلالة قوية على أن الاستعداد العلمي ليس وراثياً كما قال جولتن وبيرسُنْ، وليس من المعقول أن ثمة فروقاً وراثية كبيرة بين الأسرات في الولايات المختلفة نتيجتها هذا الفرق النسبي الكبير بين عدد رجال العلم الذي قد يبلغ في ولاية مائة مرة عددهم في ولاية أخرى. صحيح قد يكون لجنس الزنوج أثر وراثي في ذلك، ولكن الإحصاء لا يثبت ذلك ويظهر أن العوامل الأساسية في المواهب العلمية والإنتاج الفكري هي الثروة، وازدحام السكان، الفرص الاجتماعية، والمؤسسات العلمية، والتقاليد، والمثل العليا للجماعات، وقد يمكن إرجاع كل هذه العوامل في النهاية إلى الوراثة الجنسية، ولكن هذا لا يمنعنا من القول بأننا إذا أخذنا أي جنس فإنه من الممكن بتسليط العوامل البيئية عليه أن تزيد في عدد ذوي المواهب العلمية، كما نشاء، وإن كان هذا ليس معناه أننا نستطيع تحسين هذه المواهب. إن الحقيقة المشاهدة هي أنه لا يوجد فرق كبير بين مقدرة العالم في هذه الولاية، ومقدرة العالم في الولاية الأخرى. ومعنى هذا أن الإنتاج العلمي هو أثر من آثار البيئة لا الوراثة). ثم يقول في مكان آخر (والرأي عندي أن أنواع المواهب والخلق إنما هي وراثية، أما الاتجاهات التي تأخذها هذه المواهب، فإنها خاضعة لتأثير البيئة) وبالمقارنة بين مذهب كاتل ومذهب جولتن وبيرسن نجد أن الأول يرى أن الظروف والبيئة لهما أهمية كبرى في الإنتاج العلمي وأن عامل الوراثة فقط لا يكفي لتعليل النبوغ العلمي. نعم يعترف كاتل بالوراثة وأنها البذرة الأولى التي تحمل معها خواص الفرد، ولكنه يؤكد أن الفروق الفردية التي تظهر في الإنتاج والابتكار والخلق إنما هي من صنع البيئة

وفي سنة 1915 نشر كاتل بحثاً جديداً عنوانه: (أسرات العلماء الأمريكيين)، وأستخلص في بحثه هذا أن 43 ? من آباء هؤلاء العلماء كانوا من الموظفين وذوي الحرف غير اليدوية وأن 35. 7 ? من التجار والصناع، وأن 21. 2 من الزراع. ويعلق كاتل على هذا الإحصاء فيقول: لو أن ظروف الحياة الاجتماعية، والفرص التربوية خاصة، كانت متشابهة بين هذه الطبقات الثلاث لكان توزيع النسبة المئوية لرجال العلم متعادلاً، ولما وجد ذلك الفرق بين رجال طبقة وأخرى. ولا يمكن أن تكون الوراثة هي التي أوجدت هذا التوزيع، لأن معظم سكان القارة الأمريكية منذ كانوا منذ قرنين من مستوى واحد تقريباً جسمياً وعقلياً. ويؤيد رأي كاتل هذا إحصاء آخر عمل سنة 1932 ظهر فيه أن أقل الولايات علماء أكثرها تأخراً في التعليم.

وقد اقتفى أثر كاتل غيره من علماء النفس، فاستخدموا مقاييسه وأخرى شبيهة بها في معرفة الفروق السيكلوجية للأفراد ومعظمها لقياس الإدراك وسرعة الحركة والقدرة على تكييفها ومن هؤلاء العلماء جاسترو الذي انتهز فرصة معرض شيكاغو العالمي الذي أقيم سنة 1893 فأستأجر (كشكا) وجلس فيه يجري بعض الاختبارات على من يقدم إليه نفسه من زوار المعرض. وكذلك أجرى جلبرت بعض الاختبارات على بعض تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات. فقاس الطول والوزن والقوة الرئوية ودقة الإحساس وزمن الرجع والذاكرة والتأثر بالإيحاء؛ وقارن نتيجة هذا كله بآراء المدرسين. ونشر في ذلك بحثين الأول سنة 1894 بعنوان (بحوث في النمو العقلي والجسمي لأطفال المدارس) والثاني سنة 1897 بعنوان: (بحوث سيكلوجية في أطفال المدارس وطلبة الجامعات)

(بخت الرضا) السودان

عبد العزيز عبد المجيد