مجلة الرسالة/العدد 335/الفروق السيكلوجية بين الأفراد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 335/الفروق السيكلوجية بين الأفراد

مجلة الرسالة - العدد 335
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1939



للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

ذكرت في المقالين السابقين آراء بعض الفلاسفة والمربين ومعلمي البيان في الفروق السيكلوجية. وأشرت إلى أنهم طبقوا نظرية الفروة السيكلوجية في الحياة العملية. فقد بنى أفلاطون نظام التربية في المدينة الفاضلة على هذه النظرية، كما وجه فيتو رينو دافلتري تلاميذه إلى الدراسات التي يصلحون لها بطبعهم، وأوصى روسو أن تترك لأميل حرية اختياره العمل الذي يتفق وميوله الفطرية.

غير أن هؤلاء الفلاسفة والمربين قد استنبطوا آراءهم استنباطاً من الملاحظة العامة لتصرفات الأفراد وسلوكهم، فلم تكن إذاً هذه الآراء علمية مبنية على التجربة والبحث والإستقرائي، وذلك طبيعي لأن علم النفس ما أصبح علماً مستقلاً بالمعنى العلمي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأعني بذلك أنه اتبع في دراسة موضوعاته التجربة والإحصاء والطريقة الخطوات الأربع:

1 - ملاحظة الظواهر المختلفة للنوع الواحد في موضوع البحث

2 - جمع المتشابه من هذه الظواهر.

3 - اقتراح بعض الفروض لشرح هذه الظواهر وتعليلها

4 - إجراء بعض التجارب لإثبات صحة الفرض أو الفروض المقترحة.

ولم يعتن علماء النفس بموضوع الفروق السيكلوجية إلا في الربع الأخير من القرن الماضي. على أن دراسة الاختلافات البشرية بين الأفراد دراسة منظمة، وقياس هذه الاختلافات، وتحديد آثارهم لم تنشط إلا في القرن العشرين.

ويعتبر فرانسيس جولتن أول من بحث في موضوع الفروق الفردية بطريقة منظمة مبنية على الإحصاء. ومن الحق أن نذكر أن دارون هو الذي مهد السبيل له - ولغيره ممن عنوا بموضوع الفروق السيكلوجية الفردية - بنظرياته البيولوجية كنظرية النشوء والارتقاء، ونظرية الوراثة في النبات والحيوان. وقد عاصر جولتن دارون وصدق بنظرياته. وكان دارون وراثي المذهب، وفي هذا يقول: (أن التربية أو البيئة لا تؤثر إلا قليلاً في عقل الأفراد ومواهبهم، وأغلب صفات الأفراد وخواصهم ولدت معهم) أعتمد جولتن على نظريات دارون في بحوثه وبخاصة في علم إصلاح النسل البشري الذي لم يسبق جولتن أحد إلى الكتابة فيه. فهو أول من وضعه. ويعرف هذا العلم (بأنه دراسة العوامل الاجتماعية والبيئية التي يمكن ضبطها، والتي تؤثر بالإيجاب أو السلب في تحسين الصفات الجسمية أو العقلية للأجيال البشرية المقبلة) وتشمل هذه الدراسة دراسة الفروق السيكلوجية الموروثة، وأثر البيئة في هذه الفروق. ويمكن إجمال رأي جولتن في أسباب هذه الفروق في عبارته (لقد أصبح من المؤكد أن الإنسان إنما هو إنسان نتيجة لمؤثرين: أولاً لما به من الصفات الأبوية والجنسية الموروثة، وثانياً لما تحدثه فيه البيئة التي يعيش فيها)

وقد وقف جولتن حياته وجهوده على دراسة الفروق الفردية بين أشخاص بذواتهم، وأسرات بذاتها، وهو يقول في مقدمة كتابه المسمى (بحوث في القوة البشرية) ما يأتي:

(كانت غايتي فيما قمت به من بحوث أن أدرس القوى الوراثية المختلفة لأفراد مختلفين، وكذلك أدرس الخصائص المختلفة لأسرات مختلفات وشعوب مختلفة، وأن أعرف إلى أي حد يمكن أن نعوض عن النقص الوراثي بعناصر تربيوية، وقد فكرت في أن من الواجب أن نقوم بهذا التعويض بقدر ما تسمح جهودنا وظروفنا. وبهذه الطريقة يمكننا أن نعجل إصلاح الجنس البشري وتطوره حتى لا يقاسي من المتاعب ما يقاسي لو ترك وشأنه يسير في تطوره الطبيعي) وكان جولتن قد نشر سنة 1869 كتابه (النبوغ الوراثي) وبه كان أول عالم حاول دراسة أثر الوراثة في نبوغ الأفراد دراسة منظمة، وقد اتخذ في كتابه هذا منهجين علميين للبحث: أحدهما هو دراسة تاريخ الأسرة

طريق التلازم درس في كتابه هذا بعناية حياة أفراد 977 أسرة اشتهرت كل واحد منها بوجود نابغة فيها في ناحية: في الشعر أو الكتابة أو السياسة أو الخطابة أو العلوم أو الفلسفة الخ، كما درس أيضاً نوع المهن التي أحترفها كل واحد من هؤلاء الأفراد، وطبيعة هذه المهن، ومقدار إنتاج الفرد في مهنته، ثم عالج ما وصل إليه من معلومات بطريقة إحصائية لا حاجة لذكرها هنا. ولكنه استخلص من هذه الدراسات أن إمكانية وراثة النبوغ في الأسرة التي بها نابغة تبلغ 134 مثلاً لإمكانية وراثة النبوغ في أسرة عادية. ومن هذه النتيجة يرى أن المواهب العقلية عند الأفراد موروثة، وأن النبوغ الذي نجده بين عدد كبير من أفراد بعض الأسرات لا يمكن أن يعزى إلى التربية والبيئة، بل لا بد أن يكون نتيجة الوراثة. ولا شك أن القارئ يلاحظ مما سقناه من جولتن أنه من الأنصار المتعصبين لمذهب الوراثة، وأنه ينسب إليها كل الفروق السيكلوجية بين الأفراد. ومما يؤثر عنه في كتابه (النبوغ الوراثي) قوله: (إن الأفراد الذين ميزوا أنفسهم في الحياة الاجتماعية لا يمكن أن يكونوا قد وصلوا إلى مراكزهم الممتازة إلا بالمواهب الطبيعية)

وليست قيمة أبحاث جولتن محصورة في النتائج التي وصل إليها، بل إن الطريقة العلمية التي أتبعها في أبحاثه تعتبر بنت أفكاره، فقد أستخدم الإحصاء والتحليل العلمي في طرق بحثه. وكانت نتائجه العلمية مبنية دائماً على عمليات رياضية ومقاييس حسابية دقيقة. وقد اقتدى به في طرقه العلمية هذه خلفه الأستاذ كارل بيرسن رئيس معمل جولتن بلندن الآن، والأستاذ تشارلس سبيرمان السيكلوجي الشهير.

كان لجولتن أثر محسوس في إيقاظ الرغبة في بحث الفروق السيكلوجية بين الأفراد، كما كان ذا نفوذ علمي كبير في توجيه علم النفس التجريبي ومقاييس الذكاء. وذلك بواسطة الاختبارات التي أبتكرها لقياس قوة الخيال ودقة الإدراك الحسي. أبتكر جولتن مقياساً به نعرف دقة تمييز الأفراد للأثقال المختلفة اختلافاً بسيطاً، كما أبتكر الصفارة المعروفة (بصفارة جولتن) لقياس قدرة الأفراد المختلفة على سماع النغم العالي وتمييزه ووضع عدداً من الاختبارات لقياس قوة الشم والذوق واللمس وغيرها من الحواس.

وكانت هذه المحاولات من جانبه لمعرفة الفروق الحسية بين الأفراد ترمي إلى معرفة ما إذا كانت هناك علاقة تلازمية بين الذكاء وبين قوة الإدراك الحسي ودقته في نفس الفرد. ويؤيد ما نقول أنه كان دائماً يختار للبحث والقياس أفراداً بينهم تفاوت كثير في الذكاء. كان يختار عبقرياً وضعيف العقل ثم يجري عليهما تجارب في الإدراك الحسي ليعرف: هل هناك تلازم بين قوة الإدراك الحسي ودقته في الفرد وبين ذكائه أو غبائه.

غير أنه لسوء الحظ وبالرغم من مجهوده العظيم ومحاولاته الكثيرة لم يجد تلازماً يذكر بين ذكاء الفرد وقوة إدراكه الحسي. وبالرغم من هذا نجد أن بحوثه وطرقه العلمية كان لهم أثر عظيم في كل ما أجرى من تجارب سيكلوجية حتى نهاية القرن التاسع عشر حين ظهرت مقاييس الذكاء التي وضعها السيكلوجي الفرنسي الشهير ألفريد بينيه يقسم جولتن الأفراد إلى أنواع وفقاً لقوة خيالهم الحسي. فعنده النوع الإبصاري وهو الذي يغلب عليه الخيال البصري، والنوع السمعي وهو الذي يغلب عنده الخيال السمعي، والنوع الحركي وهو الذي يغلب عنده الخيال الحركي الخ. فالنوع الإبصاري مثلاً يفكر باستحضار الأشياء المرئية، بينما السمعي يستحضر الصور الصوتية، على حين أن الشمي يستحضر الصور الشمية الخ، ولكي يعرف أن فرداً يتبع للنوع الإبصاري أو السمعي أو الشمي مثلاً كان يجري عليه تجربة كالآتية: -

تصور أنك جالس في الصباح على المائدة لتناول طعام الإفطار. تخيل بدقة المائدة التي جالس عليها. هل الصورة الخيالية المرئية واضحة أم غامضة؟ هل ألوان الأطباق والفناجين والأكواب والخبز واضحة أو غامضة؟ هل تستطيع أن ترى بمخيلتك جانبي الكرة في وقت واحد؟ هل تستطيع أن تتخيل بوضوح تقاطيع الوجه لأقرب قريب لك (زوج أو أب أو أم الخ)، هل تسمع بمخيلتك صوت السيارة تمر تحت نافذة منزلك؟ هل يمكنك أن تتخيل حركة الفم والأسنان واللسان حينما تنطق بكلمة (عجب) أو كلمة (وطن)؟ هل يمكنك أن تسمع بمخيلتك سقسقة العصافير فوق الشجرة؟ هل تستطيع أن تشم بمخيلتك رائحة البطيخ أو القهوة أو البرتقال؟ هل تستطيع أن تتخيل طعم الشكولاته أو الليمون أو الكفتة؟

وهكذا وضع جولتن سلسلة من الأسئلة في أنواع الخيال الحسي المختلف، وقسم الإفراد إلى الأنواع السابقة كما قسم النوع إلى درجات تختلف من (قوي جداً) إلى (ضعيف جداً) باختلاف قوة الفرد على التخيل.

(بخت الرضا)

عبد العزيز عبد المجيد